تاريخ النشر2010 30 November ساعة 13:55
رقم : 32656

عندما تكون الثقافة في خدمة الاستعمار

وكالة انباء التقريب(تنا)
عندما تكون الثقافة في خدمة الاستعمار
لم تكن الثقافة في يوم من الأيّام عاملا لتكريس الدموية والإستئصال و التحريض على الكراهية, فالثقافة في بعدها الحضاري عامل بناء وتكامل وإنفتاح على الآخر.
وقد يحدث أن تتباعد الرؤى الثقافية والفكرية بين المثقفين أنفسهم وهذا طبيعيّ ومنطقيّ, لكن لا يمكن أن تنزل الثقافة إلى مستوى الغلّ والكراهية و التعامل بمنطق الإستئصال والإقصاء.
و هذا الكلام ينطبق على ما يعرف بالليبيراليين الجدد الذين نصبّوا أنفسهم حكاما على الأمة العربية و الإسلامية و كل مكوناتها الثقافية وتركيباتها السياسية ومفرداته الحضارية, فمنهم من بات يدعو إلى إعدام هذه المجموعة ومنهم من بات يطالب بمحاكمة هذا التيّار, و منهم من يجهر صباحا مساءا بتكميم أفواه هذا الفريق أو ذاك, وقد نجح الليبراليون الجدد في إختطاف الثقافة من قاعدتها الحضارية الحوارية الإنفتاحية إلى الدائرة البوليسية الأمنية الضيقّة متجاوزين أهم مبدأ في الثقافة وهو ضرورة سماع الآخر و الإنفتاح عليه .. 
فماذا لو أتيح لهؤلاء أن يصلوا إلى الحكم ويسوسوا الأمة,لكانوا عندها قد نصبوا أعواد المشانق ولما إختلفوا قيد أنملة عن مكرسّي الإستبداد في الراهن العربي. 

ومصيبة المثيقفين العرب الذين نقلوا المفردات الثقافية الغربية و المدارس الفكرية الغربية كما هيّ أنهّم لم يكتفوا بتحريف هذه المفردات و إعطائها معاني إضافية لا تتحملها, بل زادوا عليها و أخرجوها عن سياقاتها بل عربوها في الإتجاه السلبي, فالليبيرالية الغربية لم تطالب بوأد الكنيسة و قتل القساوسة والتنكرّ للدين كما فعل الليبيراليون الجدد مع تيارات الإسلام السياسي, ومن يطالع الصحف الإنجليزية والفرنسية والإسبانية و الغربية بشكل عام لا يعثر على مقالة واحدة تطالب بإستئصال الوطنية والحركات الدينية و ضرورة الإرتماء في المحاور الإمبريالية على الصعيد السياسي والإقتصادي, فالليبيراليون الفرنسيون ما زالوا يعضون بالنواجذ على اللغة الفرنسية و يطالبون بعدم التنازل عنها أمام اللإنجليزية الزاحفة, و مازالوا يطالبون بصيانة مكونات الأمة الفرنسية بما في ذلك الكاثوليكية المسيحية, و الأمر عينه ينطبق على الليبيراليين الإنجليز و الإيطاليين. 

و يبدو أننا مصابون بداء تحريف الأشياء عن مواضعها, فالماركسية عندما عربّت فقدت كل محتواها و زايد اليساريون العرب على كارل ماركس نفسه و قولوه ما لم يقله, وكذلك الأمر بالنسبة لليبيرالية الغربية التي وعندما عربها أشباه المثيقفين قصوا من أطرافها و زادوها بعضا من العقد التاريخية والإيديولوجية و كثيرا من الإرتداد عن الموروث الحضاري لهذه الأمة ..
و بدل أن يستنفذ هؤلاء الجهد و الطاقة في محاولة إبتكار مدارس فكرية جديدة, في محاولة لإنقاذ العقل العربي من حالة العقم التي دخل فيها بعد وفاة أبي علي بن سينا, فقد راح هؤلاء يستوردون المدارس الفكرية الجاهزة, وهم بذلك لا فضل لهم لا في تأسيس هذا الفكر, ولا فضل لهم في ترجمته أيضا حيث ترجم مشوهّا و ناقصا, بل إتخذوا من هذه المدرسة وتلك وسيلة للتخفي وراءها لإطلاق صيحات لا تمتّ بصلة إلى الروح الجماعية لهذه الأمة. 

فهل من الحرية أن يطالب بعض المثيقفين بإعدام وملاحقة من يختلفون معهم في التوجهات الفكرية, أليس أساس الليبيرالية الحرية والسماع للآخر بل التضحية من أجل أن يقول الآخرون أراءهم بحرية مطلقة ..
ألم يكن من الأفضل أن يدعو بعض هؤلاء المثيقفين الذين يطالبون من عواصم غربية بضرورة إستعمار هذه الأمة تمهيدا لتحريرها في نظرهم, إلى فتح حوار ثقافي واسع بين كل المنتمين إلى الخارطة الثقافية والسياسية في العالم العربي, في محاولة لخلق معادلة خلاص يساهم في وضعها الجميع !
أليس دعوات بعض الليبيراليين الجدد إلى إستئصال تيارات بعينها من الواقع السياسي والثقافي و الإعلامي هي عينها الديكتاتورية والتسلط والإستبداد !
إذن أين الحرية التي يتبجحّ بها البعض ويجعلها عنوانا ومنطلقا لكتاباته ... 

إنّ واحدة من أهم أسباب ترديّ الوضع الثقافي في العالم العربي هو بروز ظاهرة أشباه المثيقفين الذين أتقنوا الثقافة الببغاوية ورددوا كل المفردات الثقافية والفكرية التي ولدت في مناخ فكري وثقافي مغاير جغرافيا و فكريا و سياسيا و إجتماعيا ..
والثقافة فعل إبداع وخلق وليست ترديد فكرة قالها داروين أو آدم سميث أو ديكارت أو فرويد وتعريب كل ذلك ذلك ونقلها إلى المسرح الثقافي العربي ..
ثمّ هذه الأفكار والمدارس التي وللأمانة لم تنقل كما هيّ إلى واقعنا العربي ماذا حققت لنا عربيا على الصعيد الثقافي, فأين مسرحنا, و رواياتنا و قصصنا و فننا التشكيلي ... 

أما كان الأولى بمثيقفينا أن ينطلقوا من روح هذه الأمة ليصيغوا منظومة ثقافية وفكرية من سنخ هذه الروح و عندها فقط يقع التكامل بين هذه الأمة التي أريد لها أن تجربّ كافة الطروحات والمشروع الفكري والثقافي ..
بل لقد وصل الأمر بدعاة مبدأ الحرية إلى أن يباركوا مصادرة هذه الحرية تمهيدا لبناء الحرية الموعودة, ألم يهللّ هؤلاء للغارة الأمريكية الكبرى على أفغانستان والعراق والتي حلّ فيها خراب ليس بعده خراب, ألم يكن بالإمكان أن نؤسسّ لنظرية التغيير من الداخل ليتسنى لنا صناعة الراهن والمستقبل على حدّ سواء .. 

أم أنّ الثقافة في عرف هؤلاء هي وظيفة سياسية تأتي بالتنسيق مع دوائر يهمها أن يضيّع العالم العربي بوصلته و هي المقدمة الضرورية لتحقيق الخطوات المقبلة ..
لقد تحول بعض الليبيراليين الجدد إلى مفتين حقيقيين يطالبون بإعدام هذا ومحاكمة ذاك, وإذا كان المفتي يستند في فتاويه إلى الشريعة الإسلامية – علما أنّ الكثير ممن نصبوا أنفسهم لمقام الفتيا تطاولوا ظلما على هذا المقام – فإلي أي شرعة يستند الليبراليون الجدد !
إذا قالوا سندنا الحرية, قلنا فعالكم و دعواتكم تجافي الحرية.
وإذا قالوا النموذج الغربي, قلنا أنّ حرية التدين مبدأ مقدس في الدساتير الغربية.
وإذا قالوا سندنا المرجعية الإسلامية, قلنا يستحيل ذلك فأنتم تطالبون بإستئصال الإسلام من الواقع العربي والإسلام !
فإذا لم يكونوا غربيين ولا مسلمين من حيث المرجعية الفكرية و الإبستمولوجية فماذا يكونون !
سؤال برسم الليبيراليين الجدد.
 
يحيى ابو زكريا
https://taghribnews.com/vdcd990s.yt0xk6242y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز