تاريخ النشر2011 9 April ساعة 10:52
رقم : 45191

لماذا تبقى دول مجلس التعاون خارج التاريخ؟

لا زال يصر اكثر الحكام على رفض مطالب شعوبهم واجراء الاصلاحات والاستمرار في مسيرة الاستبداد والقمع والبقاء خارج حركة التاريخ .
لماذا تبقى دول مجلس التعاون خارج التاريخ؟
وكالة أنباء التقریب (تنا) :
د. سعيد الشهابي

فيما تستمر ثورات العالم العربي، تبرز مؤشرات متواصلة حول آفاق المستقبل السياسي لهذا العالم الذي يصر اغلب حكامه على البقاء خارج حركة التاريخ برفض الاصلاح والاستمرار في مسيرة الاستبداد والقمع. وبرغم ان حركة التغيير الثوري ما تزال في بدايتها، اذ لم يمض عليها سوى شهور ثلاثة، فالواضح ان ثمة صراعا متواصلا تدور رحاه في العلن تارة وخلف الكواليس اخرى، بهدف التحكم في مسيرة الثورات العربية من قبل التحالف الجديد - القديم بين القوى الغربية ودول مجلس التعاون بشكل خاص.

فالواضح ان كل الشعور العربية تبحث عن تطوير جوهري لانظمة الحكم فيها، وانها قادرة على تحقيق مستويات من ذلك التطوير. ولكن يواجه ذلك إصرار منقطع النظير على مواجهة المد الثوري تقوده السعودية ومعها دول مجلس التعاون. وسوف تحتدم الساحة السياسية في الشهور المقبلة بالصراعات بين تيار التغيير وتيار الجمود، وهو صراع لن يكون محصورا او محدودا بل بدأت ملامحه تظهر تدريجيا، وقد يتخذ اشكالا دموية ويخترق الحدود الجغرافية المصطنعة بين دول العالم العربي. فبرغم موجة الثورات التي تعصف بالمنطقة اصبح واضحا ان السعودية وضعت خطا أحمر لتلك الثورات، وجددت تحالفها مع الولايات المتحدة الامريكية لمواجهة ذلك المد، ووضعت كافة الامكانات المالية والعسكرية والامنية لمواجهته. وبمرور الوقت سيتعمق الصراع بين القوى السياسية التقليدية وجيل الشباب الذي استيقظ على واقع دون تطلعاته يقتضي التغيير الجذري مهما كانت التضحيات. وفي المقابل استيقظت السعودية على واقع لم تحسب له حسابه فوجدت نفسها، بعد ما حدث في مصر وتونس، القوة العربية الاولى المتصدية لتيار التغيير الثوري.

ويسجل للسعودية قدرتها في غضون فترة قصيرة لا تتجاوز الشهرين، على احداث تغيير جوهري في السياسة الامريكية التي فوجئت في بداية المد الثوري وطرحت في ذروة ارتباكها شعارا ما لبثت ان تخلت عنه يقول: لن نقف على الجانب الخطأ من التاريخ. هذا الشعار احدث هزة في الكيانات السياسية العربية التقليدية، وسرعان ما تحركت الرياض لاحتوائه، مستفيدة من الدعم البريطاني التقليدي للنظام الرسمي العربي، وحققت اختراقا كبيرا بتغيير الموقف الامريكي من حركة التغيير. فعندما
استقبلت السعودية الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، كانت تلك الخطوة مؤشرا للموقف السعودي التقليدي، ولكنها كانت خطوة متواضعة مقارنة بما ستتخذه المملكة من اجراءات لاحقة. فقد تدخلت بقوة لدى الادارة الامريكية لمنع سقوط حسني مبارك، ولكن ثورة الشباب المصري كانت اعتى من الضغط السعودي، فلم يكن هناك مجال امام مبارك للبقاء في الرئاسة وكان عليه ان يرحل. ولكن سعت واشنطن للتحكم في مسيرة التغيير السياسي في مصر، وليس معلوما بعد مدى قدرة التحالف الامريكي السعودي على توجيه المستقبل السياسي في مصر. ولكن الامر المؤكد ان هذا التحالف سوف يسعى لتحجيم نفوذ الاخوان ا لمسلمين في الحياة السياسية المصرية، اما باحتوائها سياسيا تحت الجناح السعودي (وهو امر يصعب تحقيقه) او اضعافها بالخلافات الداخلية او محاولة اختراقها بعناصر ذات اتجاهات سلفية قوية.

من مؤشرات المستقبل السياسي العربي تبرز ثمانية عناوين يمكن استقراؤها من سياق التطورات والاتصالات والتصريحات والمواقف. اولها بروز ثقافة تغيير جديدة لدى الجيل العربي الجديد، وتراجع دور النخب المثقفة بسبب ارتباط قطاع واسع منها بالانظمة السياسية القائمة نتيجة سياسات الاحتواء التي حققها المال النفطي على مدى العقود الثلاثة الماضية. هذه الثقافة تتعمق تدريجيا ولكنها تواجه خطر الانحراف التدريجي عن خط التغيير والدخول في المتاهات الفكرية والايديولوجية والمذهبية التي تسعى القوى التقليدية المدعومة بالمال النفطي لفرضها على الساحتين العربية والاسلامية. ومع ان انطلاقة حركة الشباب العربي واعدة، الا ان من الضروري بذل الجهود لترشيدها مع تفادي السعي لاحتوائها او 'تحزيبها'.

فالفئوية سوف تكون داء قاتلا للظاهرة الشبابية، وقد اثبتت ثورتا تونس ومصر قدرة هذه الظاهرة على تحقيق ما عجزت عنه الاحزاب والجماعات التقليدية، الدينية والعلمانية على حد السواء. هذه الظاهرة كانت جماهيرية حقا، فاستطاعت تجاوز الحواجز الحزبية والفئوية والايديولوجية، وتوحدت على هدف واحد، قد يكون فضفاضا ولكنه واضح تماما، وهو خيار التغيير ومواجهة الانظمة العتيدة التي بدت راسخة ومستعصية على التغيير والاستبدال. العالم العربي فوجىء بقوى التغيير الجديدة التي امتلكت بصيرة نظيفة غير مشوهة بتراث التراجعات والفشل والاحباط، وحولت الصراع من كونه استمرارا للمماحكات السياسية بين الحركات وانظمة الحكم، الى حركة للشارع كله في مواجهة النظام السياسي الذي يعاني، برغم قوته المادية، من شيخوخة وتآكل بنيوي وفكري ونفسي، فتحقق التغيير، وان كان في ابسط صوره.

ثاني المؤشرات المستقبلية استمرار الولايات المتحدة في مقاومة التغيير او السعي للسيطرة على نتائجه، والسعي المتواصل لتكريس الانطباع بان التغيير لا يتحقق
الا عبر البوابة الامريكية. واشنطن ما تزال تقاوم التغيير بكل ما لديها من امكانات، ولو تطلب ذلك تغيير مواقفها وسياساتها المعلنة، او الصمت على الجرائم التي ترتكب بحق دعاة التغيير من قبل الانظمة التي تعتبرها 'صديقة'. وبالتالي تؤكد امريكا عداءها التاريخي للتغيير والديمقراطية في العالم العربي وتصر على ربط مصالحها بدعم الاستبداد والقمع. ولذلك فسوف تبقى المماحكات مستمرة بين الولايات المتحدة وقوى التغيير، ومن المتوقع ان تسعى واشنطن من الآن فصاعدا لتعميق تأثيرها الفكري والثقافي على قطاعات الشباب عبر برامج تنطلق من واشنطن وتدعم بالمال النفطي، بهدف ابعاد الشباب عن عالم السياسة وتوجيهه الى العالم الافتراضي الذي يمكن التأثير عليه وتوجيهه عبر صفحات الفيسبوك والتويتر. ان من الصعب تصور حدوث تغير جوهري في الموقف الامريكي من حركة التغيير في المستقبل المنظور، والافتراض الاقرب للحدوث تصاعد الشد والجذب بين واشنطن وظاهرة التغيير التي ما تزال في بداياتها وتواجه خطر الاستهداف من قبل تحالف القوى المناهضة للتغيير بقيادة الولايات المتحدة الامريكية.

المؤشر الثالث افتراضي يتوقع حدوثه باستقراء أساليب القوى المناهضة للتغيير في العقود الماضية. فمن المتوقع العودة الى تصاعد ظاهرة الارهاب بعناوين وتبريرات شتى، لان تلك الظاهرة من اهم معوقات التغيير، لانها تحول المشهد جوهريا وتوفر ذرائع التدخل العسكري وفتح السجون وادخال الخوف والرعب في النفوس وتحجم فاعلية مؤسسات المجتمع المدني، وتوفر ذريعة لاحكام الطوارىء وإحكام قبضة قوى الامن على الاوضاع. ففي ليبيا مثلا، سعى القذافي لمنع التغيير بتخويف الغربيين من تنظيم القاعدة وانها هي التي تسعى لتغيير نظام حكمه. وبعد ان شن التحالف الانجلو امريكي الحرب ضده، هدد بنشر السلاح وان القاعدة سوف تنشط في بلاده. وطرح التحالف الغربي الآن مقولة وجود عناصر من تنظيم القاعدة في المناطق الشرقية من ليبيا وانها عادت من العراق لتساعد القذافي على مواجهة الحرب الغربية ضد بلاده. ونشرت وسائل الاعلام الغربية مقولات غير مؤكدة مفادها ان اغلب عناصر القاعدة التي تساهم في اعمال العنف والارهاب سواء في افغانستان ام العراق جاءت من ليبيا، وان اعدادها تفوق اعداد العناصر السعودية العاملة ضمن تنظيم 'القاعدة'. فظاهرة الارهاب كانت معوقا امام التغيير في العالم العربي، استغلتها الولايات المتحدة الامريكية وتحالفت مع الانظمة العربية واصبحت تدافع عنها بذريعة انها 'حليفة في الحرب ضد الارهاب'. فكل ما تمارسه هذه الانظمة ضد شعوبها كان
يعتبر امرا مشروعا في نظر الادارة الامريكية بسبب هذا التحالف. ولا يستبعد عودة بعض الاعمال الارهابية المفتعلة لتبرير تشديد احكام الطوارىء في بعض البلدان وتصعيد الحملات الامنية ضد دعاة التغيير. اما المؤشر الرابع لمستقبل المنظقة العربية فيتمثل بتسارع انتقال الاموال النفطية للدول الغربية تارة ضمن صفقات تسلح عملاقة، واخرى لدعم 'الحرب ضد الارهاب' وثالثة في مقابل ترقية السعودية الى نادي الدول العشرين ذات الاقتصادات الكبرى. هذا في مقابل الحماية الامنية والسياسية والعسكرية للانظمة الرافضة للتغيير والاصلاح السياسي والتحول للديمقراطية. ولتبرير ذلك يطرح الغربيون اعذارا واهية ويسعون لاثارة البعد الطائفي والامني بالاضافة الى البعد الاستراتيجي خصوصا في منطقة الخليج.

ويتمثل المؤشر الخامس باستعمال النفط في المستقبل القريب عاملا لوقف حركة التغيير خصوصا في منطقة الخليج. وبدلا من استعماله سلاحا في الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، اصبحت السعودية تستعمله وسيلة ضغط ومقايضة مع الغرب لمنع اي دعم غربي لدعوات الاصلاح فيها. وفي الاسابيع الاخيرة رفعت السعودية معدلات انتاجها وكذلك بقية دول الخليج للتعويض عن النقص الناجم عن أزمة ليبيا لتأكيد قدرة هذه الدول على الحفاظ على التوازن بين العرض والطلب في السوق النفطية. اما ارتفاع اسعار النفط فيضر مصالح الدول الفقيرة، بينما الدول الغربية تستعيد جزءا كبيرا من الاموال النفطية في شكل صفقات تسلح او مشاريع اقتصادية اخرى. السعودية ادخلت النفط سلاحا ضد حركة التغيير على مستويين: اولهما منع الدول الغربية من التعاطف مع اية حركة تغييرية في منطقة الخليج خصوصا السعودية، وثانيهما، استعمال الاموال النفطية لاخماد الاصوات المعارضة وشراء الاقلام ووسائل الاعلام. ولن يكون مستغربا لو هددت السعودية بالتحكم في تصدير النفط فيما لو صدر موقف غربي داعم لحركة التغيير في الجزيرة العربية. اما المؤشر السادس فيتمثل بترويج المشكلة المذهبية والتوتر الطائفي في المنطقة. هذه المشكلة اثيرت في العقدين الماضيين لاقامة حاجز بين ثورة ايران وطموحات شعوب المنطقة. واليوم تتصدر السعودية اثارة الخلافات المذهبية لوقف حركة التغيير بمنطقة الخليج، خصوصا ان هذه الحركة انطلقت هذه المرة من البحرين. وهذه هي الظاهرة الاخطر على المسار الثوري لانها تمزق الصف العربي المسلم من داخله، وتشغل الاطراف ببعضها البعض، بدلا من التركيز على مواجهة الاستبداد. ومع الاسف الشديد، فقد كشف هذا الطرح نقصا حادا في الوعي، خصوصا في الدوائر الاسلامية. فبينما تفاقمت الظاهرة في السعودية والبحرين، لم تتردد اصداء الدعوات المذهبية في عواصم الثورة كالقاهرة وتونس او صنعاء. فمن يسعى لصعود الجبال لا توقفه المعوقات
المفتعلة في الوادي السحيق. وهنا يصبح موقف النخب المثقفة مؤشرا لمدى عمق الوعي بضرورة التغيير، وما اذا كانت قادرة على توجيه الوعي العام بعيدا عن الالغام المذهبية والطائفية التي يسعى البعض لتفجيرها من اجل تحطيم اوصال الامة. ومن المؤكد ان السعودية سوف تكرس جهودها لاثارة النعرات المذهبية، خصوصا مع وجود استعداد لدى مؤسستها الدينية لاصدار الفتاوى التي تحرم التظاهر ضد الحاكم الجائر، او تكفر مخالفي مدرستهم الفقهية والفكرية. ان من العار ان تمزق الامة على اساس الانتماء المذهبي، والاخطر منه ان ينجر رموز الحركة الاسلامية الى هذه الدعوات الهدامة التي لا يمكن ان تؤدي الا الى المزيد من الشتات والضياع ودعم انظمة الاستبداد.

سابع المؤشرات يتمثل باصرار دول مجلس التعاون الخليج على رفض دعوات الاصلاح، وتقديم الحالة البحرانية مثالا لمن تسول له نفسه بالتحرك على طريق التغيير. فالتدخل السعودي لا يستهدف ثورة البحرانيين فحسب، بل انه رسالة موجهة الى بقية شعوب المنطقة بان المطالبة بالتغيير خط احمر غير مسموح بتجاوزه في اي من دول مجلس التعاون. ولكن في الوقت نفسه يتوقع بروز المؤشر الثامن المرشح لاحداث نقلة نوعية في التوازن السياسي والاستراتيجي والمذهبي في المنطقة. فقد لعبت تركيا دورا مسؤولا في التعاطي مع ثورات الشعوب العربية، وابقت خطوط التواصل مع ايران ازاء ما يجري في البحرين وليبيا واليمن. ويتوقع انضمام مصر بعد استقرار الامور فيها الى هذا المحور، نظرا لحرص شباب مصر واحزابها وقواها السياسية والدينية على النهوض ببلادهم من جهة وتعزيز دورها في الحفاظ على وحدة امة المسلمين ومتانة كيانها وصلابة موقفها من جهة اخرى. هذا المحور سوف يحدث تغييرا كبيرا في الشرق الاوسط، بتشجيعه التغيير السياسي الذي تبحث عنه الشعوب، والتصدي للنعرات العرقية والمذهبية والطائفية، وتطوير موقف اوضح تجاه الاحتلال والتدخلات الاقليمية والدولية في شؤون الشعوب. هذه المؤشرات تطرح صورة مشوشة للوضع العربي المحتقن في الشهور المقبلة، وتؤكد حتمية الصدام بين قوى التحرر والاصلاح المنطلقة من الشعوب، وانظمة القمع والاستبداد المدعومة، وهو صراع لن يكون سهلا لانه مرتبط بأمة العرب والمسلمين، التي لن تنهض الا بالحرية والتخلص من الاستبداد، وهو امر لا يروق لأعدائها. هذه الحرية تجعل الشعوب متجانسة مع انظمة الحكم في بلدانها، وتعمق لديها الايمان بوحدة الامة وعدالة مطالبها وجديتها في اقتفاء طريق الاصلاح السياسي والانتاج العلمي والتكنولوجي والاستقلال السياسي، والمفاصلة مع الماضي المظلم الذي هيمنت عليه قوى الاستبداد والاحتلال والتشطير العرقي والديني والمذهبي. لا شك ان الطريق وعر وطويل ومتعرج، ولكن سلوكه ضرورة للاصلاح وتحقيق الحرية.






https://taghribnews.com/vdcb88ba.rhbs9pukur.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز