تاريخ النشر2015 5 January ساعة 10:58
رقم : 178467
من رواد التقريب

الشيخ الزنجاني نجم في سماء التقريب والوحدة

تنا
إنّ فكرة الوحدة الإسلاميّة والتقريب بين المذاهب، وبعبارة أكثر وضوحاً: فكرة التعايش المذهبي السلمي بين المسلمين، والاحترام المتبادل بين اتّجاهاتهم وآرائهم الاجتهادية، من الأفكار التي كانت موضع اهتمام هذا الرجل، ومحلّ رعايته بصورة تكاد تطغى على كلّ جوانبه المشرقة، ونشاطاته المتعدّدة في حقول العلم والمعرفة الدينية والفلسفية والإنسانية.
الشيخ الزنجاني نجم في سماء التقريب والوحدة

نبذة عن حياة هذا المصلح الكبير
لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إنّ ثمة رجالاً كان لهم نصيب في سماء التقريب والوحدة، حيث ساهموا بصورة كبيرة في صيانة وحماية وحدة هذه الأمّة، فانطلقوا بفكر وقّاد وحماس متزايد في هذا السبيل، فقطعوا بفكرة "التقريب" أشواطاً عجز غيرهم عن قطعها، وحقّقوا انجازات على هذا الصعيد لم يقم بها سواهم.

ومن أبرز هؤلاء يطالعنا اسم "الشيخ الزنجاني" الذي لم يختلف اثنان في أنّه قد ساهم مساهمةً فعّالةً في هذا الميدان، وليس فقط في مجال الكتابة والتدريس، بل في مجال التنظير الاعتقادي، والتنظيم المنهجي أيضاً، إضافة إلى الإشراف العملي لبعض البعثات العلمية ضمن سياق النشاط التبليغي للفكر التقريبي إلى أكثر من بلد إسلامي.

إنّ فكرة الوحدة الإسلاميّة والتقريب بين المذاهب، وبعبارة أكثر وضوحاً: فكرة التعايش المذهبي السلمي بين المسلمين، والاحترام المتبادل بين اتّجاهاتهم وآرائهم الاجتهادية، من الأفكار التي كانت موضع اهتمام هذا الرجل، ومحلّ رعايته بصورة تكاد تطغى على كلّ جوانبه المشرقة، ونشاطاته المتعدّدة في حقول العلم والمعرفة الدينية والفلسفية والإنسانية.

وامتياز هذا الرجل بهذا الاهتمام المفرط قد يكون لأسباب عديدة ومختلفة، تتعلّق بظروفه الخاصّة، أو ظروف المجتمع الإسلامي برمّته، الذي كان يعيش في حقبة عصيبة من الزمن، حيث الحرب الكونية المدمّرة من جهة، وتكالب الأطراف المنتصرة على التهام الأمم والدول بشراهة من جهة أخرى... ولكن في الوقت نفسه كان هذا الاهتمام بحدّ ذاته يعبّر عن اتّجاه فطري وعملي لديه.

فقد كان(رحمه الله) يؤمن إيماناً راسخاً بأنّ زمن العصبية المذهبية لابدّ أن يولّي، والنفرة الطائفية يجب أن تنجلي غبرتها عن وجه هذه الأمّة، وذلك لأنّ اختلاف الأشقّاء لا يمكن أن يدوم أو يطّرد، فلابدّ أن يأتي يوم يحقّقون فيه نسبهم إلى أبيهم، وينتمون فيه إلى أصلهم الذي انبثقوا منه، وتفرعوا عنه.

ولكي تنمو هذه الروح باطّراد، وتورق بانتظام لتضفي بظلالها لأجل المسلمين جميعاً، فلابدّ أن يسود الاقتداء والاحترام بينهم. فينبغي أن يقتدي السنّي
بالشيعي ويحترمه، والمالكي بالشافعي، والحنفي بالإمامي... وبالعكس، وتتبادل المنافع بينهم، وتتّصل الآراء بموضوعية فيما بينهم، من دون انحياز ولا عصبية.

وهذا إن تمَّ فسينعكس أيّ تحوّل وتطوّر يحصلان في هذا الجانب على الساحتين العريضتين: الشيعية والسنّية، بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن ثم تبلوره وتأثيره في تصعيد مديات هدي الجماهير المسلمة نحو بناء المجتمع الإسلامي الهادف والقوي.

لقد ترك هذا الرجل أثره الكبير والواضح في توجيه اهتمام المسلمين بهويتهم الإسلامية المشتركة، بسبب نشاطاته الإصلاحية المكثّفة، وفعالياته المؤثّرة التي تصبّ في وحدة المسلمين، من خلال أسفاره الكثيرة، وجولاته العريضة في عدّة أقطار عربية وإسلامية، لا لشيء إلاّ ليؤكّد على ضرورة طرح الخلافات المذهبية جانباً، وتجنّب كل أشكال العصبية الطائفية، بعد تذويب عواملها المساعدة والمتمثّلة بالجهل ودسائس اليهود والاستعمار المقيت.

ترى من هو الشيخ الزنجاني؟
نسبه وشرف مقامه
هو الشيخ عبدالكريم بن محمد رضا بن محمد حسن بن محمد العلي النجفي ثم الزنجاني أحد مشاهير علماء الإماميّة، ومن كبار الدعاة إلى الوحدة الإسلاميّة، والتقريب والتكاتف بين المذاهب. كان قد هاجر جدّه محمد العلي إلى «زنجان» في شمال غرب إيران سنة ١٢١٧ هـ / ١٨٠٣م وسكنها، فنُسب الشيخ اليها.

كان فقيهاً، اُصولياً، مجتهداً، شارك في كثير من العلوم الدينية والإنسانية، ودرس الكثير من تلك العلوم لدى أساتذتها، من الفقه والحديث والاُصول والفلسفة، فأصبح عالماً كبيراً يُشار إليه بالبنان، ثم خطيباً مفوّهاً جريئاً، يسلب لبّ مستمعيه، ويكسب ودّ مخاطبيه.

ولادته ونشأته العلمية
ولد الشيخ عبدالكريم عام ١٣٠٤ هـ / ١٨٨٧م في بلدة "باروت" من نواحي مدينة زنجان على المشهور، اهتمّ والده بتعليمه وتثقيفه اهتماماً بالغاً، حيث خصّص له أساتذة لتدريسه فنون العلوم السائدة في ذلك الزمان، حتى أن أكمل مراحلها سافر إلى العاصمة طهران ليواصل فيها دراسته، ولم يغفل عن متابعة القضايا السياسية الجارية على الأمّة الإسلاميّة، والحوادث الواقعة حولها، المنشورة في الصحف والمجلاّت الصادرة آنذاك.

ومن ثمّ قصد النجف الأشرف حاضرة الحوزة العلمية الشيعية سنة١٣٢٦هـ / ١٩٠٩م ولم يتجاوز عمره الثاني والعشرين ربيعاً، ليواصل دراساته العليا في العلوم الدينية، فحضر الأبحاث العالية عند العالمين الشهيرين: آية الله السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، والسيد محمد الفيروزآبادي اليزدي... وحاز على ملكة الاجتهاد لما كان يتمتّع به من ذكاء مفرط، وذاكرة حادّة، كانتا السبب في أن يبرع في تحصيله الدراسي، ويمهر في الفلسفة والكلام لدرجة أن وصفه البعض بـ «فيلسوف الشرق».

وتصدّى للبحث والتدريس أيضاً، كما ونشط في التأليف بصورة مثيرة، فرغم مشاغله وكثرة أسفاره، فقد ترك ما يربو على السبعين مؤلَّفاً.

وفي عام ١٣٤١ هـ / ١٩٢٧م برز اسمه كأحد المرشّحين للمرجعية الدينية الشيعية وهو لمّا يبلغ الـ(٣٧) عاماً، حيث نشر في تلك السنة رسالته العملية في الفقه.

نزعته الإصلاحية ونشاطاته على صعيد التقريب
عُرف الشيخ عبدالكريم الزنجاني بميوله الإصلاحية، ونزعته العارمة في ترميم البيت الإسلامي، من خلال دعوته إلى الوحدة الإسلامية، ورغبته في إيجاد الحدّ الممكن من التقريب بين المذاهب الإسلاميّة وإن لم يعدّ رسمياً داعيةً له.

إذ قام سنة ١٣٥٤ هـ / ١٩٤٠م برحلة واسعة، شملت أقطاراً إسلاميةً وعربيةً عديدة، كالهند وقفقاسيا وسوريا ولبنان والأردن ومصر وفلسطين.

وقد أبدى براعةً كبيرةً أثناء رحلاته، تجسّدت في سلسلة كلماته وخطاباته التي كان يلقيها في تلك البلدان، وبمحضر العلماء والفقهاء والاُدباء والمثقّفين، فظهرت للجميع مواهبه العلمية والفلسفية، وقدراته على تصريف الكلام والمسائل بوجوهها المناسبة، وإمكانياته على تسديد أفكاره إلى قلوب مستمعيه على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية.

فلم يرجع بخفّي حنين من رحلته الطويلة، بل على العكس قد نال إعجاب الباحثين وعلماء المذاهب الأخرى، وجذب احترام وتقدير مشايخ أهل السنّة، وفي طليعتهم مشيخة الأزهر المتمثّلة بالشيخ محمد مصطفى المراغي (١٣٦٤ هـ / ١٩٤٥م) ورئيس المجلس الإسلامي والقاضي الشرعي لمدينة بيروت، والأستاذ محمد فريد وجدي (١٣٧٣ هـ / ١٩٥٤م) صاحب دائرة المعارف الشهيرة والأستاذ محمد عبدالرزاق كُرد علي (١٣٧٢ هـ / ١٩٥٣م) رئيس المجمع العلمي بدمشق وصاحب مجلة «المقتبس»، والأستاذ الدكتور طه حسين (١٣٩٣ هـ / ١٩٧٣م) عميد الأدب العربي ووزير المعارف المصرية آنذاك، الذي أبدى إعجابه الشديد بشخصية الشيخ وبيانه وعلمه، حيث صادف أن حضر محاضرته الفلسفية المقارنة، فلم يتمالك نفسه أن قام وصعد المنصّة وأخذ بيد الشيخ وصار يقبّلها تقديراً وإجلالاً له.

يروي السيد محمد الغروي في كتابه «مع كبار علماء النجف» أثناء ترجمته للشيخ: أنّه سمع منه شخصياً هذه القصة التي رواها للشيخ الحجّة محمد حسين كاشف الغطاء لمّا زاره في بيته عند عودته من رحلته الطويلة تلك، فقال: إنّه بعد أن صعد الدكتور طه حسين المنصّة وقبّل يدي أضاف قائلاً: «هذه أول يد قبّلتها وآخر يد».

وقال أيضاً: أنّه جاءني مرّةً ثانية بعد أن استمع محاضرةً فلسفيةً حول «الزمكان» فقال لمن حوله: «كلّما استمعت إلى الإمام الزنجاني حسبت أنّ ابن سينا
حيّ يخطب».

وكان الشيخ عبدالكريم أثناء أسفاره يحلّ ضيفاً على الملوك والاُمراء والشخصيات الاجتماعية والعلمية الكبيرة، فاكتسب شهرةً في الأوساط العلمية والثقافية والاجتماعية في تلك البلدان الإسلاميّة، فكانت فرصةً مؤاتية لنشر دعوة الوحدة والتكاتف، والوقوف صفّاً منيعاً بوجه الاستعمار والصهاينة الغزاة.

أوضاع العالم الإسلامي
لا نرى حاجةً في أن نقيم دليلاً على أنّ السبب الوحيد لانحلال المسلمين وانحطاطهم هو تفرّق كلمتهم، وتباغضهم وتعاديهم، وسعي كلّ طائفة التشهير بغيرها وتكفيرهم، فإذا اعتقدت كفرهم لا محالة تسعى في هلاكهم وإبادتهم.

وأقوى ظاهرة للاختلاف ما نراه بين السنّة والشيعة، فقد تباعدوا، وطال عليهم الأمد في هجر بعضهم بعضاً، وتوالت على ذلك عصور ليست بالقليلة، فكان في الأمر متَّسع للأراجيف المختلفة، والتمويهات الكاذبة، والدعايات الفارغة الجوفاء، وأخذ كلٌّ منهما يعزو إلى أخيه أقوالاً أبعد في التصوّر ممّا كان يُشاع في الأساطير!

كلُّ ذلك لعوامل سياسيّة خلقها بعض الملوك من الأمويّين والعباسيّين وغيرهم، وتأثّرت بها الأجيال، وتوارثها الأعقاب، فتفرَّقت شيعاً لأسباب أقلّ ما توصف به أنّها لا تثبت للنقد والتحليل، ولآراء فقهيّة اتّسع صدر التاريخ الإسلاميّ لألوف منها، نشرها أصحابها في مختلف الممالك الإسلامية، ولم يكن لها سوى مقارعة الحجّة بالحجّة، ومناهضة الدليل بالدليل، وليس فيها ما يدعو إلى إثارة حرب، أو سفك قطرة من دم، أو إلى تجريح أو تشهير أو تكفير، فإنّ الخلاف بين مذهب الشيعة الإماميّة وبين المذاهب السنّية لا تزيد على الخلاف بين هذه المذاهب الأربعة بعضها عن بعض.

وفي محاضرة ألقاها الشيخ في مقر رابطة الشباب العربي العام في القاهرة، اشار إلى ان دعاة الإصلاح بذلوا كلّ جهودهم في سبيل الدعوة إلى الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب الإسلامية، ولكن كلّ ذلك لم ينتج ثمرةً يعتدّ بها، بل نجدها صفراً على الشمال بمقارنتها مع ما قام به المصلحون في سائر الأُمم. والسبب في ذلك أمران:

الأوّل: أنّ الدعاية للاتّحاد في اُمتّنا العربيّة والإسلامية لاتزال ناقصةً، غير مأخوذة بأطرافها من جميع النواحي، فكلّ ما نسمعه ونطالعه في هذا الشأن محدود المسافة، لايذهب فيه الخطيب أو الكاتب إلى أكثر من وصف فضائل الوحدة ووجوب التضامن وضرورة الاتّحاد، وقد علم هؤلاء المصلحون والمفكّرون وقادة الرأي أنَّ الأمّة الإسلاميّة لم يستفزّها هذا الوتر إلاّ بصورة مؤقّتة، أليس هناك أسلوب غير هذا الوتر وأنغامه المستجدّة، وناحية عملية اُخرى توصل بالمجتمع الإسلامي إلى الغاية المنشودة؟

لقد دعوا إلى الوحدة الإسلامية، فلم يجدوا النتيجة المرضيّة، أفلا يجب البحث عن سرّ ذلك؟
ولقد دعوا إلى نبذ العداوة والبغضاء، فلم يجدوا غيرهما، أفلم يلزم السعي إلى اكتشاف ناحية الضعف، ومعرفة ما للمسلمين من نفسيّات يتبادلون فيها سوء الظنّ وقبح التصوّر، وأنّها نشأت من قضايا تاريخيّة، وحوادث قديمة تأثَّرت بها الأجيال وتوارثها الأعقاب، فيسيّرهم بها أعداء الإسلام نحو التنابذ والخصام، ثم معالجتها بتعريف كلّ فرد واجبه وكيفيّة القيام به؟

والثاني: دسائس استعماريّة كانت ولاتزال تُحاك حول المصلحين في أمتّنا العربيّة والإسلامية، أفلم يُتّهم الإمام المصلح الشيخ محمد عبده بأنّه ملحد، وأنّه صنيع الإنجليز، كما اتّهم به الزعيم سعد زغلول؟...» إلى آخر كلامه.

وختم الإمام الزنجاني خطابه هذا بما يأتي: «فاتّضح ـ على ضوء الحقائق المحسوسة ـ أنّ قضيّة الوحدة الإسلامية خرجت عن طور الدعوة والبرهان، والحجّة والبيان، وصارت بحيث تُرى ضرورتها بالعين وتُلمس باليد. وإنّما الأمر المهمّ اليوم والسعي والعمل والدعوة الجدّية العملية، والاستغناء عن الكتابة والأقوال بالجهود والأعمال. نحن يلزمنا العمل، يلزمنا الصدق، يلزمنا الإخلاص، يلزمنا التضحية والمفاداة، وهي الحياة أو الممات: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُـحْسِنِينَ)...»[i].

لم يكتف أستاذنا الأعظم الإمام الزنجاني بنشر دعوته الإصلاحية الإنسانية، ورسالة الوحدة الإسلامية الشاملة لأربعمائة مليون مسلم[ii] من حدود الصين إلى شاطئ المحيط الأطلسي، بل قام برحلة شاقّة حافلة بتوفيق يتلوه توفيق، وفتح عظيم يتلوه فتح عظيم، وأخذ يجوب الأرض، ويركب البحر، ويزور الأقطار العربيّة والعواصم الإسلامية، ولم يدخل بلداً إلاّ ترك فيه آثاراً عظيمة خالدة محسوسة ملموسة لاتقبل الانمحاء أبداً، ولم يقتصر في رحلته على قطر أو قطرين، إذ وسع إرشاده أكثر البلاد، ووهب نفسه لكافّة أقطار الشرق الإسلامي، فسافر إلى مصر، وسوريا، ولبنان، وشرق الأردن، وفلسطين، وإيران، والهند، والباكستان، وقفقاسيا، وغيرها.

وكانت هذه الرحلة تحمل مشعلاً عظيماً من مشاعل تقارب شعوب المسلمين بما لم يسبق إليه مثيل، وسجّل للإسلام والتشيّع أرقاماً عالية مدهشة يفوق بها على مصلحي القرون الماضية والحاضرة، وأصبح عمله إعجازاً.

ألا ترى أنّها معجزة من معجزات القدر أن يهيّئ الله تعالى للإمام الزنجاني طلوعه على مصر ـ ومصر حاضرة الثقافة العربية، وزعيمة الشرق العربي في مكانتها العلميّة والأدبيّة، وجبروت ثقافتها ـ وهو فرد، ولكنّه كان جيشاً في إهاب[iii] رجل، ورجلاً في عزيمة جيش، إذ كلّ عضو في الروع منه جموع، لأنّه كان من نفسه الكبيرة في جيش وإن خُيّل أنّه إنسان.

لقد وقف الإمام الزنجاني في مصر على ذروة توازي ذروة الهرم الأكبر، بل تعلو عليها، وكأنّ خيوطاً من النور تصل بينه وبين عظماء الكنانة الذين ساهموه في جهاده المقدّس العظيم في سبيل الوحدة الإسلامية.

وتجلّت ميزة العلم والفلسفة، وشدة العقل والإخلاص في أقواله وأفعاله، فقد اُوتي منها ما يضمن له منزلة رفيعة في نفوس الاُمم في مشارق الأرض ومغاربها، ومكانة سامية في قلوب زعمائها وأعلامها ـ وبمثل هذا كان الإمام الزنجاني يعدل أُمماً، وتنطوي في مؤهّلاته أجيال ـ فأمالوا له الأعناق خضوعاً، وطأطأوا الرؤوس أمامه تواضعاً، وآمنوا بدعوته إلى الاتحاد الإسلامي، واعترفوا بمذهب الشيعة الإماميّة الاثني عشرية، وأحلّوه مكاناً لائقاً به، وأصبح الكلّ حاسّة سمع لما يُلقيه عليهم من بليغ القول وطيّب الكلم، وخالص الحكمة ولباب الفلسفة، وشعروا أنّه مصلح عظيم مخلص لا يستهدف سوى الصلاح والإصلاح، ولم يسلك إلاّ طريق الوحدة والسلام، فقابلوه بوافر الحشمة وفائق الاحترام، وأعدّوا له منصة الإرشاد، وائتمُّوا به فكان خير إمام وهاد.

ولقد عرف الناس في أقطار الشرق العربي، وديار الإسلام جميعاً، بل في المشرق والمغرب، صوته العالي الذي ترجَّع في وادي النيل، داعياً إلى الوحدة الإسلامية الشاملة، والسعادة الإنسانيّة الكاملة، فرنَّ صداه في وادي بردى وسهول الرافدين وبطاح الجزيرة، ودوى به الشرق، وفتح مجالاً واسعاً للعمل الجدّي في سبيل الوحدة الإسلامية المنشودة.

إنّ عشرات الاحتفالات التاريخية التي اُقيمت تكريماً للإمام الزنجاني في كلِّ بلد دخله: في مصر وسوريا ولبنان والقدس بفلسطين وشرق الأردن والهند والباكستان وإيران، وسائر أقطار الشرق الإسلامي والعربي، والتي نشرت صحف العالم صوراً مصغّرة منها، كانت أصدق تعبير عبّرت بها هذه الاُمم ـ على اختلاف طبقاتها ومذاهبها ونزعاتها ـ عمّا تكنَّه من الإعجاب العظيم بدعوته الإصلاحيّة الكبرى، وعن اقتناعها برسالته العظمى، وإذعانها بنجاح دعوته، ومواقفه التاريخية وأعماله الخارقة التي وصفها كبير اُدبائها بقوله: «ولولا أنَّ هذه الخوارق المعجزات من أعمال الزنجاني وقعت بمرئىً منّا ومسمع، ونشرتها الصحف وتناقلتها نشرات شهود العيان، لكانت أقرب إلى أعمال أبطال الخيال منها إلى أعمال أشخاص التاريخ».

وفاته
وعاد الشيخ إلى النجف موطنه الأصلي سنة ١٣٥٥ هـ / ١٩٤١م ليستقرّ فيها، ويواصل نشاطاته العلمية في البحث والتأليف والتدريس، ولم يخرج منها حتى وافاه الأجل في جمادي الثانية عام ١٣٨٨ هـ / ١٩٦٨م ولم يعقّب.

المصدر : رسالة التقريب عدد 62
https://taghribnews.com/vdcce4qsm2bqm08.caa2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز