تاريخ النشر2017 22 November ساعة 00:06
رقم : 294813

الثورة الرابعة: كيف تعيد المعلوماتية تشكيل واقعنا الإنساني

تنا-بيروت
باتت الحياة الدائمة الاتصال تحدّد طبيعةَ نشاطاتنا اليومية، من تسوّق وعمل وتعلّم ورعاية صحية وترفيه، إلى حدّ أصبحنا معه في حاجة إلى فهم هويّتنا الإنسانية من جديد.
الثورة الرابعة: كيف تعيد المعلوماتية تشكيل واقعنا الإنساني
يمتطي الفيلسوف الإيطالي والمحاضِر في جامعة "أوكسفورد"، لوتـشيانو فلوريدي، في كتابه الفلسفيّ المعَـنوَن بـ"الثورة الرابعة"؛ صهوةَ مفهومِ "الغلاف المعلوماتيّ (إنفوسفير)" ومفهومِ "حياة الإنترنت (onlife)"، ليَعـبُر بهما – ميتافيزيقـيًّا – إلى واقع "الثورة الرابعة"، الذي تجلّى في العصر الحديث بفعل تكنولوجيا المعلومات، والذي يَعتبر فلوريدي أنه أعقبَ ثورات كوبرنيكوس وداروين وفرويد. فباتت "الحياة الدائمة الاتصال" تحدّد طبيعةَ نشاطاتنا اليومية، من تسوّق وعمل وتعلّم ورعاية صحية وترفيه، إلى حدّ أصبحنا معه في حاجة إلى فهم هويّتنا الإنسانية من جديد، وكيفيةِ انتساب بعضنا إلى بعض.
 
وعندما نفكر اليوم في التكنولوجيا بوجه عام، يتبادر إلى الذهن، على الفور، تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وواجهاتُها السهلة الاستخدام التي يألفها المستخدم، والمنتشرة في كل مكان. هذا أمر متوقع في مجتمعات التأريخ المفرط، حيث تصير تكنولوجيات المعلومات والاتصالات هي تكنولوجيات الرتبة الأولى والثانية والثالثة المميّزة لهذا المجتمع.
 
نحن نتفاعل بشكل متزايد مع العالم، ومع ما لدينا من تكنولوجيا، عن طريق تكنولوجيات المعلومات والاتصالات التي هي التكنولوجيات التي يمكنها، وتميل إلى التفاعل بعضها مع بعض، وبصورة غير مرئية.
 
الأمر المتوقع كذلك هو، كما في الماضي، أنّ التكنولوجيا السائدة في عصرنا لها تأثير مزدوج. من ناحية، عن طريق تشكيل وتوجيه تفاعلنا مع العالم، فإن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات من الرتبة الأولى والرتبة الثانية تدعونا إلى تفسير العالم باستخدام المصطلحات المألوفة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أي تفسيره معلوماتياً informationally. ومن ناحية أخرى، عن طريق خلق بيئات جديدة تماماً لنسكنها نحن بعد ذلك (تجربة خارج الدائرة، غير المرئية وظيفيًّا وفقًا للتصميم)، فإن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات من الرتبة الثالثة تدعونا إلى النظر إلى الطبيعة الأساسية لأجزاء متزايدة من عالمنا على أنها في الأصل معلوماتية.
 
إنّ تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تجعلنا نفكر في العالم معلوماتيًّا، وتجعل العالم الذي نعيش فيه تجربة معلوماتية. نتيجة هاتين النزعتين فإن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تقود ثقافتنا إلى وضع الإطار المفاهيميّ للواقع برمته، وحياتِنا داخلَه، باستخدام مصطلحات مألوفة في تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، أي معلوماتيًّا.
 
تدخِل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تعديلات على طبيعة الواقع ذاتها، ومن ثم على مفهومنا لها، عبر تحويله إلى إنفوسفير (غلاف معلوماتي). الإنفوسفير هو تعبير جديد ابتـدِع في السبعينيات؛ يستند إلى مصطلح (الغلاف الجويّ biosphere)، وهو مصطلح يشير إلى المنطقة المحدودة على كوكبنا التي تسمح بالحياة.
 
و"الإنفوسفير" مفهوم يتطوّر سريعًا؛ ويدلّ على البيئة المعلوماتية برمّتها التي تتألف من جميع الكيانات المعلوماتية، وخصائصها، وتفاعلاتها، وعملياتها، وعلاقاتها المتبادلة. إنها بيئة تضاهي، لكن تختلف عن، الفضاء السيبراني (الفضاء الإلكترونيّ cyberspace)، الذي لا يتجاوز كونه إحدى مناطقها الفرعية، إن جاز التعبير؛ إذ إن الإنفوسفير يشمل كذلك فضاءات المعلومات غير المتصلة offline، وتماثلية analogue.
 
كذلك؛ فإنّ "الإنفوسفير" هو مفهوم يمكن استخدامه كمرادف للواقع، حالما نفسّر الواقع معلوماتياً في هذه الحالة، الإيحاء هو أنّ ما هو حقيقي هو معلوماتي، وما هو معلوماتي هو حقيقي. إنّ هذا التكافؤ هو الذي يكمن داخله مصدر بعض التحوّلات الأكثر عمقًا، والتحديات التكنولوجية التي سوف نواجهها في المستقبل القريب.
 
الأسلوب الأكثر وضوحًا، الذي تستخدمه تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لتحويل العالم إلى إنفوسفير، هو الانتقال من النظام التماثلي analogue إلى النظام الرقمي digital، ومن ثم النموّ المتزايد للفضاءات المعلوماتية التي نقضي فيها مزيدًا ومزيدًا من أوقاتنا.
 
هذا التحوّل الجذريّ هو كذلك نتيجة للتقارب الجوهريّ بين الأدوات الرقمية digital tools والموارد الرقمية digital resources. في الوقت الحالي، تتماثل الطبيعة المتأصلة للأدوات (البرمجيات software والخوارزميات algorithms وقواعـد البيانات databases، وقنوات الاتصال communication channels، والبروتوكولات protocols... إلخ)، تمام التماثل مع الطبيعة المتأصلة لمواردها من البيانات الخام التي تعالَج، ومن ثَم هي متوافقة تماماً معها. وعلى سبيل المجاز، فهي تشبه، إلى حد ما، نقل المياه باستخدام مضخّات وأنابيب توصيل مصنوعة من الجليد: فمن الناحية الكيميائية، هذه كلها مياه (H2O)، ولكن إذا وجدت هذا موضع شك، فكّر، من منظور ماديّ، أنه من المستحيل التمييز بين البيانات والبرامج على الكرسي الصلب الخاص بحاسبك الشخصي، فكلها أرقام digits...
 
مثل هذا الاتساق الرقميّ بين البيانات والبرامج، هو أحد أهم أفكار "ألان تورينغ" وأكثرها تأثيرًا. في الإنفوسفير المأهول بكيانات وعناصر وسيطة (وكلاء)، جميعها متساوية معلوماتيًّا، فلا فرق فعليًّا بين المعالِجات processors والمعالَج processed؛ تصبح التفاعلات متساوية معلوماتيًّا. تصير جميع التفاعلات قابلة للتفسير على أنها مهام "قراءة read أو كتابة write" (أي، وصول access أو تعديل alter)، بالإضافة إلى المهمة المتبقية من العملية، وهي "تنفيذ execute". عندما تتحدّث "أليسْ" إلى "بوب"، فهذه عملية "كتابة"، واستماع "بوب" إليها هو عملية "قراءة"، أما إذا تبادلا القبلات، فهذه إحدى حالات عملية "تنفيذ". هذا المثال ليس رومانسيًّا بما يكفي، لكنه رغم ذلك دقيق!
 
هوية الذات.. بين لوك وبروست
 
من نحن؟ ومن سنصبح؟ ومن الذي يمكن أن نكونه عندما يتزايد ما نقضيه من وقتنا في الإنفوسفير؟... نحن رأيْـنا أنّ عملية تعريفك وإعادة تعريفك لتكون أنت، هي عملية بحاجة إلى الفهم بطريقة معلوماتية، من خلال تحليل دقيق للواجهة الـبَينية المطلوبة لتقديم إجابة عقلانية تناسب غرضًا محدَّدًا. وهدفنا هو أن نتبيّن ما إذا كانت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تؤثر في هويّاتنا الشخصية، وكيف يكون هذا التأثير.
 
لذلك، يبدو أنّ تقديم الواجهة البينية المناسبة يتمّ عن طريق تصوّر معلوماتي للذّات. مجدَّدًا، يمكن أن تساعـدنا فلسفة العقل في هذا الموضع. هناك العديد من النُّهُج التي تبتغي تحديد طبيعة الذات، يبرز منها نهجان شائعان وواعدان. أحد تلك النُّهُج يعود إلى الفيلسوف التجريبي جون لوك. طبقًا لهذا النهج، تقوم هويتـك على وحدة وعيك واستمرارية ذكرياتـك. إذا كان هذا يبدو بعض الشيء مشابهاً لما تجده عند ديكارت، فلأنه يسير على خطى نقاشهِ في حجّة "كوغيتو" (الشك المنطقيّ): ما دام أنك كيان مفكّر، فأنت الكيان المفكّر المحدَّد الذي يمرّ عبر مثـل هذه العمليات العقلية المحدَّدة. لكن؛ اسمحْ باختراق وعْـيِك أو ذكرياتك بشكل كبير، وسوف تتوقف عن أن تكون أنت نفسك! هذا هو السبب في أنك ربما تكون على استعداد لأن يُغرس عقلك في جسد شخص آخر، ولكن لا تقبل أن يُغرس عقل شخص آخر في جسدك.
 
ثم هناك النهج الثاني، الأكثر حداثة، والمعروف باسم "النظرية السردية حول الذات the narrative theory of the self". وفقًا لهذه النظرية، فإن هويتك هي "حكاية"، تُـفهم على أنها شيء مصنوع يعبّر عن سيرة شخصية ذاتية أو اجتماعية. تذكّر ما قاله الروائي الفرنسيّ مارسيل بروست عن النفس الاجتماعيّة. نحن "نحدّد" (أي: نعطي هوية لـ...) بعضنا البعض، وهذا هو المتغيّر الحاسم (مع كونِه ليس الوحيد) في اللعبة المعقّدة لبناء الهويات الشخصية؛ لا سيما عندما تتضاعف وتتغيّر فرص الانخراط في المجتمع بفعل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة. افترض أنك عندما تستيقظ كل صباح يتعامل معك الجميع على أنك شخص مختلف تمامًا، حينئذ يمكنك أن ترى كيف أنك سوف تصاب بالجنون سريعًا.
 
وبصرف النظر عمّا إذا كنت تفضّل نهج جون لوك أم النهج السرديّ narrative، فمن الواضح أنّ كلَيهما يقدّم تفسيرًا معلوماتيًّا للذات. يُنظر إلى الذات على أنها نظامُ معلوماتٍ معقّد، مصنوع من أنشطة واعية أو ذكريات أو حكايا. مِن مثـل هذا المنظور، أنت عبارة عن المعلومات الخاصة بك؛ ولأن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات يمكنها أن تؤثـر بعمق في هذه الأنماط المعلوماتية، فهي حقيقة تكنولوجيات نافذة للذات.
 
تصوّرُ الذات في ضوء تكنولوجيا العلومات
 
ربّما تميل المفاهيم المعلوماتية عن الذات إلى تفضيل وجهة نظر مثْـنَوية (تتبع المدرسة المثنوية) dualist للعلاقة بين العقل والجسم، إلى حد ما، مثـل التمييز بين الأجهزة والبرمجيات.
 
إن ثقافتنا مشبّعة للغاية بأفكار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إلى درجة أنه يمكن تمامًا تصوّر سيناريوهات الخيال العلمي التي تقوم فيها باستبدال جسدك القديم بجسد آخر جديد، أو تلك السيناريوهات التي توحي بأن الذات ربما تكون بنية عابرة للنُّظُم الأساسية، مثل تطبيقات تكنولوجيا المعلومات apps.
 
نشهد في فلسفة العقل الجدلَ الدائـرَ حول "تحميل العقل على الحاسب mind uploading" و"مبادلة الجسد body swap". المثير للاهتمام هو ليس الطبيعة الهزْلية والخيالية لمثـل هذه التجارب الظنّـيّة -- إنها في كثير من الحالات تميل إلى أن تكون مشتّـتة ومدْرَسية (إسكولائية) من دون جدوى -- ولكن المثير للاهتمام هو استعدادنا للانخراط فيها، لأنّ هذا يدل على التأثير النوعيّ لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات في كيفية تصوّرنا لذواتنا.
 
يبدو أنه لا جدال في أن الجسد، سماته ووظائفه وأنشطته المعرفية – المقصود بذلك عواطفنا والوعي المصاحب لها – جميعها مختلطة معًا على نحو لا ينفصم، لتـنشأ عنها الذات. إنّ أجسادنا وإدراكنا ضروريان لجعل أرواحنا وذواتنا العقلية ممكنة. لذلك، فإن أي شكل من أشكال المثنوية المتطرّفة يبدو غير مبرَّر؛ لكن هذه البديهية تخفي وراءها حقيقة وفـرَضية.
 
أولًا؛ الحقيقة. إذا كان وجود سبب ما ضروريًّا ليحدث أثــرًا ما، فهذا لا يعني أنه حالما يُحدث الأثـرَ فعليًّا فيجب أن يظلّ السببُ موجودًا. قياسًا على ذلك، ليست هناك فراشة من دون يرقة، ولكن من الخطأ أن تصرّ على أنه حالما تولد الفراشة، يجب أن تبقى اليرقة لكي تعيش الفراشة. بالمِثـل، يبدو أن ثقافتنا المعلوماتية تنظر بإيجابية إلى فكرة أنه لا توجد أي تنمية للذات من دون الجسد، ولكن بمجرد أن ينشئ الجسدُ وعيًا، ربّما تكون حياة الذات بالكامل داخلية ومستقلة عن جسد بعينه، ومَلَكاتٌ محدَّدة تجعل الذات ممكنة. قياس آخر؛ بينما تكون معلقًا بالهواء، أنت لم تعد بحاجة إلى منصة الوثب، حتى إن كانت منصة الوثب مكّنتـك من القفز عاليًا جدًّا، والزمن الذي تقضيه محمولًا في الهواء يتحدّد بقوة الجاذبية. لا يعني هذا أن الذات لا تتطلّب مرتكَـزًا ماديًّا، فهناك حاجة إلى مرتكَـز ما لاستـدامة الذات التي بُنيت، وهذا لا يعني كذلك أن أي مرتكَز سوف يؤدّي الغرض، ولكنه يفتح الإمكانية لاختيارٍ أوسع ولاستقرار مؤقت للذات الدائمة حتى عندما يتغيّر المرتكَز.
 
بعد ذلك، ثمة الفرضية. ليست الذات فحسب، بل الجسدُ نفسه ربّما يُفهم بشكل أفضلَ بمصطلحات معلوماتية. هناك العديد من الصيَغ من وجهة النظر هذه، لكنّ أكثـرَها شهرة يوجد في فرضية "الشيء من البِتْ it from bit" التي صاغها عالِم الفيزياء الأميركي "جون آرتشيبالت ويلر" (وهو على الأرجح أكثر شهرة لابتداعه مصطلح "الثقب الأسود")؛ فعلى حد تعبيره:
 
’ "الشيء من البِت". بصياغة أخرى، كل "شيء" – كل جسيم، كل مجال قوة، حتى متسلسلة زمكان (الزمان-المكان) نفسُها (وبالتالي أي جسم) – يستمد وظيفته، ومعناه، ووجوده بالكامل – حتى إن كان بشكل غير مباشر في بعض السياقات – من إجابات مستنـبَطة بالأجهزة لأسئلة نعم أم لا، خيارات ثنائية، بِتّات bits. الشيء من البِت it from bit يرمز إلى فكرة أن كل مفردة من العالم المادي لديها في القاع – في معظم الحالات قاع عميق جدًّا – مصدرٌ غير مادي وتفسير؛ والذي نسمّيه الواقعَ، يظهر في التحليل النهائي لطرح أسئلة نعم أم لا، وتسجيل الاستجابات المستحضرة بالأجهزة؛ فكل الأشياء المادية هي، نظريًّا، معلوماتٌ في الأصل، وهذا هو الكون التشاركي.‘
 
وفقًا لفرضية "الشيء من البِت it from bit"، فإنّ أعماق أجسادنا مصنوعة من معلومات، وليس مِن قوام أساسيّ مادي مختـلِف عمّا هو غير مادّيّ. هذه ليست الأثنينية dualism، ولكنها شكل للنزعة الواحدية monism يستند إلى الحالة. فكّر في مختلف الحالات التي يمكنك أن تجد عليها الماء؛ من بخارٍ أو سائل أو مادة صلبة. إذا كانت فرضية "الشيء من البت it from bit" صحيحة، فمن ثم العقول والأنفس من جهة، والأمخاخ والأجساد من جهة أخرى، سوف تكون أشبه بحالات مختلفة من المعلومات، أو أنماط معلوماتية مختلفة. والقول بأن التقابل بين المادي واللامادي قد يكون تقابلًا بين تجلّيَين لجوهر معلوماتي كامن ما، هو نقطة ترسَّخ من خلال نقاش بشأن الموضع مقابل الوجود.
 
فلسفة موضع الذات في ضوء تكنولوجيا المعلومات
 
تضخّم تكنولوجيات المعلومات والاتصالات التمييزَ بين وجود الذات وموضِعِها. إنّ كائنًا حيًّا مثل العنكبوت لا يدرَك وجوده إلا حيث يوضع كنظام متجسد وغير متجزئ لمعالجة المعلومات. إن أي كائن حي مدرِك لعملياته المعلوماتية (مثلًا كلب يحُلم) يمكن أن يكون موجودًا في مكان آخر (مثلًا في المنزل). ولكنّ ذاتًا ما – أي كائنًا حيًّا مدرِكًا، بذاته، لعملياته المعلوماتية الخاصة ومدرِكا لوجوده في إطارها – يمْكنها أن تختار أين تكون. الذات، والحياة العقلية بشكل عام، موضعها في المخ (الدماغ)، ولكنها غير موجودة في المخ (الدماغ). هذا هو السبب في أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات يمكنها بسهولة جدًّا أن تجعلنا نقضي الكثير من وقتنا الواعي موجودين في مكان آخر غير الموضع الذي نحن فيه جسديًّا.
 
وأدت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات إلى زيادة تأثير البقاء؛ ففي البيئات الرقمية يكون من السهل تحديد وإعادة تحديد الشيء نفسه على وجه الدقة عبر الزمن. المشكلة هي أن الافتراضيّ ربما يعمل أو ربّما لا يعمل بشكل مناسب، ربما يكون قديمًا أو محدَثًا، لكنه لا يتقدّم في السّنّ؛ إنه يصير قديمًا ولا يَهرَم.
 
عندما تفكّر في ذلك، لا شيء يتقادم يستطيع أن يتقادم بدرجات متفاوتة. على النقيض، فإن الذات تتقدّم في السن، وقد يحدث لها ذلك بقدر أقلّ قسوة. والتأثير، الذي بدأنا نشهدُه، والذي ما زلنا نتعلّم كيف نتعايش معه؛ هو عدم الاتساق الزمني بين الذات وموطِنِها على الإنترنت، بين أجزاء من الذات تتقـدّم في السن (مثل وجه أي إنسان) وأجزاء تصير – ببساطة -- قديمة (مثلا صورة وجه شخص ما على رخصة القيادة الخاصة به). عـدم التزامن يكتسب معنى جديدًا في ظروف الحياة المتصلة دائمًا (أون لايف onlife).
 
الذاكرة وقيود بناء الهوية بتكنولوجيا المعلومات
 
من الواضح أن أي تكنولوجيا يكون هدفها الأساس هو تدبير الذاكرة، سوف يكون لها تأثير كبير في كيفية تطوير الأفراد وتشكيل هوياتهم الشخصية. ليست المسألة مسألة كمّ فحسب؛ فجودة الذاكرة الشخصية، وإتاحيّتها، وإمكانية الوصول إليها، واستدعاؤها ربما تؤثر بعمق في مَن نظنّ أنه نحن، ومَن يمكن أن نصبح.
 
الذكريات المتماثـلة "القابلة للتكرار" لا يمكن إلا أن تكون ذات تأثير عميق في تشكيل الكيفية التي يفهم بها الأشخاص الذين يتعرضون لها، ماضيهم، ومن ثَم فهي ذات تأثير عميق في الكيفية التي يفهمون بها معنى وجودهم.
 
حتى وقت قريب، كانت النظرة المتفائلة هي أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات مكّنت الأشخاص من قولبة هوياتهم الشخصية، لكن المستقبل يبدو مختلفًا بعض الشيء. تميل الذكريات المسجّلة إلى تجميد وتعزيز طبيعة موضوعاتها. كلما زادت الذكريات التي نراكمها ونخرجها، زادت القيود السردية التي نضعها على بناء وتطوّر هويّاتـنا الشخصية.
 
إن زيادة ذاكرتنا تعني كذلك انخفاضَ درجة الحرية التي ربما نتمتع بها في إعادة تعريف أنفسنا، فالنسيان هو جزء من عملية بناء الذات. ربما يكون الحل المحتمَل للأجيال المقبلة هو ألّا يسرفوا في أي شيء يميل إلى بلورة طبيعة الذات، ويصيروا أكثر براعة في التعامل مع مهارات جديدة أو محسّنة لبناء الذات.
 
إنّ التقاط، وتنقيح وحفظ وإدارة الذكريات الخاصة بشخص ما، للاستهلاك الشخصي والعامّ، سوف تتزايد أهميتها، لا في ما يخصّ حماية الخصوصية المعلوماتية فحسب، بل كذلك في ما يخص بناء هوية شخصية بشكل صحيّ أكثر. ينطبق الشيء نفسه على التفاعلات. إنّ تجربة الحياة الدائمة الاتصال (أون لايف onlife) لا تراعي الحدود بين البيئة المتصلة بالإنترنت online والبيئة غير المتصلة offline المختلفتَين. نتيجة لذلك، يتزايد انخفاض نطاق الأكاذيب الساذجة عن ذات ما، على فيسبوك. في هذه الحالة، ربما يكمن الحل في خلق مزيد من القدرات والفضاءات الأكثـر أمنًا للتعبير عن الذات وبنائها.
 
 
 
ثوراتٌ هزمت اعتقاداتٍ بشرية سائدة
 
في العام 1543 نشر نيكولاس كوبرنيكوس أطروحته عن حركات الكواكب حول الشمس، بعنوان "عن دوران الأجرام السماوية". إنّ تأسيسَه لعلم الكونيّات المتمركز حول الشمس، أزاحَ الأرض -- وإلى الأبد -- من مركز الكون، وجعلنا نعيد النظر، في كل ما تحمله الكلمة من معنى، في مكاننا ودورنا في هذا الكون.
 
بعد الثورة الكوبرنيكية، حدثت الثورة الثانية في العام 1859، عندما نشر تشارلز داروين كتابه "أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي". بيّن داروين في عمله أنّ جميع سُلالات الحياة تطوّرت، على مر السنين، من أسلاف مشتـرَكة عن طريق الانتخاب الطبيعي. فأدّت النتائج العلمية الجديدة هذه إلى إزاحتنا عن مركز المملكة البيولوجية.
 
وعلى الرغم من أننا لم نعد في مركز الكون، ولا في مركز المملكة الحيوانية؛ فقد كنّا نظن أنّنا لا نزال نتحكّم بمحتويات عقولنا. إنّ سيغموند فرويد هو الذي حطّم هذا الوهمَ، من خلال عمله في التحليل النفسيّ. كانت هذه هي الثورة الثالثة. دفع فرويد بأنّ العقل هو لاشعوريّ، ويخضع لآليات دفاعية مثل الكبت. وفي الوقت الحاضر، نحن نعترف بأنّ معظم ما نقوم به هو لاشعوريّ، وكثيرًا ما يقوم العقل الواعي، بعد ذلك، ببناء الروايات المنطقية لتبرير أفعالنا. فجرت إزاحتُـنا من مركز مملكة الوعي البحت والشفّاف.
 
بعد الثورات الثلاث، هل هناك أي موضع حيث يمكننا أن نتحصّن ونحن معتـدّون بأنفسنا؟. كان الفيلسوف الفرنسي وعالِم اللاهوت بلَيز باسكال قد أشار شعريًّا إلى واحد من هذه المواضع. ففي إحدى مقولاته الشهيرة، أشار إلى أن "الإنسان ما هو إلا ريشة، أوهن شيء في الطبيعة، لكنه ريشة تفكّر. الكون بأكمله لا يحتاج إلى أن يتسلّح لكي يسحقه. البخار، قطرة ماء واحدة تكفي لقتله. لكن، إذا كان الكون ليسحقه، سيظل الإنسان أنبل من هذا الذي قتله، لأنه يعلم أنه يموت والكون لا يعرف شيئاً عن الميزة التي هو يتفوق بها عليه. إذن كل عزّتنا تتمثّـل في التفكير؛ الذي ينبغي علينا رفع أنفسنا به، وليس بالمكان والزمان اللذين لا يمكننا ملؤهما".
 
بعد ذلك بقرون، بقيت "عزّة" باسكال القائمة على التفكير بلا منازع من الثورات الثلاث التي صادفناها آنفا. ربما لا يزال في إمكاننا أن نتمسّك بالرأي القائل إن مكانتنا الخاصة في الكون لم تكن في علم الفلك، أو في علم الأحياء، أو في الوضوح العقليّ، ولكنها تكمن في قدراتنا العليا على التفكير.
 
لقد كان هذا هو خط الدفاع الضمني، الذي لا يزال قائمًا عن مكاننا الاستثنائي في هذا الكون. كان الذكاء ولا يزال، خاصيّة غامضة إلى حد ما، ويصعب تعريفه، ولكنّنا على ثقة بأن ليس ثمة مخلوق آخر على وجه كوكب الأرض يفوقنا ذكاءً. وكلما برزت مهمة تطلّبت قدرًا من التفكير الذكيّ، كـنّا نحن الأفضلَ إلى حد بعيد، ولا تنافس في ذلك إلا في ما بيننا. كنّا نظن أن الحيوانات غبية، وأننا أذكياء وبدا هذا كنهاية مطمْئِـنة للقصة. وبكل ثقة، افترضنا أننا في مركز الإنفوسفير، ولا يشاركنا فيه أي مخلوق أرضيّ آخر.
 
 
 
"باسكالينا" والعمليّات الحسابية الأربع
 
كان اعتقاد باسكال هذا خطَّ دفاعٍ خطيرًا، والمفارقة أن باسكال ذاته ساعد على تقويضه، إذ نشر في العام 1645، "رسالة إهداء" قصيرة كان قد أرسلها إلى المستشار العدلي للدولة الفرنسية، بيير سيغويه.
 
كانت وثيقة باسكال بعنوان "الآلة الحسابية"، ووصف فيها جهازًا حسابيًّا جديدًا كان قد بناه لوالده لمساعدته على التعامل مع الحسابات المرهقة التي تقتضيها وظيفته كمشرف على الضرائب. تمكّنت الآلة من تنفيذ العمليات الحسابية الأربع بشكل تام، بفضل بعض الحلول الذكية. هذه الآلة تعرَف اليومَ باسم "باسكالينا"، وكانت الآلة الحاسبة الميكانيكية الوحيدة العاملة في القرن السابع عشر.
 
كانت تجسيدًا لنجاح مؤكَّد، ولا تزال تِسعُ آلات منها باقيةً. كان لهذه الآلة تأثير هائل في تاريخ الآلات الحاسبة وعلى "غوتفريد لايبنتـز"، عالمِ الرياضيات والفيلسوف الألمانيّ الذي ابتكر النظام الرقمي الثنائي الحديث، الذي يُعتبَر، بحقّ، أوّل عالِم في مجال الحاسب وواضع نظريات المعلومات.
 
كتب باسكال في رسالته: "عزيزي القارئ، أوجّه إليك هذا الإخطار لأبلّغك بأني أقدّم للجمهور آلة صغيرة من اختراعي، يمكنك بواسطتها القيام بجميع العمليات الحسابية بدون عناء، وتخفّف عنك العمل الذي يكون في كثير من الأحيان متعِبًا لعقلك، عندما كنت تعمل بالقلم".
 
لم يرَ باسكال أيّ تعارض بين وجهة نظره أنْ "كل عزّتنا تتمثّـل في التفكير"، وبين قدرات آلته الحسابية. ولم يسَعْه إلّا أن يتصوّر التعاونَ المثمِر بين والده وآلته "باسكالينا". فترك مهمة تقديم الحلقة المفقودة لفيلسوف غيرِه على جانب آخر من بحر المانش.
 
كيانات معلوماتية مستقلّة تُـزاحِم البشر
 
بعد مرور ست سنوات على نشر باسكال لرسالته، وفي العام 1651، نشر المفكّر الإنكليزيّ توماس هوبز رائعتَه: "اللفياثان" (التـنّين) أو "مادة وشكل وسلطة الجمهورية الدينية والمدنية". ليس هذا بالكتاب الذي تتوقع أن تجد فيه جذور مجتمعنا المعلوماتي بصورة محدَّدة، وعلى رغم ذلك، وفي الفصل الخامس منه، برزت فكرة رائدة دخلت ثقافتَـنا: "لأنَّ ’التدبّر‘ بهذا المفهوم ليس إلا ’حسابًا‘ بالجمع والطرح، لنتائج تسميات عامة متّفق عليها ’لوَسم‘ و’تبيان‘ أفكارنا. أقول ’لوَسم‘ عندما نقوم بالحساب لأنفسنا، و’تبيان‘ حين نوضح حساباتنا أو نقرّها أمام آخرين".

التفكير كان التدبّر، والتدبّر كان الحساب، والحساب كان ممكنًا بفضل "باسكالينا". لقد غُرست بذور الثورة الرابعة! أعفتنا أجيال باسكالينا التالية لا من أعمالنا المرهقة ذهنيًّا فحسب، بل كذلك من دورنا المحوريّ باعتبارنا العناصر الذكية الوحيدة في الإنفوسفير.

لم يأخذ باسكال في اعتباره احتمالَ أننا سوف نقوم بهندسة وتصميم آلات مستقلة ذاتـيًّا تستطيع أن تتفوّق علينا في معالجة المعلومات بصورة منطقية، ومن ثم تكون سلوكيًّا أكثر منّا ذكاءً كلما كانت معالجة المعلومات هي كل المطلوب لإنجاز مهمة ما. صار الإغفال جليًّا مع عمل "ألان تورينغ"، أبِ الثورة الرابعة.

خلعَـنا تورينغ من مكانتنا الفريدة والمتميزة في مملكة التفكير المنطقي، ومعالجة المعلومات، والسلوك الذكي. لم نعد سادة الإنفوسفير بلا منازع. فأجهزتنا الرقمية تنفّذ مزيدًا ومزيدًا من المهام التي تتطلب منّا بعض التفكير، عندما نكون في موضع المسؤولية.
أرغِمنا مجدَّدًا على التخلّي عن موضع كنّا نظن أنه "فريد من نوعه". إنّ لتاريخ كلمة "حاسب" (computer) دلالَته. فبين القرنَين السابع عشر والتاسع عشر، كانت هذه الكلمة مرادفًا لـ"شخص يجري العمليات الحسابية"، لأنه ببساطة لم يكن هناك أيّ شيء آخر في الكون يمكنه إجراء العمليات الحسابية ذاتيًّا (غير الإنسان). وفي العام 1890، على سبيل المثال، أجرت الخدمة المدنية الأميركية اختبارًا تنافسيًّا لشغل منصب "حاسب"، اشتمل على أقسام "قواعد الإملاء والتهجئة وفنّ الخطّ والكتابة، والنسخ، وكتابة الخطابات، والجبر والهندسة واللوغاريتمات، وعلم حساب المثلثات".

كانت فكرة الفيلسوف توماس هوبز حول أنّ ’التفكير هو الحساب‘ لا تزال مسيطرة. لكن بحلول الوقت الذي نشر فيه "تورينغ" أطروحتَه الكلاسيكية بعنوان "آلات الحوسبة والذكاء"، كان يتحتّم عليه في بعض الحالات أن يحدّد أنه يتحدث عن "حاسب إنسان".

فبحلول العام 1950، كان قد عُلِم أن كلمة "حاسب" لم تعد تستخدَم للإشارة إلى الشخص الذي يُجري العمليات الحسابية، فحسب. ففي أعقاب "تورينغ"، فقدَت كلمةُ "حاسب" تماماً دلالاتِها الإنثروبولوجية، وبالطبع أصبحت مرادفاً للآلة العامةِ الأغراضِ، والقابلة للبرمجة، التي نسمّيها الآن "آلة تورينغ".

بعد العمل الرائد الذي قام به تورينغ، مارست علومُ الحاسب وتكنولوجياتُ المعلومات والاتصالات ذاتُ الصلة، على فهمنا، تأثيرًا منفتحًا (انبساطياً) وانطوائياً (منغلقاً) معًا. فهي قدّمت إلى وقائعنا المادية والاصطناعية رؤى علمية غير مسبوقة، وكذلك قدّمت قوى هندسية للتحكّم فيها. كما أنها سلّطت ضوءًا جديدًا على من نكون نحن، وكيف نرتبط بالعالَم وببعضنا البعض. ومن ثَم كيف نتصوّر أنفسنا.

ومثلما فعلت الثورات الثلاث السابقة، أزالت الثورة الرابعة اعتقادًا خاطئًا في شأن تفرّدنا، وقدمت كذلك الوسيلة المفاهيمية لمراجعة فهمنا لذاتنا. إننا نتقبّل برويّة فكرة ما بعد تورينغ، في أننا لسنا عناصر نيوتونية ومستقلة، وفريدة من نوعها، أو ما يشبه روبنسون كروزو على جزيرته. نحن بالأحرى كائنات حية معلوماتية (inforgs)، متّصلة ببعضها البعض، وجزء لا يتجزأ من بيئة معلوماتية (الإنفوسفير) نتشاركها مع عناصر وسيطة معلوماتية أخرى، طبيعية واصطناعية، هي كذلك تعالج المعلومات بصورة منطقية وبشكل مستقلّ.       
https://taghribnews.com/vdcgqt9xwak9y74.,rra.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز