تاريخ النشر2016 14 June ساعة 14:48
رقم : 234797

حول مراجعة الموروث ونقده

تنا
إن الدعوة إلى مراجعة الفكر/الخطاب الديني وتطويره وتجديده، لم يعد مطلباً أو طرحاً ترفياً، بل أصبح ضرورة ملحة في ظل انتشار ثقافة التطرف والغلو والتعصب والكراهية والإلغاء والتكفير، وضمور البعد القيمي والإنساني في السلوك والممارسات، وانعدام لغة التسامح والإخاء والتعايش السلمي بين الناس .
السيد إبراهيم الزاكي
السيد إبراهيم الزاكي
كتبه: السيد إبراهيم الزاكي
 عند الحديث عن الإصلاح الديني عادة ما يتم التطرق إلى موضوعات مراجعة الموروث، وإعادة قراءة تأويلات النصوص الدينية، ومراجعة الفكر الديني وتحديثه، أو الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني. فقد أصبحت هذه العناوين محط إثارة بشكل دائم خلال السنوات الماضية، وخصوصاً بعد تصاعد الظاهرة الإرهابية، وما نتج عنها من أعمال عنف وسفك دماء، حيث عقدت حول هذه الموضوعات وغيرها العديد من المؤتمرات والندوات، وكُتبت ويُكتب عنها في الصحف والمجلات والمنصات الإعلامية المتعددة، بالإضافة إلى ما يقال حولها، سلباً أو إيجاباً، من على بعض المنابر الدينية.

إن الدعوة إلى مراجعة الفكر/الخطاب الديني وتطويره وتجديده، لم يعد مطلباً أو طرحاً ترفياً، بل أصبح ضرورة ملحة في ظل انتشار ثقافة التطرف والغلو والتعصب والكراهية والإلغاء والتكفير، وضمور البعد القيمي والإنساني في السلوك والممارسات، وانعدام لغة التسامح والإخاء والتعايش السلمي بين الناس، حتى في المجتمع الواحد، وتصنيف الإنسان بناء على دينه ومذهبه، والجنوح إلى العنف والقسوة والإجرام والتوحش، حيث
تتفشى الصراعات، وتنتشر الحروب وسفك الدماء.

ولعل أفضل السبل إلى معالجة مثل هذه الظواهر السلبية، والمتفشية في بعض المجتمعات، هو الاعتراف بها أولاً، وبخطورتها، وتداعي آثارها السلبية، ومن ثم السعي الجاد لحلها والوقاية من حدوثها. فهذه الظواهر أو المشكلات هي حقيقة واقعة، لا يمكن نفيها أو تجاهلها، ولا غض النظر عنها. ولكي يتم علاجها بشكل علمي وموضوعي صحيح لابد من وضعها تحت مبضع التشريح والنّقد والتّحليل والمقارنة، والبحث عن أسبابها العميقة، وملامسة جذورها المستترة والظاهرة، والعوامل والأسس المولدة لها.

إن العنف المستشري في عالمنا اليوم يمارس باسم الدين، وتقوده جماعات تدَّعي تمثيل الإسلام وتطبق تعاليمه، وذلك بناءً على مرويات تاريخية مستخرجة من بطون أمهات كتب التراث، حيث تُبرِّر هذه الجماعات ممارساتها وتسوق لصورتها من خلال ادِّعاء التزامها بنهج الأولين واجتهاداتهم، والعودة إلى موروث السابقين ونصوصهم، من دون بدل الجهد في فحص هذا الموروث وغربلته، أو تصفيته وتنقيته مما علق به من شوائب الأزمنة الماضية، خصوصاً تلك الأزمنة التي سادت فيها الفتن والحروب وسفك الدماء.

وهكذا فإن هذه الجماعات، التي تدَّعي تمثيل الإسلام وتطبق تعاليمه، تعمل على تمثُّل هذا الماضي وتراثه والتماهي معه، بكل ما يحمله من إشكالات وتشوهات وعورات، أو من أحقاد وكراهية وعنصرية وعصبيات، ومن ثم إعادة إنتاجه واسقاطه بشكل متعسف على الواقع المعاش، بمعزل عن حيثيات الواقع واعتبارات الحاضر، حيث يتم توظيفه بما يخدم معاركها ومواقفها وسياستها ورؤيتها، فيما الحقيقة أن هذا الموروث هو حصيلة نتاج أزمان مغايرة، وظروف لها سياقها التاريخي المختلف.

إن فهم الدين وتطبيق تعاليمه قد تلحق به الشوائب والانحرافات مع مرور الزمن، وتقدم العصور، وتوالي الأجيال، وهو الأمر الذي يستدعي من كل جيل إعادة
فحص وقراءة ما ورثوه من أسلافهم من فهم للدين، من خلال العودة إلى المنابع والمصادر الدينية الأصيلة، فضلاً عن دراسة مستجدات حياتهم وتطورات عصرهم الذي يعيشون فيه. فالموروث الديني هو نتاج بيئة السلف واجتهاداتهم، وفهمهم لظروف حياتهم، ومستجدات زمانهم، إلا أن الأجيال اللاحقة غير ملزمة بهذه الاجتهادات. إذ كيف لهذه الأجيال أن ترجع وتتبع أقوال واجتهادات ومقاربات فقهاء لم يُعايشوا واقعهم ليتصوروه قبل الحكم عليه؟ لذلك فمن حقّ كل جيل جديد ممارسة الاجتهاد وفهم الدين وتفسير نصوصه واستنباط أحكامه، ومن ثم طريقة تطبيقه على أرض الواقع. لأن تقدم الزمن، وتطور الحياة، واختلاف الظروف، تفرض على الأجيال التالية تحديات جديدة، وأسئلة مغايرة، تحتاج إلى إجابات منسجمة مع روح العصر، وما يطرأ عليه من مستجدات حديثة.

وانطلاقاً من هذا المعنى يقارب منصور النقيدان مسألة جمود حركة الاجتهاد، وضرورة مراجعة الموروث من خلال الإشارة إلى ”إن فقه الجهاد عند المسلمين لم يتعرض لأي مراجعة حقيقية، وكثير من المؤلفات التي يمكننا أن نعثر عليها اليوم في الأسواق وتتضمن أبواباً عن فقه الجهاد، تأتي ضمن هذه الحالة. وبعض الرسائل الجامعية والأبحاث التي تتناول هذا الباب هي معالجة لا تخلو من خداع سمَح بأن تشق هذه الدراسات طريقها إلى الإنترنت والأسواق. ويجزم النقيدان بأن مؤسسات الفتوى والشؤون الدينية لم تقم البتة بأي مراجعة شجاعة ذاتية لهذا الإرث، وخصوصاً في مسائل فقه الجهاد، وأحكام الردة، والتعامل مع المخالف، وغاية ما نقرؤه ونسمعه اليوم هو تبرئة الإسلام والشريعة من الجرائم التي ترتكب باسم الإسلام، من دون نقاش تفصيلي للمبررات والحجج الدينية التي لم تُولد من فراغ وليست وليدة اليوم“.

وفي السياق ذاته يرى محمد برهومة "بأن الإصلاح الديني في مجتمعاتنا لا يزال يتأخر ويتلعثم؛ لأنّ
أحد أركانه الأساسية علماء الدين وهم في غالبيتهم العظمى لا يقومون بواجبهم الإصلاحي، وهم ما زالوا غير مقتنعين بأنّ ما لدينا من مدونات فقهية وتأويلات وشروحات للنص الديني في حاجة ماسّة إلى المراجعة والنقد والتفكيك والإضافة والحذف والتطوير لكي تنسجم مع روح العصر والتقدم البشري".


مجمل القول هناك حاجة إلى مراجعة الموروث والتدقيق فيه لفهمه ونقده وإزالة الالتباس عن بعض نصوصه وشروحاته، وتبيين المشكوك في صحته، وكل ما يتناقض مع روح الإسلام وعدالته وسماحته، أو مع النصوص القرآنية التي تؤكد الرحمة والمحبة واحترام الإنسان، لكيلا يتم توظيف هذا الموروث بشكل سلبي في الزمن المعاصر، وبطريقة تتنافى مع مصالح الأمة، وتسهم في تدمير المجتمعات الإسلامية والإضرار بمكوناتها. فاجتهادات الأوائل والأسلاف، أو فتاواهم، ليست وحياً يوحى، ولا هي نزلت من السماء، أو هي معصومة من الخطأ، بل هي منتج ظهر في ظروف اجتماعية وسياسية لها سياقاتها، حيث لكل زمان ظروفه الخاصة، وسياقه التاريخي المختلف.

وغني عن القول بأن بعض المفاهيم والأفكار السائدة في ثقافتنا اليوم، هي حصيلة لتراكم تاريخي، ونتاج مراحل تاريخيه سابقه مرت بها مجتمعاتنا، وضمن ظروف معينه عاشتها، ولها سياقها التاريخي الخاص. لذلك من المهم جداً حين النظر إلى فتاوى واجتهادات السابقين، دراسة "السياق الذي نتجت فيه، فربما كانت هذه الأفكار والاجتهادات استجابة لتحديات تلك العصور، وأسئلة تلك المراحل التاريخية، حيث كانت تعالج أموراً وفق متطلبات وشروط وأعراف تلك العصور السالفة، والتي تختلف عن العصر الذي نعيشه اليوم. غير أن الإشكالية تحدث حين تُجمّد تلك الأفكار وفق فهم المراحل السابقة وتفسيرات حقبها، فتعطى صفة الثبات والإطلاق، وتُحوّل إلى قيم ثابتة غير قابله للنقض والمراجعة، مما يجعلها مع مرور الزمن تتحول إلى ثقافة ثابتة وأصيله، يصعب مراجعتها ونقدها، نتيجة ما مُورس وتكرّس من تثقيف وتربيه عليها على مر الزمن.
https://taghribnews.com/vdcb9ab5zrhbfzp.kuur.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز