تاريخ النشر2020 3 May ساعة 23:06
رقم : 461223
في ذكرى وفاة ام المؤمنين السيدة خديجة الكبرى (س)

السيّدة خديجة : مثال المرأة الرّساليّة الواعية

تنا
السيّدة خديجة بنت خويلد (رض)، هي أولى زوجات النبيّ (ص)، وهي من عاشت مع رسول الله حياة استمرّت خمساً وعشرين سنة.
السيّدة خديجة : مثال المرأة الرّساليّة الواعية
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيم}. صدق الله العظيم.

في العاشر من شهر رمضان المبارك، وفي السنة العاشرة لبعثة رسول الله (ص)، أي قبل هجرة النبيّ (ص) من مكّة إلى المدينة المنوَّرة بثلاث سنوات، توفّيت زوجته السيِّدة خديجة عن عمر يناهز الخامسة والسّتين عاماً.

والسيّدة خديجة بنت خويلد (رض)، هي أولى زوجات النبيّ (ص)، وهي من عاشت مع رسول الله حياة استمرّت خمساً وعشرين سنة.

قبل زواجها، لم تكن السيّدة خديجة امرأةً عادية في مكّة، بل كانت من أشرافها، ومن كبار تجّارها، لها تجارتها الكبيرة الواسعة إلى الشّام، وقد بلغت في الشّأن والموقع أن لُقِّبت بسيّدة نساء قريش.

أمّا لماذا اختارت رسول الله (ص) من دون غيره من أشراف مكّة الذين يملكون المال، وممن تهافتوا على طلب يدها، فهي عبَّرت عن ذلك بنفسها، عندما قالت لمحمّد (ص)، وبعد زواجها به: "يا بن عمّ، إني قد رغبت فيك لشرفك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك ونصرتك للمظلوم".

ورسول الله (ص) عندما قبل بها، لم يتطلَّع إلى مالها، ولم يبال بفارق السّنّ بينه وبينها، كان المعيار عنده ما اتّصفت به من طهارة القلب، وصفاء النيَّة والحكمة، ورجاحة العقل والرّأي، وهي من كانت تُلقَّب آنذاك بالطاهرة والحكيمة. لقد كان كلّ منهما كفؤاً للآخر، والكفاءة عندهما في الصّفات الذاتيّة لا في المال.

وهنا نذكر كلام رسول الله (ص): "من تزوّج امرأة لا يتزوّجها إلا لجمالها، لم ير فيها ما يحبّ، ومن تزوّجها لمالها، لا يتزوّجها إلا وكله الله إليه، فعليكم بذاتِ الدِّين".
وكان من نتاج هذا الزّواج، النّسل الطاهر لرسول الله (ص): القاسم وعبد الله وزينب ورقيّة وأمّ كلثوم وفاطمة.

لقد عاشت السيّدة خديجة مع رسول الله (ص) حياةً تأسّست على تبادل المودّة والرّحمة والاحترام وعلى المشاركة، فقد شاركته تأمّلاته وأسئلته ونقده للسّائد والموروث، ونقده للممارسات الجاهليّة... تفاعلت معه، لم تكن على هامش اهتماماته وقلقه الفكري والعقائدي.

وقد أمّنت له كلّ سبل الرعاية، عندما قرّر أن يخلو بنفسه في غار حراء، بعيداً من صخب مكّة وضوضائها، وبعيداً من الجوّ السائد في قريش وبين رجالاتها، فقد كان الجوّ العامّ جوّ لهوٍ وعبادةٍ للأصنام وحبٍّ للمال وتنافسٍ إلى حدِّ التّناحر، فيما قرَّر محمَّد (ص) أن ينسحب ويرتقي الجبل للتأمّل والتفكّر والتعبّد، وبعيداً من كلّ هذا الجوّ.

وتذكر سيرة السيّدة خديجة (رض)، أنها كانت تقطع مسافة خمسة كيلومترات مشياً على قدميها، وتصعد الجبل العالي والموحش، كي توصل إليه الطعام والشَّراب، وكثيراً ما كانت تشاركه جلسات التأمّل والتفكّر.

وعندما نزل الوحي جبريل على رسول الله (ص) في غار حراء، ليبلّغه الرّسالة وليدعوه إلى حملها، كانت أوَّل من آمنت به، عندما جاءها يخبرها بما رأى وما سمع، فصدَّقته، ويقينها أنَّ ما يقوله حقّ لا يساوره شكّ ولا ريب، وأنّه نتيجة طبيعيّة لكلّ مسار حياته، وما تعرفه عنه من صدق وأمانة ورجاحة عقل ورحمة ومحبّة وسموّ في الخلق.

ويوم نزلت عليه الآيات: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، قالت له بكلّ عزم وثقة وصدق الإيمان: "قم يا رسول الله، فوالله ما يخزيك الله أبداً؛ إنّك لتصل الرّحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ".

إذاً آمنت به، وكانت من السبّاقين إليه، لتبدأ حياة رسالية ممزوجة بالمعاناة والألم.

سند الرّسول (ص)

إنَّ ما ميَّز خديجة (رض) وبصم دورها التاريخيّ، هو صبرها وإيمانها واستعدادها للتضحية بكلّ شيء، وهي من بذلت كلّ مالها من أجل دينها وإيمانها، هي اختارت بإرادتها أن تعيش مع رسول الله حياة صعبة شاقّة لا تعيشها أمثالها ممن يمتلكن ما تملك من مال وشرف وجمال، وأن تثبت في أقسى وأصعب مرحلة من حياة الرّسالة، عندما كان رسول الله وحيداً يجول في مكّة قائلاً: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، وعندما كان يُرمَى بالحجارة وتوضع الأشواك في طريقه، وعندما كان أقرب النّاس إليه يؤذونه؛ عمّه أبو لهب، وامرأته حمّالة الحطب، وعندما راح يُتَّهم بالجنون والسّحر والكهانة، ويلاحَق كلّ من يؤمن به أو يلتقي به... في كلّ هذه الأجواء، كانت خديجة معه.

معه حين استنفرت قريش كلّ قدراتها وإمكاناتها لمواجهة دعوته؛ داوت جراحه وآلامه، كانت الرفيقة والسّند، وتعرّضت هي لأذى الهجران والقطيعة من نساء قريش، بسبب إيمانها ومساندتها لرسول الله (ص)، بعدما كانت مهوى أفئدتهنّ ويتمنّين اللّقاء بها.
وصمدت معه، عندما ضغطت قيادات قريش على أزواج بناتها زينب ورقيّة وأمّ كلثوم، ليطلقوهنّ، إمعاناً في أذى رسول الله، فطلِّقت آنذاك رقيّة وأمّ كلثوم، فيما رفض زوج زينب طلاقها.

ومعه، حين صعّدت قريش من ضغوطها، لتصل إلى أشدّ المراحل حراجةً؛ إنه الحصار، ما عرف بحصار شعب أبي طالب، يوم قرّر زعماء قريش معاقبة بني هاشم، عشيرة رسول الله، على مساندتهم لرسول الله (ص)، ووقوفهم معه، وتحالفوا على وثيقة ملزمة لكلّ قريش تنصّ على أن لا يبيعوهم ولا يشتروا منهم ولا يزوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم ولا يكلِّموهم ولا يؤووهم، حتى يسلّموا لهم رسول الله(ص)، أو يرفعوا أيديهم عن نصرته وحمايتهم له.

يومها، كانت السيّدة خديجة عند أهلها، لكنّها أبت إلا أن تلتحق إلى حيث الحصار، وعانت هناك ما عاناه المسلمون، إلى حدّ أن صاروا يقتاتون من ورق الشّجر. يومها، بذلت السيِّدة خديجة كلّ ما بقي من مالها، حتى لم يبق معها شيء منه لشراء الطّعام للمحاصرين، وبأضعاف ثمنه، من أجل أن تخفّف من وقع الحصار، حتى قال حينها رسول الله (ص): "ما نفعني مال قطّ مثل مال خديجة". وكان لهذا الحصار الذي استمرّ ثلاث سنوات، أثر كبير في اعتلال صحّتها، ومن ثم وفاتها بعده.
وذلك العام سماه رسول الله عام الحزن، مما أصابه من فقد خديجة كسندٍ له، وقبلها بفترة وجيزة، كانت وفاة عمّه أبي طالب مؤمن قريش، والذي كان هو الآخر سنداً له لموقعه في قريش، فكان الحامي والمدافع عنه ضدّ مؤامرات قريش، ومن بعدهما، عانى رسول الله أشدّ الصّعوبات، والتي أدّت إلى أن يهاجر من مكّة إلى المدينة المنوَّرة.


لقد كانت السيِّدة خديجة مثالاً للمرأة الرساليَّة الواعية، لم تعف نفسها من المسؤوليَّة، ولم تتراخَ أو تضجر في أيّ مرحلة، وهي بذلك استحقّت الكرامة من الله سبحانه وتعالى، كرامة السّبق للإسلام والإيمان، بعد أن حظيت بزواجها من خير خلق الله محمّد المصطفى (ص)، فكانت ممن قال الله عنهم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.

وقد ورد في الحديث، أنّ جبرائيل نزل على رسول الله (ص) ليبلغه أن يَقرأَ على خديجة السّلام من ربّها، وأن يبشِّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

كانت لخديجة منزلة رفيعة وموقع مميّز عند رسول الله (ص)، ففي حديث، أنّ زوجته عائشة قالت له يوماً: ما أكثر ما تذكرها! قد أبدلك الله عزَّ وجلَّ بها خيراً منها. فقال (ص): "ما أبدلني الله عزّ وجلّ خيراً منها؛ قد آمنت بي إذ كفر بي النَّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني النّاس".

وقد ارتأت المشيئة الإلهيَّة أن يكون من نسل خديجة كلّ الطّهر الذي تمثّل بالزَّهراء والأئمة (ع)، ممن أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً. وإليه أشار الإمام الصَّادق(ع) عندما قال: "إنَّ الله تعالى جعل خديجة وعاءً لنور الإمامة".
فالسّلام عليها يوم ولدت، ويوم سبقت إلى الإسلام، ويوم انتقلت إلى رحاب ربِّها، ويوم تبعث حيّة.

سماحة العلامة السيد علي فضل الله

/110
https://taghribnews.com/vdchiznkx23n-id.4tt2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز