تاريخ النشر2010 7 August ساعة 12:46
رقم : 22639

تساؤلات حول التسامح وثقافة العيش المشترك

الإقرار بشرعية الاختلاف وبتنوع التباينات داخل المجتمع الواحد» يعد أول طريق التسامح؛ فضلا عن كونه بديهية كبرى يتفق بشأنها أغلب المهتمين بثقافة الحوار وسبل العيش المشترك،
تساؤلات حول التسامح وثقافة العيش المشترك

وكالة أنباء التقریب (تنا)

هل يكون الحوار قرارا فوقيا تؤمُ السلطة المجتمعَ بموجبه، أم أنه مشروعُ مجتمع يحميه ويرعاه ويكون مؤهلا في الأساس لتحمل تبعاته؟
على الرغم من أن «الإقرار بشرعية الاختلاف وبتنوع التباينات داخل المجتمع الواحد» يعد أول طريق التسامح؛ فضلا عن كونه بديهية كبرى يتفق بشأنها أغلب المهتمين بثقافة الحوار وسبل العيش المشترك، فإن التوغل في هكذا إشكال يُفرز مفارقات شتى؛ ليس فقط لجهة الاختلاف بشأن المفاهيم المستخدمة في هذا السياق (الحوار، التنوع، التعدد، التسامح، الاختلاف.. إلخ)؛ بل لجهة ما قد تؤدي إليه تلك المصطلحات من نتائج عكسية تماما لما هو متوقع لها! ونتيجة لذلك؛ لم يمنع شيوع وتداول تلك المفاهيم الباحثين من الكف عن طرح مجموعة من التساؤلات المهمة، في مقدمتها: كيف يمكن الوصول إلى مرحلة التفاهم، إذا كان التباينُ مُعرقلا له ومانعا إياه؟! بمعنى آخر: كيف يكون التباين - وهو الشرط الضروري للتفاهم - مانعا للتفاهم؟ وما هو تأثير التسلسل الوظيفي للسلطة في المجتمع – من سلطة قبلية عشائرية، إلى سلطة سياسية أو ثقافية أو دينية - على نوعية التفاهم المطلوب إنجازه؟ وما هو تأثير التباينات الثقافية داخل المجتمع الواحد على العلاقة الحاكمة بين السلطة والثقافة؟ وهل يكون الحوار قرارا فوقيا تؤمُ السلطة المجتمعَ بموجبه، أم أنه مشروعُ مجتمع يحميه ويرعاه ويكون مؤهلا في الأساس لتحمل تبعاته؟
فمن المعلوم أن التباينات الاجتماعية عادة ما تتضمن نوعين رئيسيين: أولهما التباينات في الآراء، وهي متحركة؛ بمعنى أن معارض اليوم قد لا يكون كذلك غدا. ثانيهما التباينات الثقافية، وتلك لها حدود معينة مرسومة ومحددة سلفا بحيث تتميز بالصلابة والاستمرارية في آن معا، ومن دون أن تفضي ضرورة إلى إحداث مزيد من النزاعات والصراعات في رحم المجتمع الواحد. ومن ثم؛ يترتب على كون التباين معطى طبيعيا إنسانيا، وعلى كون التسامح إقرارا بشرعية التباين أن تبقى التجمعات الاجتماعية ذات الهويات السياسية المتشابهة في المجتمعات المتعددة محكوما عليها بـ«التسامح المتبادل». بمعنى أن الحق في التباين وشرعيته داخل المجتمع السياسي يعد بمثابة الحد الأدنى للعملية الديمقراطية في ذلك المجتمع.
وفي المقابل من ذلك؛ سرعان ما نجد أنفسنا إزاء مجموعة كبيرة من العوائق المتعلقة بتصوراتنا وتعاطينا مع مفهوم التسامح، يأتي في مقدمتها ثلاثة عوائق: أولها انطواء المفهوم الغربي للتسامح على قدر كبير من الالتباس في الترجمات العربية المعاصرة. ويكفي للتدليل على ذلك أن التسامح بمعنى التسامح المتبادل بروح المساواة - كما هو شائع لدينا - لا يعني إلا قبولا مشروطا للجماعات الثانوية من دون أن يعني إقرارا بشرعية وجودها ومساواتها بالجماعات الرئيسية. ولذلك يميل الأصوليون لإقصاء مَن ليس على شاكلتهم، على الرغم من أن ذلك يتناقض مع الإسلام وممارساته التاريخية تماما. العائق الثاني يتمثل في تنامي الآيديولوجيات الانصهارية التي تدعو للوحدة (العربية، الإسلامية، الطائفية.. إلخ). ومن ثم، يفترض الاتجاه الوحدوي إلزام الكل بالانصياع لأسلوب قهري؛ بحيث تتحول الرؤية السياسية أو الدينية للوحدة إلى رؤية مولدة للا تسامح، بل والعنف أحيانا! أما العائق الثالث فيرتبط بالتساؤل الذي يطرحه كثيرون من دون كلل أو ملل حول مدى تقبل العقلية العربية والإسلامية لمشروعية الاختلاف والتباين، وصولا إلى اتهامها بأنها عقلية توفيقية ليست مهيأة لقبول التعدد والتنوع، بمعنى أنها تقع على الضد من العقلية الديكارتية المعقلنة التي تُنمي قبول الآخر والقدرة على التمييز واقتناص الفوارق! وبغض النظر عن العائق الأخير بصفة خاصة؛ يبقى التساؤل قائما: هل التسامح - كما هو متصور في الذهنية السياسية للعالم العربي والإسلامي - يُجسد قيمة سياسية؟ بمعنى آخر: هل تكون له الأولوية لجهة العناية والاهتمام مقارنة بمختلف القيم السائدة الأخرى، كالوحدة والمساواة والعدالة؟! واقع الأمر؛ أن التسامح في جوهره يعني أكثر بكثير من مجرد «قبول الآخر» ولعل ذلك هو ما دفع البعض للتأكيد على أنه لا يعني فقط الاعتراف بالحق في التباين، بل وقبول «الحق في الخطأ» باعتبار ذلك حقا من حقوق الإنسان من جهة، وبذريعة أن الوقوع في الخطأ من لوازم البحث عن الحقيقة، وأن كافة الأشياء تتمتع بوجود نسبي من جهة أخرى! وبحسب أندريه مرسييه؛ فإن المفهوم الغربي للتسامح، من حيث هو مفهوم فيزيقي (أي في حالاته الأدنى، وهو مماثل لما تعنيه الفيزياء المعاصرة من الكمية المسموح بها، بحيث لا تتجاوز الظاهرة حدودها من دون خطورة)، يتمتع بحدود ينبغي ألا يتعداها، فضلا عن أنه ينطوي على نسبية ذات درجات متفاوتة. وعلى ذلك؛ يمكننا اعتبار «التعصب» بمثابة درجة الصفر للتسامح، كما يمكننا أن نحسم بسهولة ويسر كيف يكون الإنسان متسامحا في الوقت نفسه الذي لا يمكننا أن نفهم فيه التسامح بمعناه الشامل. ونتيجة لذلك؛ فإن الميل إلى الرفض، بالنسبة للإنسان الغربي، يسبق الحكم على شخص ما بأنه متسامح! كما لو أنه شرط مسبق لحل معضلة المدى الذي سينتهي عنده التسامح! ففي التجربة الغربية بقيت المشكلة قائمة في الانحراف عن المعتقدات الدينية الداعية إلى الالتزام بمبادئ المحبة والحوار والتسامح. هكذا نشأت المشكلة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا وإنجلترا، فواجهها الأمراء الألمان بالحرب، والحرب مسألة فنية، وواجهتها فرنسا، تحت تأثير الأساليب الدكتاتورية لرشيليو ولويس الرابع عشر، بسحق من سمتهم بالهراطقة. وهو أسلوب امتد إلى المجالات الأخرى في فرنسا: كبت أو قهر الأقليات للتخلص من المشكلة التي تفرضها تلك الأقليات. أما سويسرا؛ فواجهت مشكلة الأقليات بمنحهم أكثر مما يستحقون - بحسب البعض - حتى لا يصورون الأمر على أنهم يعاملون كأقليات فيها. وتلك الإجراءات السياسية مسألة فنية كذلك.لذا يقترح مرسييه، في المقابل، منهجا أعمق لعلاج مشكلة كهذه، ألا وهو «التأمل الفلسفي»، مؤكدا أن قيمته تكمن في أن الأفكار التي نقاومها، ونتعصب ضدها، لها نفس جذور أفكارنا! وأن ممارسة التسامح تفضي بالضرورة إلى استبعاد الادعاء بامتلاك «الحقيقة» الوحيدة، أي «الآيديولوجيا». وأن العدالة الفلسفية (الحق في التفلسف) تستلزم إتاحة الحرية الكاملة لكل مواطن في مقارنة الآراء التي تنشأ عنها التقاليد والعادات الموروثة؛ بغض النظر عن الآيديولوجيا الموجهة لتلك الآراء المُشكِّلةِ لأعرافنا وتقاليدنا وتصوراتنا عن الآخر. وفي المحصلة؛ يخلص مرسييه إلى أن ثمة تسامحا إيجابيا وبناء كفيلا بتصحيح أو تعويض الثغرات الكامنة في الممارسة العملية. فكما يقول فيلسوف الأخلاق أونغ: «إن المعتقدات، سواء صدقت أو كذبت، هي الأساس المهم لواجب التسامح» لذا ينبغي أن يكون واضحا لدينا، منذ الآن فصاعدا، أن التسامح ليس مجرد مسألة دينية أو سياسية فحسب، كما تصور كانط حين دعا إلى «حق المواطن العالمي»، أي إلى إمكان ترحال الإنسان إلى أي مكان من دون تدخل في ذلك؛ وإنما هو مسألة فلسفية وإنسانية أساسا. وإذا اتفقنا على استخدام لفظ «إنسانية» ليس كآيديولوجيا، فالتسامح إذن فلسفيا - بعد سلبه من قيود الأسطورة والسياسة - هو إنسانية الغد المشرق في عالم يخلو من الدول بالمعنى التقليدي، أو المعنى الهيغلي وبالأخص الدول ذات الأنظمة الشمولية! بموازاة ذلك؛ ثمة من يؤكد أن الثقافة، بمعناها الواسع، تعني جملة المكتسبات التي يحققها العقل. أما الثقافة بمعناها الضيق، فهي جملة المكتسبات التي يحققها «الأنا» العقلي والروحي. وأن ثمة اتجاها متناميا في تصور الدين على أنه حالة خاصة من الثقافة بمعناها الضيق، أي الثقافة من حيث هي صانعة الحياة الروحية للإنسان. ومن ثم؛ فإن من شأن الاتفاق على هذه المفاهيم أن يفضي إلى نتيجة أولية مفادها أن الثقافة والدين هما من ثمار الممارسة السوية للعقل، كما أنهما من الحقوق الطبيعية للشخصية الإنسانية، فبفضلهما يؤسس الإنسان ذاته في إدارته للعالم. ومن هذه الوجهة يكتسب كل من الدين والثقافة خاصية التقديس.
محمد حلمي عبد الوهاب كاتب مصري
المصدر الشرق الاوسط

https://taghribnews.com/vdcdn90x.yt0xs6242y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز