تاريخ النشر2017 23 November ساعة 21:49
رقم : 295249

أمراض الزعماء ومتلازمة الغطرسة

تنا-بيروت
يقدّم الكتاب عرضًا شاملًا للأمراض النفسية والجسدية لرؤساء دول وحكومات تعاقبوا على السلطة في الأعوام المئة الأخيرة، ويبيّن أثر هذه الأمراض في عملية صنع القرار.
أمراض الزعماء ومتلازمة الغطرسة
قد لا تكون مقاربة أثر السّلطة في النفس البشرية طرحًا مستجدًا في مجال البحث والدراسة. لعقود من الزمن، كانت هذه الإشكالية مثار اهتمام وجدل، لتقصّي دور السّلطة في حرف سلوكيات بعض القادة السياسيين على وجه الخصوص، وإفقادهم القدرة على تقدير الوقائع وممارسة الحكم بشكل عقلاني وواقعي. من هنا، يأتي كتاب "في المرض وفي القوة: عن متلازمة الغطرسة وأمراض زعماء الدول خلال السنوات المئة الأخيرة" (نقله إلى العربية يوسف الصمعان، دار جداول، 2017)، ليرصد العلاقة بين المرض والسياسة في إطار ليس جديدًا من الناحية النظرية، ولكنَّه ربما يكون من أكثر الأبحاث شموليةً في تقصّي الأمراض النفسية والجسدية لبعض رؤساء الدول ورؤساء الحكومات في القرن الأخير.

ينطلق ديفيد أوين من خلفيته الشخصيَّة كطبيب وسياسي ليعلّل اهتمامه بهذا المجال. أمضى أوين في ميدان السياسية ما يقارب ستة وعشرين عامًا، عاش خلالها توترات الحياة السياسية وضغوطاتها. وعندما كان وزيرًا للخارجية البريطانية (1977-1979)، واجه أحداثًا مختلفة أظهرت له "مدى تأثير المرض في عملية الحكم وصنع القرار لدى رؤساء الحكومة إلى درجة الحماقة والغباء والتهور"، فاهتمَّ بتأثير مرض رؤساء الحكومات في مسار التاريخ، لأثره في عملية صنع القرار، والأخطار الكامنة في إبقاء المرض سرًا، وصعوبة إزالة القادة المرضى في الديمقراطيات، وكذلك في الديكتاتوريات، وأخيرًا المسؤولية التي يضعها المرض على عاتق أطباء رؤساء الحكومات في الكشف عن الأمراض.

كان أوين أيضًا طبيبًا متخصصًا في الطّبّ العصبي. تدرّب في اختصاص الطبّ النفسي، ومارس الطب لمدة ستّ سنوات. ساعد في علاج سياسي بارز مدمن على الكحول، وآخر كان يعاني الاكتئاب الشديد، وشهد حجم الضغط الذي كانا يرزحان تحته. وبذلك، انطلق من تجربته السياسية والطبية لتأليف هذا الكتاب الذي صدر في عام 2009 بالإنجليزية قدّم فيه عرضًا شاملًا عن علل رؤساء دول ورؤساء حكومات تعاقبوا على السلطة في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في الأعوام المئة الأخيرة، وشخصيات مختلفة من مثل ستالين وخروتشوف وديغول وهتلر وموسوليني ومحمد رضا بهلوي، الذي كان آخر مسؤول غربي يلتقي به قبل سقوطه، لينتهي بمحاولة اقتراح محددات تنهج لاضطراب الشَّخصيَّة المكتسب بفعل ممارسة السّلطة.

درس الطبيب والسياسي البريطاني تفصيلًا الأمراض "التي يحملها رؤساء الحكومة معهم حين يدخلون مكاتبهم أو تلك التي تظهر عليهم أثناء ممارستهم لمهامهم العليا، أو تلك التي تكون نتيجة للمرض الذي يصيبهم بسبب ممارسة الحكم"، لينطلق بعدها في شرح "ظاهرة أشد أهمية وغير مألوفة"، تتمثَّل بتأثير تجربة ممارسة الحكم في رؤساء الحكومات، من خلال ما أطلق عليه تسمية "متلازمة الغطرسة"، التي يرى أنها شكل من أشكال المخاطر المهنية التي قد يصادفونها، كما يصادفها غيرهم في مجالات أخرى، من مثل المجال العسكري أو مجال الأعمال، لأنها تتغذى من العزلة التي غالبًا ما تحيط بهؤلاء، وهي تنشأ، في اعتقاده، عند بعض القادة دون غيرهم، نتيجة الظرورف الخارجية الخاصة والشخصية لكل منهم.

يوضح أوين أن "الغطرسة" ليست مصطلحًا طبيًا، وأنّ معناها الأساسي يعود إلى اليونان القديمة، ليشرح بعدها أنَّ التصرف يكون متغطرسًا "عندما تظهر قيادة قوية فخرًا وغرورًا وثقةً زائدة في نفسها، وتتعامل بوقاحة واحتقار مع الآخرين"، ويرجع فضل اكتشاف مفهوم الغطرسة وأشكاله وأسبابه وانعاكاساته إلى المسرح أكثر منه إلى الفلسفة.

وفي رأيه، إنّ الغطرسة تنشأ بمرور الوقت، فعامان في السّلطة، يصاحبهما الإنجاز والنجاح، كافيان لتشكيل هذه "المتلازمة"، مشيرًا إلى أنّ شيئًا ما يصيب الاستقرار النفسي والعقلي لدى بعض الناس عندما يكونون في السلطة، يمكن التعبير عنه بعبارة برتراند راسل "الثمالة بالسلطة"، فالسلطة هي "نوع من المخدرات التي تطيح بالعقل، وليس كلّ زعيم سياسي يملك الطبع الضروري والمتجذّر للوقوف في وجهه"، يضيف. ويصف الغطرسة عند السياسيين بأنها نوع من فقدان التوازن، يظهر لديهم حين يعميهم نجاحهم على الواقع ويشعرون بثقة ذاتية زائدة تجعلهم يحتقرون النصيحة المنافية لطرحهم، وأحيانًا النصيحة بشكل مطلق.

بوش وبلير وتاتشر عانوا من الغطرسة
يرى أوين الَّذي تزعّم الحزب الاشتراكي الديمقراطي في بريطانيا نحو سبع سنوات، أنَّ قوة الأعراض السلوكية التي قد تستدعي تشخيصًا بمتلازمة الغطرسة، تنمو كلَّما بقي رئيس الحكومة مدة أطول في منصبه. وفي اعتقاده، ينبغي توافر ثلاثة أو أربعة أعراض تظهر في أصحاب السلطة قبل أن نحكم على سلوكهم بالغطرسة، وفقًا للمواصفات التقريبية التالية: النرجسية، الميول إلى القيام بتصرفات تضعهم تحت دائرة الضوء من أجل تفخيم صورتهم وتحسينها، القلق من التباين غير المتكافئ بين الصورة والأداء، التحدث بطريقة تبشيرية عن إنجازاته، تعريف أنفسهم بأنهم هم الدولة، إلى درجة أنهم ينظرون إلى وجهة نظرهم ومصالح الدولة كشيئين متشابهين، ميلهم إلى الحديث عن أنفسهم بصيغة الغائب أو استخدامهم "نحن" التفخيميَّة الملكيَّة، الثقة الزائدة إلى درجة المغالاة في طريقة قدرتهم على تقييم الأشياء، واحتقارهم النَّصائح والنقد الموجّه إليهم من الآخرين.
 
ومن صفات الغطرسة التي يتّسم بها بعض السياسيين أيضًا، ثقتهم المطلقة بأنفسهم، واعتقادهم أنهم لا يحاسبون أمام محاكمة دنيوية من لدن زملائهم أو الرأي العام، وتمسّكهم بإيمان راسخ لا يتذبذب بتبرئتهم أمام المحاكم، وعدم الراحة والتهور والاندفاع، وفقدانهم الاتصال بالواقع مع تزايد مطرد في العزلة، والعجز عن تنفيذ سياسة ما كعاقبة، وهي ما "يمكن تسميته عجزًا غطرسيًا، حيث تخرج الأمور عن السيطرة نتيجة للثقة المبالغة في النفس، التي تدفع القائد إلى عدم الاهتمام بعقد السياسة وحبكتها".

كلّ هذه الصفات، يقول أوين، ناجمة عن الغطرسة التي يصف الجمهورُ السياسيَّ المتصف بها بمصطلحات غير دقيقة، من مثل "أحمق"، "مجنون"، و"مخبول".

وبذلك، وفقًا للمعطيات التي توصّل إليها، كان توني بلير ودايفيد لويد جورج ومارغريت تاتشر وجورج بوش الابن من رؤساء الحكومات والؤساء الذين عانوا متلازمة الغطرسة في القرن الأخير. كذلك، عانى أدولف هتلر هذه المتلازمة. بنينو موسوليني كان يعاني الاكتئاب واضطراب ثنائي القطب، ومثله ماوتسي تونغ، وكانا يعانيان متلازمة الغطرسة، في حين عانى "خروتشيف الهوس الخفيف تمامًا كالكثير من الدكتاتوريين". ويشير أوين أيضًا إلى السلوك المتغطرس للرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير حيال العراق وأفغانستان. في المقابل، عمل المؤلف في حكومتين بقيادة رئيسي الوزراء البريطانيين هارولد ويلسون وجيمس كالاهان، اللذين لم يصبحا ثملين بالسلطة، وكلاهما "كان منسجماً في الحكم" إلى حدّ كبير.

كذلك، يلفت الباحث إلى أنّ الرئيس الأميركي ليندون جونسون كان يعاني الاكتئاب والاضطراب الثنائي القطب إبّان رئاسته للولايات المتحدة الأميركية، كما كان ونستون تشرشل يعاني اضطراب ثنائي القطب، وتعرّض كثيرًا لحالات عميقة من الاكتئاب، يصفها هو نفسه بمزاج "الكلب الأسود".

وهنا، يرى أوين أنّ "الاكتئاب والمرض العقلي لا يمكن اعتبارهما صفات تنزع الأهلية عمن هم في المناصب العامة"، ويقدّم في ذلك إبراهام لينكولن نموذجًا، فيعتبر أنه الحالة الأكثر إثارة للاهتمام، فقلة من الرؤساء عانوا مشاق الاكتئاب لفترة أطول منه، غير أنه رفض الانحناء أمامه. وقد واجه عندما كان شابًا تقلبات عميقة في مزاجه، أكثرها حالات إحباط عميق، حتى إنه كتب مقالًا عن الانتحار.

الأمراض النفسية للزعماء
ويستعرض في الكتاب بعض الأمراض النفسية، كالإدمان واضطرابات المزاج بأنواعها، ويستحضر في ذلك رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن الذي كان مدمنًا على الأمفيتامين المنشط وعلى أنواع أخرى من المهدئات، وجون كينيدي الذي كان يستهلك أصنافًا من المخدرات تؤثر في المزاج، قبل تولّيه الرئاسة وبعدها، "وكان المزيج الذي يعانيه من آلام الظهر وحقن الأمفيتامين المنشّط والستيرويد غير المنضبطة، وتداخله مع العلاج البديل من التستسترون والستيرويد لمواجهة مرض أديسون، قد خلق عنده حالة من الإنهاك والأرق وتقلّب المزاج، حدَّت بشكل كبير من قدرته على القيام بمهامه الرئاسية".

وفي العلل الجسدية، تعرَّض أوين لأمراض بعض السياسيين، من مثل روزفلت الذي أُصيب بالعمى في عينه اليسرى أثناء ممارسة الملاكمة، ولكنَّه لم يكشف عنها أبدًا أمام الناس، كما عانى الاكتئاب، ولكنه سعى إلى التغلّب عليه من خلال المغامرة وممارسة الرياضة البدنية.

أما شاه إيران محمد رضا بهوي فقد أخفى بدوره إصابته بمرض دم غددي مزمن من نوع غير معتاد نسبيًا من ابيضاض الدم اللمفاوي المزمن نتيجة لتضخّم الطحال، وحافظ على سرّيته إلى حين ظهور أعراض أكثر سوءًا.

وبحسب أوين، كانت واحدة من الحالات المرضية الأكثر غرابة، هي سرطان الفم عند الرئيس الأميركي غروفر كليفلاند، الذي أُجريت له عملية جراحية لسرطان الفك في سرّية مطلقة على متن يخت في ميناء نيويورك في العام 1893، ليزال بعدها جزء كبير من الفك، ويقال للإعلام إنه يعاني وجع الأسنان فقط.

الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران أصيب بسرطان البروستات معظم الفترة التي أمضاها في الحكم (14 عامًا)، واستطاع إخفاء المرض عن الشعب الفرنسي لمدة أحد عشر عامًا، إلى أن شاع الخبر عندما صار من المحال تفادي إجراء عملية جراحية في المستشفى.

ينقل المؤلف أيضًا أنّ بعض التقارير تحدثت عن إصابة رئيس الولايات المتحدة الأميركية ريتشارد نيكسون، بانهيار عصبي، كما تحدّثت عن حالة سكر دائم لديه، "إذ لم يكن شربه في المناسبات الاجتماعية بسيطًا، حتى إن أطباءه صنّفوا ذلك في وقت لاحق بإدمان الكحول".

وفي كلِّ الحالات المرضية التي تعرّض لها، حاول أوين أن يبيِّن التبعات الَّتي تترتب على إصابة رؤساء الحكومات والدول ببعض الأمراض والعلل الجسدية والنفسية، والحاجة إلى إعادة تحديد هذه الأمراض، حتى تؤخذ متلازمة الغطرسة بعين الاعتبار. وقد عبّر ختامًا عن رغبته في أن تقوم مهنة الطّبّ بالتعمق في الفرضيَّة القائلة إن هناك نوعًا من السلوك المتغطرس يظهر عند بعض الزعماء، وخصوصًا السياسيون منهم، والَّذي يمكن وصفه بأنه يشكّل متلازمةً معترفًا بها طبيًا، أطلق عليها متلازمة الغطرسة.

ورغم أن الكاتب يعتقد أن لا تفسير علميًا لها إلى الآن، ومن الممكن ألا يتواجد علاج طبي في المستقبل، فإن الأهم، من وجهة نظره، أنّ هذه المشكلة باتت أكبر من مجرد مرض عادي، فهي تمثل تهديدًا خطيرًا للعالم. من هنا، يقدّم جملة من التوصيات الإجرائية التي تسهم في التقليص من فرص أن يكون رؤسات الدول أو رؤساء الحكومات مرضى أثناء أدائهم وظائفهم، نظرًا إلى أثر بعض الأمراض في النظام السياسي بأكمله، أبرزها التقييم الطبي المستقلّ قبل تولّي السّلطة وبعدها، والاعتماد على تقوية آليات المراقبة والتوازنات الديمقراطية، والتدخّل سياسيًا واقتصاديًا، وربما سياسيًا، لحماية الشّعوب من الرؤساء أو النظام الحاكم.
 
https://taghribnews.com/vdcaymnuo49nou1.zkk4.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز