QR codeQR code

في الكلام عن الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)

حكمه وأقواله دستور حياة

29 Dec 2010 ساعة 22:08

الامام علي شخصية مميّزة في تاريخ الإسلام عموماً، وفي تاريخ العرب على وجه الخصوص... ترك بصماته دامغةً على صفحات التاريخ البشري، وأرسى قواعد ثابتة لمجتمع انساني يقوم على الحق والعدالة والإيمان...


وكالة انباء التقريب (تنا) :
نص المحاضرة التي ألقها الدكتور جورج زكي الحاج ، أستاذ في الجامعة اللبنانية ، في المؤتمر الذي اقامته المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية في لبنان، تحت عنوان "نهج البلاغة: إعجاز الكلمة وتسامي المعنى " لمناسبة عيد الغدير، في قاعة المستشارية في بيروت بتاريخ الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام ٢٠١٠. 

لأ أذكر أني تهيّبت وأنا أكتب عن إنسان، شاعراً كان أو أديباً، مثلما وأنا أكتب عن الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، لأنني أدرك أنه كونٌ فكريّ، وأن فكره كونيّ.
شخصية مميّزة في تاريخ الإسلام عموماً، وفي تاريخ العرب على وجه الخصوص... ترك بصماته دامغةً على صفحات التاريخ البشري، وأرسى قواعد ثابتة لمجتمع انساني يقوم على الحق والعدالة والإيمان... فرفع في حياته أعمدة الجهاد وخطّ صفحات البطولة والشجاعة ورسم بدمائه لوحات الشهادة في سبيل الله والدين، فكان، ولا يزال، وسيبقى محجّة لكل انسان يروم الحياة المثالية في الدنيا وفي الآخرة. 

من خلال ما وصلنا من تراث الإمام عليّ، وما جمعه الشريف الرضيَ، او ما توصّل اليه، يكشف لنا عن شخصية تحمل في حناياها مجموعة قيم كونية خالدة، نموت ولا تموت، كفيلة بأن تجعل من الإنسان الفرد قيمةً مجتمعيةً وانسانية قائمة برأسها، وترفع به صوب المثل العليا التي هي الله تعالى، وتقرّبه مما اعتدنا على تسميته بالخلود، وهذا ما يطالعنا في تركة الإمام، عنيت بها كتاب "نهج البلاغة" الذي يعكس شخصية الإمام، ويضمّ بين صفحاته العناصر التي تتركّب منها تلك الشخصية، فنحن نستطيع دراسة شخصية الإمام ومزاياها من خلاله. 

"نهج البلاغة" كتاب غني بالموضوعات، وحافل بالحكم والأمثولات الأخلاقية والاجتماعية، إنّ في الشذرات الفردية والأقوال القصيرة، وإنّ في الخطب التي كان يلقيها بين الحين والآخر، وحسب المناسبات، في قومه خصوصاً، وفي المسلمين عموماً. ولا أكون مغالياً إذا قلت إن كثيراً من أقوال الإمام تصلح لأن تكون عناوين لكتب او لدراسات مطوّلة، لما تحمل في طياتها من مخزون فكري، ومن إرثٍ حضاري، يدلان على موسوعية الإمام، وعلى تعمقه في أمور الحياة، وعلى العطية التي منحه إياها الخالق العلي. 

وإذا سلّمنا بأن الحضارة الإنسانية هي فعل تواصل بين الشعوب، مهما اختلفت أنماط تلك الشعوب، ومهما تمايزت سبل حياتها، وطرق معيشتها، وأنماط لباسها ومأكلها ومشربها...
وإذا سلّمنا بأن الشعوب، مدينةٌ بحياتها واستمراريتها واستقرارها الى ذلك الخطّ الحضاري، القائم على الفكر الإنساني، والوعي البشري، والعقل الذي حكم مسيرة البشرية منذ نشأتها... أدركنا قيمة نهج البلاغة، وقيمة الإمام علي بن أبي طالب. فالكتاب واحدٌ من الكتب القليلة في العالم، التي تُبقي على شعلة القيم الإنسانية متّقدةً، والتي نستطيع القول إنها الذخيرة التي تنمّي نسغ الحياة، وترسم خلاص البشرية، وتدعو الى قيام المجتمع الفاضل بوساطة الإنسان الفاضل، الذي يكون نواة الحياة الشريفة. ويمكن إيراد بعض ما ورد فيه على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر. 

في "نهج البلاغة" كلام عن الفقه، والإمام علي سيد الفقهاء، أفتى في كثير من أمور الحياة والمجتمع، فكان عادلاً في قضائه، رحوماً في حكمه، حازماً في قراره... كما هو أبلغ البلغاء، وأفصح الفصحاء... أسلوبه ابن جمالية اخاذة، وهو مرجع وحجة، نعود إليه كلما واجهتنا معضلة في قواعد اللغة، وفي صرفها ونحوها وبنائها...! 

وفي "نهج البلاغة" كلام على الشجاعة، ومَنْ من الناس لا يقرّ بشجاعة الإمام وبإقدامه، وبمواقفه حتى في لحظة استشهاده؟ فإلى علي ترقى الشجاعة ولا تتجاوزه. حتى بات أهل قتيله يفخرون بقتيلهم لأنّ علياً ارداه، وليس غيره... وتكفي قصّته مع عمرو بن عبد ود لتظهر لنا شجاعة الإمام وفخر اهل قتيله. 

كان سخياً، كريماً وجواداً، وفي نهج بلاغته كلام كثير على فضائل الكرم، وعلى مزايا اليد السخية، التي تنقذ في لحظة الضيق والعوز والفقر... وهو الذي دعا الى مجتمع متكافئ، يتساوى فيه الناس بالفقر والغنى، فلا غنيّ على حساب فقير. أليس هو مَنْ قال: "المال مادّة الشهوات"؟ وأليس هو مَنْ قال أيضاً: "إن الله فرض في أموال الأغنياء اقوات الفقراء، فما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غني".؟ أليس هذا الكلام هو الوجه الآخر للصلاة الإلهية التي علمها السيد المسيح لتلامذته فيقوله: "اعطنا خبزنا كفاف يومنا"؟ ألا يشكل هذا القول اللبنة الأولى في مدماك الاشتراكية الاجتماعية؟ والعتبة لدخول هيكل العدالة والمساواة؟ 


إنّ نظرة الإمام علي إلى مال الغني وجوع الفقير تأسيس لمبدأ المساوات والعدالة الاجتماعية، وشبهٌ تطبيقي لقول الرسول الكريم: "الناس سواسية كأسنان المشط..."، كما فيه تبسيط واضح لمبدأ الإيمان الحقيقي الحرّ، وتكملةٌ لما ورد على لسان السيد المسيح: "لا يمكنكم أن تكونوا عبيداً لله والمال معاً". 

فالعمل بوصية الإمام وحكمته تحرَرٌ من سلطة المادة، وثورةٌ على مقتنيات الدنيا الفانية، والهزء بملذّاتها الدنيئة... ويكفي أن يردّ سبب جوع الفقير الى متعة الغني ليكون قد أوصل غاية القول... ألم تعلّمنا الكتب الشريفة أنّ خطيئة كبرى يرتكبها من ينام متخماً وجارُهُ جائع...؟ فقد ورد على لسان الرسول الكريم: "ما آمن من بات شبعان وجاره جائع". فلو أنّ العالم عمل بوصية الإمام هذه، لما رأينا معدماً يفترش الرصيف ويلتحف السماء، ولما قرأنا أنّ ما يزيد على نصف سكان الارض يعيشون تحت خطِّ الفقر، ولما كنّا نعيش حرب التجويع المدمّرة، التي هي سبب الحروب جميعها. 

وكان الإمام صادقاً صدوقاً، فأفرد للصدق وللصداقة حيزاً كبيراً من تركته، ولعلّ ملازمته للنبي (صلعم) رسّخت فيه هذا الإيمان، وجعلته يقدم الصداقة على الأخوة، ألم يقل: "لا أحبّ أخي إن لم يكن صديقي"؟ وهل هناك أفصح من تعريف الصديق الذي أورده الإمام عندما قال: "لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته" و "وحسدُ الصديق من سقم المودّة"؟ 

وفي رأيي أنّ الإمام علي هو من بين القلائل من رجالات التاريخ والفكر الإنساني، إن لم يكن أوحدهم، الذين افردوا للصداقة هذا المقدار، وأعطوها هذا القدر... وقد اثبتت تجارب الحياة ومسيرتها الطويلة أنّ الصديق يضاهي الأخ في كثير من الأحيان، وفي كثير من المواقف التي تكون موضع محكٍّ وامتحانٍ للنبل والصدق والمحبة. 

وكان حليماً صفوحاً، فأتى كلامه على الصفح والتسامح يعكس داخليته المفعمة بهاتين الصفتين، وهو الذي يحفل تاريخ حياته بمواقف عفا بها عمن أساء إليه، وأحسن الى مَنْ أخطأ معه، فلم يقطع الماء عن من حرمه الماء، ولم يقدم على إهانة من أهانه، بل كان عفوه وهو في أوج قدرته وانتصاره. هكذا كان مسلكه مع ابن الزبير، ومع السيدة عائشة بنت أبي بكر، زوج النبي (ص)... ومع أهل البصرة الذين ضربوا وجهه ووجوه أبنائه بالسيوف، ولعنوه وسبّوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم وأدخلهم في أمانه...
ألم يوصِ خيراً بقاتله ابنِ ملجم؟ 

"عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه". وقد جاء في وصيّته لولديه الحسن والحسين: "قولا الحق، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً".
في الواقع أجد نفسي مشدوداً الى ما ورد عند الأنبياء والرسل، وإن لم أكن في موقع المقارنة والمقابلة والموازنة وما شابه... فكما قلت قبل قليل أنّ الحضارة الإنسانية فعلُ تواصلٍ وتكامل... فوصيّة الإمام السامية المترفّعة، الهادفة الى صنع الإنسان المثالي الذي أرادته التعاليم السماوية الشريفة، تجعلني أتذكّر قول السيد المسيح: "أحبوا مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا الى من أساء اليكم..." وقوله: ".. وإذا أخطأ أخوك معك فسامحه سبعاً في سبعين مرة في اليوم الواحد".
ألم ينشد الإمام، في قوله أعلاه، التسامح الدائم والمغفرة الدائمة؟
ألم يقل النبي (ص) لعليٍّ: "إنَّ فيك لشبهاً من عيسى بن مريم"؟ و "لا يبغضُك إلا منافق"؟. أضف الى ذلك سماحة أخلاق الإمام علي، التي تدفع الآخر الى الإقلاع عن ارتكاب الخطيئة والمعصية، والى تبنّي الفضيلة ومكارم الأخلاق. "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته". و "احصد الشرَّ من صدر غيرك بقلعِه من صدرك". قولٌ يتلاقى مع قول السيد المسيح في موعظة الجبل حين يقول: "أيها المرائي، إبدأ بإخراج الجِذع من عينك، حتى تُبصِرَ فتخرج القذى من عين أخيك". 

أما الرأفة التي هي من عناوين الدين الكبرى، فقد حظيت بنصيبٍ كبيرٍ في حكم الإمام، وهو الذي عُرف عنه رؤوفاً مُتسامحاً... فمن ظلم الناس سيُحاسب في يوم البعث والقيامة. "من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده". هذا الإيمان هو الذي جعل الإمام محبّاً لرعيته، محبوباً منها. فلقد عُرف عن الإسلام، ديناً وممارسةً، الوقوف الى جانب المظلومين، والرأفةُ بأحوالهم، والعمل على مساعدتهم، و "ما الفقر إلاّ الموت الأكبر"، لأن المقصود به فقرُ العقل والإيمان، وليس فقر المادة فقط... 

والكريم هو ابنُ الأصالة والقيم، تماماً كما اللئيم هو ابنُ المادة والدناءة، لذا يحذّر الإمام عليّ من "صولة الكريم إذا جاع، ومن صولة اللئيم إذا شبع". وفي هذا القول خوضٌ في لجَّة الواقع وسبر أغوار الحياة الاجتماعية.
أليس حراماً، وخطيئةً أن يهان الكريم في حياته نتيجة دهرٍ أدار له ظهر المجنّ؟ وهو الذي أعطى وسخى من دون حسابٍ، ومن دون النظر الى ماهية مَنْ يُعطي؟
أليس في هذا القول ذروة النبل الإنساني، وجوهر الأخوة في الحياة؟ فالنفس الكبيرة ترى النفوس الأخرى شبيهاً لها، وإذا لم يكن ذلك فالموت تحسراً هو الحلُّ الوحيد في مجتمع مصالحي، لا يقوَّم فيه الإنسان إلاّ بحسب الحاجة إليه. والحالة معاكسة عند النفوس الصغيرة التي عاشت الدناءة والحقارة، فربي الحقد في داخلها، وعشّش الانتقام بين حناياها، وفتح الغرور الأعمى فاه بين ضلوعها، وطالت براثِنُ الكبرياء عندها... فنظرت الى كل شيءٍ دونها نظرةٍ الحقد والضغينة واللؤم، وقررت الظلم والانتقام.. من هنا كان تحذير الإمام من صولةِ الكريم عند جوعه، ومن صولة اللئيم إذا شبع. 

ولم تتوقف حِكَمُ الإمام عند حدود السلوك الأخلاقي أو السلوك الاجتماعي فقط، وإنما تعداهما الى السلوك الوطني او القومي إذا جاز لنا التعبير... خصوصاً عندما يتناول موضوع الجهاد، الذي هو من العناوين الكبرى والرئيسة في المسيرة الإنسانية... فالجهاد يمكن أن يكون من أجل أمورٍ مختلفة، فمنها الجهاد في سبيل الدين، ومنها في سبيل الحرية والتحرر، ومنها في سبيل الحياة الكريمة، ومنها في سبيل الأرض والوطن. وبهذا كانت افتتاحية خطبته الشهيرة "خطبة الجهاد" حول الجهاد وماهيّته وثوابه، خصوصاً من الجهتين: الدينية والاجتماعية، فيقول:
"فالجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة، فمن تركه رغبةً عنه، ألبسه الله ثوب الذل وشملةَ البلاء، وديَّث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل الحقُ منه بتضييع الجهاد، وسيمَ الخسفَ ومُنع النَّصفَ". 

هذا إذا لم ننسَ أقواله الكثيرة في الزّهد في الدنيا، وفي العبادة، وقراءة القرآن، والسياسة، والمشورة، والرأي والتدبير، إلى ما هنالك من أمور هي أسس الحياة ومقوّماتها. تحتاج الى دراسات مُطوّلةٍ، وإلى كتبٍ عديدة للإلمام بها... فكما قلت في بداية كلامي إنّ كلَّ حكمةٍ من حكم الإمام تصلحُ لأن تكون عنواناً لكتابٍ او لدراسة... فحكمه جامعة تناولت الحياة الإنسانية بأمورها المختلفة، ولم تقتصر على ناحيةً معيّنة من نواحي الحياة... لذلك أقول إنها كافيةٌ، برأسها، لإيجاد المجتمع الإنساني الفاضل.
لا شكَّ في أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب شخصيّة قلّما أنجبها الزمان، وحبلت بها الأعصر، شخصيّة حفرت على شغاف القلب، بأقوالها وكتاباتها، تسابيح الأمل والرجاء، وأنبتت ماءً في صخرة القساوة، وزرعت ورداً في دروب الناس، واضاءت عتمة الضلال، وديجور الجحود، بأنوار الهدى، وشعلة الإيمان، فكان الإمام صوت العدالة الصارخ في بريّة الظلم، ومؤسساً لكثيرين من علماء الأخلاق والمجتمع في غير منطقةٍ من العالم، ليتوسّعوا في التنظير، والتأسيس لمجتمعٍ إنسانيٍّ فاضل، عناوينه: الحق والعدل والمساواة، لأنّ ما تركه مستمد من روح الحياة، ومن حقيقة التجربة، ويشكّل نظاماً اجتماعياً، ومبادئ أخلاقية، وثورة على الشرّ والرذيلة. فالإمام يرفض الجاهلية، بمعناها الواسع، عبر الزمان والمكان. ودعواها، ويحاول قلعها من صدور الناس، لذلك كانت آراؤه في السلوك الفردي والسلوك الأخلاقي والسلوك الاجتماعي. 

ولا شكّ في أن تقارباً كبيراً بين دُعاة الخير والقيم والمُثل العليا، إن في أنماط حياتهم وإن في أقوالهم وأفعالهم، في كلّ نقطةٍ من المكان، وفي كل لحظةٍ من الزمان، لذلك نجد تعدّّد مصادر أقوال الإمام، ونجد تشابهاً بينها وبين ما ورد في قصص التوراة، خصوصاً على لسان سليمان الحكيم، كذلك نجد التقارب مع ما ورد في الأناجيل المقدّسة، خصوصاً في التسامح والرأفة ومعاملة القريب والآخر... بالإضافة الى التقارب مع الأمثال والحِكم التي وردت عند الشعوب القديمة وفي فلسفاتها، كالكنعانيين، والمصريين، والفرس، والهنود، واليونان وغيرهم... هذا مع تأكيد التأثّر الأول بالقرآن الكريم وبتعاليم الدين الإسلامي.
أقوال الإمام وكتاباته دستور حياةٍ ليتها تتحققّ على هذه الفانية.



رقم: 35291

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/news/35291/حكمه-وأقواله-دستور-حياة

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com