تاريخ النشر2011 6 March ساعة 15:00
رقم : 41749

أربكان.. مهندس الإسلام السياسي في تركيا

لا شكّ أن أربكان هو أول من هيَّأ المجتمع التركي لقبول التيار الإسلامي في سدَّة الحكم بعد عقود من حكم العلمانيَّة
نجم الدين اربكان
نجم الدين اربكان
وكالة أنباء التقریب (تنا) :
نجم الدين أربكان .. مهندس الإسلام السياسي، الذي قفز بتركيا إلى مكانة رائدة بين دول العالم، المفكر والجاهد واجه بكل قوة قواعد العلمانيَّة الأتاتوركيَّة المتشددة التي حكمت بلاده منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي، إنه الوميض الذي اخترق جبال الثلج الأتاتوركيَّة، ونجح في أن يوجد شمسًا ما زالت تسطع حتى الآن بإنجابها شموعًا تولَّت الراية وعلى رأسها رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان والرئيس عبد الله جول.

اختار القدر موعدًا لافتًا لرحيل أربكان "٨٥ عامًا"، عشيّة الذكرى الـ ١٤ لـ "الانقلاب الأبيض" الذي نظَّمه الجيش ضدّه في ٢٨ فبراير ١٩٩٧، وكأن الله عزَّ وجل لم يردْ له أن يتذكَّر هذا التوقيت الأليم في ذلك اليوم، ولا الأيام والأشهر والسنوات التي تلته، والتي أوصلته إلى أن يكون محكومًا بسرقة أشهر أحزابه "الرفاة".

البداية
لا شكّ أن أربكان هو أول من هيَّأ المجتمع التركي لقبول التيار الإسلامي في سدَّة الحكم بعد عقود من حكم العلمانيَّة المتطرفة، منذ بدْء حياته السياسية الفعليَّة عام ١٩٦٩ بفوزه بمنصب نيابي عن مدينة قونية مستقلًّا، بعد انشقاقه عن حزب ديميريل، "العدالة".

ولم يكن مرَّ وقت طويل على عودته من ألمانيا، حين جمع كل قناعاته السياسيَّة الإسلاميَّة و"نظرياته" الاقتصاديَّة (التنموية التصنيعيَّة الليبراليَّة) في كتيّبه الشهير الذي نشره في ١٩٦٩ بعنوان "ميلي جوريش" (النظرة الوطنيَّة).

وسرعان ما تحوّل "ميلي جوريش" من عنوان كتيّب إلى اسم لأكبر جمعية مثّلت ولا تزال
أتراك أوروبا، إذ كانت تضمّ في ٢٠٠٥ نحو ٨٧ ألف عضو، ٥٠ ألفًا منهم في ألمانيا وحدها.

وأبرز ما يميِّز إسلامه أنه يجمع بين التحديث الاقتصادي والقيم الأخلاقيَّة والتقليدية الإسلامية المحافظة، حاول ترجمة "نظريته" بأول أحزابه عام ١٩٧٠، "النظام الوطني"، الذي لم يعشْ أكثر من عام واحد، إذ حُظر فهرب مؤسّسه من البلاد، ليعود في ١٩٧٢ ويؤسّس "السلامة الوطني" ففاجأ الجميع بنيل حزبه في انتخابات ١٩٧٣، ٨.١١ في المائة من الأصوات، مما أجبر "الشعب الجمهوري" على التحالف معه في ١٩٧٤، ونال أربكان منصب نائب لرئيس الحكومة (أجاويد) في حينها، وبعدها في عامي ١٩٧٥ و١٩٧٧ تكرر الأمر مع ديميريل.

ظلّ الرجل يصارع العسكر فيما يشبه معارك كرّ وفرّ وحظرًا مستمرًّا لأحزابه، إلى أن حانت نهايته السياسيَّة: الانقلاب الأبيض عليه الذي لم يشهد العالم له نظيرًا ربما، وهو ما تعكسه الأدبيات الغربية بوصفه "انقلاب ما بعد الحداثة"، ونهاية مأسوية بما أنّ نجمه أفل بالكامل رغم بقاء آخر أحزابه (السعادة) على قيد الحياة.

الرحلة
أربكان، الذي ظلَّ لسنوات أبرز رجل سياسي إسلامي في العالم، انتهى به الأمر إلى أن يكون زعيمًا لحزب أقلّ من صغير، هو "السعادة"، مع نائبٍ واحد في البرلمان من أصل ٥٥٠، فيما أسّس تلامذته حزب "العدالة والتنمية"، وهم يحكمون اليوم مع ٣٣٤ نائبًا.

وهو باختصار أكثر الساسة الإسلاميين جرأةً، وأكثرهم مباشَرة في تعاطيه مع إسلاميّته، ظلّ في سبعينيات القرن الماضي أبرز رجل تركي على الإطلاق، حاملًا اختراعاته في الهندسة الميكانيكيَّة التي حقَّقها في ألمانيا، إلى تركيا، مقبرة "اختراعاته" السياسيَّة، فتلك السياسة كانت بالنسبة إليه أصعب بكثير من الاختراعات العلميَّة.

في ألمانيا حصل على الدكتوراة في الهندسة الميكانيكية، وسجّل اسمه على براءة اختراع إحدى أشهر الدبابات الألمانيَّة في ١٩٦٥ "ليوبارد ١".

ولما عاد إلى بلاده أستاذًا جامعيًّا ورجلًا سياسيًّا في حزب سليمان ديميريل "العدالة"، قبل تأسيس
أحزابه الخمسة فيما بعد، أصرّ على أنّه للوصول إلى الأهداف السياسيَّة باب واحد يُطرَق: المجاهرة بالموقف مهما كان الثمن، إذ أنه لم يخشَ يومًا الحصار العلماني العسكري ضدَّه وضد التيارات الإسلاميَّة عمومًا.

جرأته
لدى المدافعين عن جرأة أربكان الإسلامي، وعن أحقِّيتِه بصفة الإسلامي التركي الأبرز على الإطلاق، الكثير من الأدلّة، وهو الذي أدخل أول امرأة محجَّبة إلى البرلمان التركي في ١٩٩٩، وهو ما يمنعه الدستور والقانون.

وكسرت مواقفه جميع الخطوط الحمراء لجمهورية مصطفى كمال: "إسرائيل عدوّة المسلمين"، "العلمانيَّة أداة لقمع الإسلام والمسلمين"، "الاتحاد الأوروبي نادٍ نصراني وقيمه نصرانيَّة مناقضة لقيم المسلمين" من هنا دعوته الشهيرة إلى إقامة اتحاد للدول الإسلاميَّة (بدل الاتحاد الأوروبي الذي كان يصفه بـ "الخرقة البالية")، ومجلس أمن إسلامي (بدل مجلس الأمن الدولي)، وعملة إسلاميَّة موحّدة (بدل الدولار واليورو)، وصندوق نقد إسلامي (بدل صندوق النقد الدولي) وإصراره على مشروع بناء مسجد كبير وسط ساحة "تقسيم"، رمز إسطنبول وعلمانيتها، وهي التي تحتضن جثمانه الآن، رغم أن مسقط رأسه هو في سينوب على البحر الأسود، وعدم زيارته أي دولة أوروبيَّة، خلال تولّيه منصب رئاسة الحكومة لستة أشهر (حيث كان أول رئيس حكومة إسلامي في تاريخ الجمهورية التركيَّة)، وحصر علاقاته الدوليَّة بدول إسلاميَّة زارها وعزّز علاقات تركيا بها، كإيران ومصر وماليزيا وليبيا.

وله مقولة شهيرة كانت بمثابة إلقاء حجر كبير في البركة الراكدة، وهي: "إن أمتنا هي أمَّة الإيمان والإسلام، ولقد حاول الماسونيون والشيوعيون بأعمالهم المتواصلة أن يُخربوا هذه الأمَّة ويفسدوها، ولقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيد، فالتوجيه والإعلام بأيديهم، والتجارة بأيديهم، والاقتصاد تحت سيطرتهم، وأمام هذا الطوفان فليس أمامنا إلا العمل معًا يدًا واحدة، وقلبًا واحدًا؛ حتى نستطيع أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولى، ونصل
تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريده مشرقًا".

وفي لقاء تليفزيوني سأل المذيع أربكان عن سرِّ تركه مجال نبوغه العلمي إلى السياسة، فرد قائلًا: لقد وفقني الله لخدمات كثيرة علميَّة قدمتها لبلادي وللعالم كله، ثم هداني إلى طريق أكثر خيرية بالعمل والجهاد السياسي لخدمة أمتي كلها؛ لأنه من الممكن أن يكون أي شخص أستاذًا في الجامعة بل ويحصل على جائزة نوبل؛ لكنه يعيش في ضنك وسفالة وقلة أخلاق، فماذا تنفع جوائزه؟ لذا يبقى الأكثر فائدة هو العمل والجهاد الحقيقي لخدمة الأمة والبلاد كلها.

إنجازاته
من إنجازاته الإسلاميَّة، تسجيل ارتفاع قياسي في عدد معاهد "إمام خطيب" الدينية في عهد مشاركة حزبه "السلامة الوطني" في الحكم، كان عدد هذه المعاهد، التي تُخرِّج الأئمة، ٧٢ في ١٩٧٢، فوصل إلى ٣٣٩ في ١٩٧٩، وذلك خلال فترة تولّي الرجل منصب نائب رئيس الحكومة في عهدي بولنت أجاويد وسليمان ديميريل، ولا يزال أتباع أربكان يتفاخرون حتى اليوم بأن زعيمهم عزّز من مكانة وزارة الشئون الدينيَّة ورفع موازنتها على نحو هائل، وأنه هو مَن أرسى الأرضيَّة التي تسمح لأردوغان ورفاقه حاليًا بالحكم بقوَّة في وجه العلمانيين والعسكر.

يكفي أتباع أربكان والحريصين على أحقيته بكونه "أبرز زعيم إسلامي"، التذكير بأن زعيمهم تحمّل أشرس حملة في تاريخ تركيا ضد التيارات الإسلاميَّة، حملة طالت كل شيء: "حظر حزبه، ومنعه من مزاولة العمل السياسي، وسجن قادته (بينهم أردوغان، رئيس بلدية إسطنبول في حينها)، ومنع الطالبات المحجبات من التعلُّم في الجامعات، وإغلاق الصحف الإسلاميَّة، والتشديد على مضامين خطب أئمة المساجد، كل ذلك إضافة إلى التضييق على المتخرجين من معاهد "إمام خطيب" من ناحية منعهم من تولّي وظائف حكوميَّة.

وأخيرًا.. لا يسعنا إلا أن نقول: ليت العالم العربي يفرز شخصيَّة فريدة كأربكان تقوده إلى حيث قاد تركيا الآن.
أسامة نبيل

https://taghribnews.com/vdcgyu9t.ak9qt4r,ra.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز