تاريخ النشر2010 24 September ساعة 11:01
رقم : 26510

باحث مصرفي شرعي يدعو إلى التفريق بين وظيفة الفتوى ومهنة المراجعة الشرعية

كثير من الخبراء يطالبون بالفصل بين الهيئات الشرعية فيما يتعلق بالفتوى والرقابة الشرعية , تأكد على وجود أوجه شبه بين أعمال الهيئات الشرعية وأهدافها وأعمال المحاسبة والمراجعة
فتح الرحمن يوسف
فتح الرحمن يوسف

وكالة أنباء التقریب (تنا ) 
كشف باحث مصرفي شرعي في بحث جديد عن أن المؤسسات المالية الإسلامية التي نشأت منذ ثلاثة عقود تقريبا، ظلت تعمل حتى وقت قريب بدافع الالتزام الديني والأخلاقي النابعين من القناعة الشخصية لمؤسسيها، الذين ألزموا أنفسهم بالعمل بما يقتضيه العمل وفق الشريعة الإسلامية في المجال المصرفي.
ويأتي عمل البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية بدافع تقديم منتجات مالية تتوافق مع متطلبات شرائح كبيرة من المتعاملين مع القطاع المصرفي، باعتبار أن هذا يعد من أقوى أنواع الالتزام بالمقارنة بما يفرض من خارج المؤسسة عن طريق المعايير والضوابط والمؤسسات الرقابية والنظامية.
وفي هذا المنحى وجد الباحث الشرعي المصرفي، الدكتور مستعين عبد الحميد، أن المؤسسات المالية الإسلامية الأولى التي نشأت على هذا الطراز سدت ثغرة كبيرة، موضحا أنها كانت في تلك المرحلة الاستثنائية بمثابة نماذج أبرزت تميز نظم الإسلام الاقتصادية والمالية وأصالتها، وأكدت حقها في الوجود والقبولية.
وبين الدكتور مستعين في دراسة بحثية تحت عنوان «التفريق بين وظيفة الفتوى ومهنة المراجعة الشرعية»، أجراها مؤخرا، أن المؤسسات المالية الإسلامية أدت مهمتها وحققت أهدافها المرحلية على درجة كبيرة من النجاح، ولكن مع مرور الوقت ونجاح التجربة من الناحية المالية والتجارية، ومع ازدياد أعدادها وارتفاع عائداتها ورواج المساهمات الشعبية في الأعمال التجارية والمصرفية عن طريقها، وإظهارها للمفاهيم الاقتصادية الإسلامية، وبتأسيس مؤسسات مالية أخرى على سبيل المنافسة لها أو الاقتداء بها، ومع تكاثر هذه الأخيرة التي ليست على الدرجة نفسها من الالتزام - والحديث لمستعين - انتهت بذلك المرحلة الاستثنائية التي تحكمها ظروف النشأة الباكرة الأولى، مرحلة الدفع والالتزام الذاتي. مضيفا أنه من بعدها، جاءت مرحلة الثبات والاستقرار التي ينبغي أن تحكمها قواعد ومعايير أخرى تختلف تماما عن معايير وقواعد النشأة التي اعتمدت على التجربة والخطأ على الرغم من الحرص، ومن ثم يرجى أن تسمح المعايير الجديدة بتقويم التجربة ونقدها موضوعيا، والنظر إليها دون حساسية باعتبارها تجربة بشرية قابلة للخطأ والصواب، ومن ثم إثراء البحث العلمي حولها بعيدا عن النظرة التي تحاول استنزال القدسية عليها.
وبحسب مستعين، فإنه من هنا تأتي أهمية تطوير أسس ومعايير التدقيق والرقابة الشرعية الداخلية والخارجية في المرحلة الحالية التي تمر بها المؤسسات المالية الإسلامية، مبينا أن الصورة العامة في هذا المجال ليست سوداوية تماما، مشيرا إلى أن هناك عددا من المؤسسات التنظيمية الناشئة على المستوى الإقليمي نذرت نفسها للاهتمام بوضع المعايير التي تنظم عمل المؤسسات المالية الإسلامية.
ومثل الباحث لذلك بهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين، ومجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا، والوكالة الإسلامية الدولية للتصنيف وغيرها، مستدركا أنه على الرغم من التقدم النسبي الذي حققته هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بدولة البحرين في تطوير المعايير الشرعية لهذه المؤسسات، فإنه لا تزال الغالبية العظمى من هذه المؤسسات المالية، وهي منشئة ومكونة للهيئة، لا تقوم حتى الآن للأسف الشديد باعتماد تطبيق المعايير الصادرة عن الهيئة.
وإذا كانت أزمة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الميلادي المنصرم وأمثالها، وما تمخض عنها، أدت إلى ظهور الحاجة إلى رقابة الدولة على الشركات حتى لا يساء استخدامها، ولفتت النظر إلى أهمية الرقابة الخارجية وضرورة استقلالها وإيجاد واعتماد المعايير المنظمة لها، فإن مستعين يرى أنه لا حاجة الآن إلى أزمة كبيرة ولا صغيرة حتى يدرك أهمية تطوير مفاهيم ومعايير مهنة الرقابة والمراجعة الشرعية الداخلية والخارجية، وذلك مثل أهمية الفصل بين الوظائف المتعارضة، كالفصل بين وظيفة الفتوى التي هي بالضرورة مهمة سابقة للعمل، ومهنة المراجعة الشرعية التي هي بالضرورة مهمة لاحقة للعمل والتنفيذ.
وعن أوجه الشبه والاختلاف بين مهنة التدقيق والرقابة الشرعية ومهنة التدقيق ومراجعة الحسابات، أو بين الرقابة والمراجعة الشرعية والرقابة والمراجعة المالية، فإن الباحث يعتقد بوجود أوجه شبه عديدة بين أهداف وأعمال الهيئات الشرعية من جهة، وأهداف وأعمال المحاسبة والمراجعة (تدقيق الحسابات) من جهة أخرى، يعتقد مستعين أنه أصبح من الضروري شرعيا وفنيا التمييز الدقيق بين المهمة الداخلية للهيئة الشرعية والمهمة الخارجية لها، فالمهمة الداخلية في رأيه هي مساعدة إدارة المؤسسة المالية ومالكيها على الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وهي مهمة في اعتقاده تشبه عمل المحاسب أو المدقق الداخلي للمؤسسة.
وجوهر المهمة الخارجية، بحسب مستعين، هو الشهادة للجمهور وعموم المتعاملين مع المؤسسة بمدى التزام المؤسسة بالفتوى والمعايير والأحكام الشرعية، وهي وظيفة في رأيه ذات شبه بمهمة ووظيفة مراجع الحسابات الخارجي، مبينا أن الهيئات الشرعية والمجامع الفقهية ومراكز البحوث استجابت لتحدي المهمة الداخلية بنجاح كبير.
ويرى مستعين، أن الهيئات الشرعية مؤهلة مباشرة لهذا العمل الذي هو من صلب مهارات الفقهاء، مستدركا أن المهمة الخارجية تتطلب مهارات تدرب عليها وأتقنها المراجعون (المراجعون والمحاسبون القانونيون) وليس الفقهاء، مع ضرورة سد هذا العجز، باعتبار أنها مشكلة واجهت الكثير من الهيئات الشرعية عند بداية عملها قبل عشرات السنين، عندما جرت على تسمية نفسها بهيئات الرقابة الشرعية، ثم اجتمع بعضها وبحث في مدى ملائمة اسم هيئة الرقابة الشرعية لوظائفها الحقيقية التي تقوم بها، ومن ثم رأت هذه الهيئات أن هذه التسمية قاصرة عن الدلالة على ما تقوم به، وهو فقط إبداء الرأي الشرعي وإرساله إلى إدارة المؤسسة المالية.
وبطبيعة الأمر لا تدري الهيئة الشرعية بعد ذلك، بحسب مستعين، مآل الفتوى التي أصدرتها، فالرقابة أو المراجعة، في رأيه، عمل لاحق لإبداء الرأي الشرعي، ولاحق كذلك لتطبيقه، لذا قررت عدم دخول قيد الرقابة في الاسم، بعدها جرت بعض الهيئات على تسمية نفسها بالهيئة الشرعية وليس هيئة الرقابة الشرعية، ومن ثم طالبت المؤسسات المالية التي تعمل معها بإيجاد قنوات تقوم بدور المراجعة الشرعية.
ولا يرى بأسا في أن تكون تابعة لإدارة المؤسسة المالية على ألا يقل المستوى الإداري لمن يشغلها عن مستوى إدارة المراجعة الداخلية، وهو ما سارت عليه واعتمدته معايير هيئة المحاسبة والمراجعة في البحرين.
وأشار الباحث إلى أن مناقشة هذه المواضيع وتجليتها أمر في غاية الأهمية، فالأمر في رأيه، يتطلب وضع المعايير والفتاوى الصحيحة التي تحكم العمل من قبل الهيئات الشرعية، وإن كان من الأفضل أن تضع المعايير جهة أخرى غير الهيئة الشرعية حتى لا تكون الهيئة أو الجهة التي تضع المعايير هي من يقوم بتطبيقها، فصلا بين الوظائف. وكذلك الرقابة على تطبيق المؤسسات لتلك المعايير والفتاوى. ولا بد أن يوجه للأمرين كليهما قدر متناسب من الاهتمام والموارد.
وذكر مستعين أنه لا جدوى من تقوية حلقة المعايير والفتاوى - جانب الهيئات الشرعية أو غيرها - إذا لم تكن حلقة الرقابة بالقدر نفسه - جانب المراجعة والتدقيق الشرعي على الأعمال اللاحقة - ومن ثم لن يكون لأعمال المؤسسات المالية - التي تدعي الالتزام بالشريعة - أي مصداقية في التزامها بأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها إذا لم تعمل على سد الثغرات التي تمت الإشارة إليها، وكان هذا الالتزام قابلا للقياس.
وتأتي هذه الدراسة البحثية متزامنة مع ما يراه خبراء في المصرفية الإسلامية وأهمية مصداقية وإلزامية الرقابة الشرعية ومرجعيتها، إلى جانب أنه لا يوجد نص في النظام الأساسي وعقد تأسيس المؤسسات المالية يتعلق بالتزامها بالشريعة يجعل رأي الهيئة الشرعية (إن وجدت) مجرد رأي استشاري يسهل تجاوزه، ومن ثم لن يكون من حق الجهة الرقابية أو واجب إدارة المؤسسة وقف أو رفض أي تصرف أو تعامل يثبت أنه مخالف للشرع، أو إبطال أي أثر يترتب عليه.
وفي رأي خبراء، فإن وجود النص ضروري ولكنه غير كاف، بيد أنه في حال وجوده يجعل قرارات الهيئة الشرعية جزءا من نظام الشركة أو المؤسسة، وحيث إن قرارات الهيئة الشرعية جزء من النظام الأساسي للمؤسسة المالية فيكون المطلوب من مراجع الحسابات الخارجي أن يتأكد من مطابقة الإجراء الذي تتخذه المؤسسة لقرارات الهيئة الشرعية، مثل تأكده من مطابقة الإجراءات لأي جزء من نظام المؤسسة، وأن يصدر بذلك تقريرا ضمن تقرير الحسابات الختامية للمؤسسة.
وفي جانب الأصول الشرعية التي يجب أن يرد إليها الأمر في سبيل إصلاح الخلل في هيكل وبنية العمل الشرعي في المؤسسات المالية الإسلامية، يرى الباحث الدكتور مستعين أن الخلل في الهيكل الشرعي للصناعة المالية الإسلامية لا يمكن إصلاحه إلا برد الأمر إلى الأصول العامة التي تستمد منها هذه المؤسسات شرعيتها.
وقال مستعين إنه إذا كان العمل المصرفي الإسلامي جزءا من كل هو الاقتصاد الإسلامي الذي يستمد وجوده من الشريعة الإسلامية في مصدريها الأصليين: الكتاب والسنة، فإن الشريعة الإسلامية قدمت للبشرية في مصدريها الأصليين، الكتاب والسنة، عن طريق الإخبار، مساعدات فكرية قيمة في جميع مجالات العلوم، وزودت الإنسان بالكثير من المقولات التي تعمل على تبصيره بالواقع الذي يحيط به، لتمكينه من التعرف عليه والتحكم فيه.
وعلى الرغم من هذه الحقيقة المهمة نجد أكثر الدراسات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة تهتم فقط بجانب الأحكام والتشريعات التي نزل تفصيلها بالمدينة المنورة، بينما تتجاهل، للأسف، الجانب الإخباري الذي يوجد أكثره في القرآن الكريم الذي نزل بمكة، وترى أن الوظيفة العلمية للاقتصاد الإسلامي لا يأتي دورها إلا بعد تطبيق الإسلام في المجتمع تطبيقا كاملا ليكشف عن قوانين الاقتصاد الإسلامي. فالاقتصاد الإسلامي - وفق هذه النظرة - يتمثل في كونه عملية تغيير فقط للواقع لا عملية تفسير له.
وبين مستعين أن الاقتصاد الإسلامي كما هو عملية تغيير للواقع هو أيضا عملية تفسير لهذا الواقع، مبررا ذلك بأنه من لا يملك التفسير الصحيح للواقع وثوابته ومشكلاته قلما ينجح في التأثير على ذلك الواقع وتغييره.
كما أن البعض يرى أن الاقتصاد الإسلامي مهمته، مثل غيره من العلوم، تكمن في اكتشاف السنن والقوانين التي أودعها الخالق تبارك وتعالى منذ بدء الخليقة لتحكم وتضبط سير الحوادث والظواهر نحو الوجهة التي اقتضاها علمه وحكمته، ومن ثم فإن قصر وظيفة علم الاقتصاد الإسلامي على التجربة الواقعية لمجتمع مسلم مثالي منتظر قيامه حتى يتسنى للناس الكشف عن قوانينه الخاصة به، ربما كانت السبب في الانحراف والتخبط الكبيرين في مسيرة المعرفة الاقتصادية الإسلامية النظرية، مثلما هو الحال في مسيرة التطبيق العملي لها، متمثلة في المؤسسات المالية الإسلامية، وهذا في رأيه ما يعني ضرورة الحاجة إلى مرجعية ناجعة نتطلع إليها لتسعفنا في ترتيب أوضاع هذه المؤسسات .


الرياض: فتح الرحمن يوسف

المصدر : («الشرق الأوسط»)
https://taghribnews.com/vdcfxtd0.w6dvyaikiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز