>> السلم والتعايش بين المسلمين والمسيحيين في الغرب الإسلامي | وكالة أنباء التقريب (TNA)
تاريخ النشر2012 8 December ساعة 13:54
رقم : 117630
القسم الاول

السلم والتعايش بين المسلمين والمسيحيين في الغرب الإسلامي

تنا
هل يمكن الاستفادة من دروس التاريخ وعبره للمساهمة في بناء الحوار بين الحضارات والأديان؟ سؤال تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عنه ضمن مقاربة تاريخية تنبش في الماضي لاستخراج ثوابت النماذج السلوكية التعايشية التي عبرت عنها مختلف الشعوب والأديان .
السلم والتعايش بين المسلمين والمسيحيين في الغرب الإسلامي

د. إبراهيم القادري بوتشيش
جامعة مولاي إسماعيل- مكناس المغرب

هل يمكن الاستفادة من دروس التاريخ وعبره للمساهمة في بناء الحوار بين الحضارات والأديان؟
سؤال تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عنه ضمن مقاربة تاريخية تنبش في الماضي لاستخراج ثوابت النماذج السلوكية التعايشية التي عبرت عنها مختلف الشعوب والأديان، خاصة المسلمين والمسيحيين، للدلالة على أصالة فكرة التسامح كقاعدة انبثقت عنها علاقاتهم، وعلى سطحية النزاعات التي شجرت بينهم، والتي لم تشكل سوى استثناءات تخرج عن قادة الثابت والمألوف، وهو ما تؤكده الشواهد التاريخية والانصهار الحضاري الذي أثمر حضارة مشتركة ساهم في صياغتها العقل الإسلامي والمسيحي معا. وسنركز في تأكيد هذه الفرضية على فئات المسيحيين الذين رحلوا إلى بلدان الغرب الإسلامي خلال القرن ٧ هـ. ١٣ م، واستقروا بها بكيفية مؤقتة أو نهائية، وتعايشوا مع الأهالي المسلمين، وأنتجوا حضارة مشتركة. 

أولا: خلفيات الوجود المسيحي في الغرب الإسلامي
إن تحليل الظرفية التاريخية التي أدت إلى تقاطر المسيحيين على الغرب الإسلامي تقيم بالكشف عن خلفيات هذه التحركات البشرية الوافدة من الغرب المسيحي. 

١ - البعد الاقتصادي:
يبدو أن البعد الاقتصادي كان ذا أثر واضح في الحضور المسيحي في الغرب الإسلامي. وحسبنا أن البلدان الأوروبية في هذه المرحلة ( القرن ٦-٧هـ/١٢-١٣م) كانت تلج عصر النهضة، وبدأت ذيول الإقطاع فيها تنحسر لصالح الإرهاصات البورجوازية بما تعكسه من وحدة وتماسك وقوة على الصعيد السياسي. وقد شرعت هذه البورجوازية الأوروبية في التطلع نحو النفوذ والسلطان، فانتعشت لذلك الحياة الاقتصادية وأصبحت التجارة تشكل حجر الزاوية في هذه النهضة، حيث غدت أساطيل الجمهوريات الإيطالية تجوب البحر المتوسط طولا وعرضا، وأفضى ذلك كله إلى تكوين فائض اقتصادي وجب البحث عن أماكن لتسويقه. ولمّا كان الغرب الإسلامي أقرب المناطق إلى المدن المتوسطية التجارية، فضلا عن وجوده في طريق الذهب، فقد رنى التجار الأوروبيون بأبصارهم إليه، وبادروا إلى عقد معاهدات سلمية وتجارية مع حكامه. ولما كانت الكنيسة ترعى هذه المصالح التجارية وتباركها، فقد بعثت بأساقفتها وقسيسيها إلى مختلف المدن المغربية للسهر على الحياة الروحية للتجار المسيحيين وتنظيم حياتهم الدينية، فكان هذان المظهران أساسين في الحضور المسيحي بالغرب الإسلامي. 

وعلى غرار البلدان الأوروبية المسيحية، بدأ الغرب الإسلامي يشهد في العصر الموحدي- ولو بوتيرة أقل – صحوة تجارية بفضل إحكام الموحدين قبضتهم على طرق التجارة الصحراوية، وتحقيق المركزية السياسية، فوفّروا بذلك الشرط الاقتصادي للانفتاح على العالم المتوسطي. كما أن دور الوسيط التجاري الذي أصبحوا يضطلعون به، إلى جانب مراهنتهم على التجارة البعيدة المدى لبناء قوة الدولة، زاد من رغبتهم في الانفتاح على واجهة الغرب المسيحي. وكان عليهم – لخلق شروط إنجاح مشروع سياستهم الانفتاحية – العمل على تمتين علاقاتهم مع تجار الغرب المسيحي، ونهج سياسة التسامح معهم، واستقطابهم نحو مدنهم وموانئهم الساحلية. 

يتبين أن الرغبة في إنجاح المشروع التجاري الموحدي عن طريق إقامة علاقات تجارية مع الغرب المسيحي كانت العامل الرئيسي وراء الحضور المسيحي في الغرب الإسلامي، ولكن كانت ثمة عوامل أخرى نذكر منها: 

٢ - تقوية الجهاز الأمني للسلطة المغربية:
إن تحقيق الأمن الذي كانت السلطة المغربية تصبو من ورائه إلى حماية نفسها من تمردات القبائل المغربية المعارضة، كان يتم بواسطة جلب كتائب عسكرية مسيحية لاستعمالها كفرق حرس خاصة لحماية الخليفة، أو كفرق مجندة لإخراس الأصوات المناوئة لنظامه. 

ولا يبدو للباحث أي جديد في مسألة استقدام العناصر المرتزقة لحماية الأسرة الموحدية الحاكمة، إذ كان ذلك قد بدأ منذ عصر المرابطين. وقد شكلت هذه الظاهرة في الفكر الخلدوني موقعا هاما، حيث لاحظ بقوة فطنته أنها تقترن بانتقال القبيلة السائدة إلى مرحلة الترف، وتشتد في أوقات الأزمات لما تستدعيه الظروف من ضرورة التصدي لتمردات القبائل واستئصال شأفتها، وبالتالي تدعيم القبيلة السائدة. ولمّا كانت الدول المسيحية – وخاصة إسبانيا- أقرب المناطق إلى المغرب الأقصى، فإن جلب فرق عسكرية منها بات مسألة بديهية. 

إن أول إشارة لظهور كتائب عسكرية من البلدان المسيحية في العصر الموحدي تقترن بعهد الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور (٥٨٠-٥٩٥هـ/١١٨٤-١١٩٨م). فقد شيّد هذا الحاكم قصرين كبيرين حسب رواية مارمول، أو ١١ إلى ١٢ قصرا حسب رواية الحسن بن الوزان، وأسكن فيها عددا من الجند الرومي بلغ عددهم حوالي الألف بالإضافة إلى نسائهم وأبنائهم. ويبدو أنه استعملهم كحرس خاص، لا كجند نظامي مادام الهدوء والأمن كان هو الجو المخيم في عهده. 

وفي عهد الخليفة المستنصر (٦١٠-٦٢٠هـ/١٢١٣-١٢٢٣م )، وهو العهد الذي اقترن ببداية الأزمة الموحدية بعد معركة العقاب سنة ٦٠٩هـ، تزايدت الكتائب العسكرية النصرانية وأصبحت تتكون من مجموعتين: أولاهما كانت توجد في مدينة مكناس تحت إمرة قائد قشتالي اعتنق الإسلام يدعى هو «ابن أخت الفونسو»، وثانيتهما كانت توجد بمراكش تحت قيادة أمير برتغالي. 

والميزة الرئيسية لهده الكتائب العسكرية المسيحية تكمن في أنها لم تعد كما كان الحال في العصر المرابطي متكوّنة من أسرى الحروب، بل من رجال أحرار التزموا بخدمة الخلفاء الموحدين بمحض إرادتهم. وإذا كنا لا نعرف بالتدقيق المناطق التي أتوا منها، فمن المؤكد أنهم قدموا من مختلف مناطق الغرب المسيحي.
وقد أشارت المصادر العربية إلى الوجود المسيحي داخل الجيش الموحدي، فالمراكشي يشير إلى أنه كان لدى المصامدة «جند من سائر أصناف الناس كالعرب والغز والأندلس والروم». 

غير أن استخدام الجيش النصراني في العصر الموحدي كان أكثر كثافة وحضورا في عهد الخليفة المأمون (٦٢٧-٦٢٩هـ / ١٢٢٩-١٢٣١م) الذي تجذّرت الأزمة في عهده حتى أصبح عهدا مترعا بالاضطرابات التي أسفرت عن إطاحته به من قبل أحد إخوته، مما حدا به إلى الاستنجاد بأحد ملوك قشتالة لإمداده بحاميات عسكرية بهدف استرجاع سلطته في مراكش. وتختلف الروايات حول عدد الجنود المسيحيين الذين استقدمهم لنجدته حيث جعلهم كل من ابن أبي زرع، والناصري إثني عشر ألفا، بينما حصرهم ابن عذاري في 500، في حين لم يحددهم ابن خلدون إطلاقا. وقد ناقش أحد الباحثين هذين الرقمين، فرجح أن يكون عدد ٥٠٠ هو الصحيح، بينما نميل إلى الاعتقاد أن ١٢ ألف هو الأقرب إلى الصحة لعدة اعتبارات: منها أن ابن أبي زرع في رواية أخرى وردت عند ذكره بيعة الخليفة الموحدي عبد الواحد الرشيد أشار إلى أن قائد الروم كان يركب في عشرة آلاف من إخوانه، فمن المحتمل أن يكون عدد الجيش النصراني قد انخفض من ١٢ ألف إلى ١٠ آلاف إبان الفترة الفاصلة بين الخليفتين. كما أن حملة تستهدف استعادة السلطة كانت تتطلب استقدام هذا العدد الكبير. وإذا كان الإحصاء الذي أفادتنا به المصادر حول عدد الجنود المسيحيين قد وصل في عهد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور إلى الألف في جو ساده الأمن والاستقرار، فكيف بالنسبة لخليفة مثل المأمون الذي أصبح عهده يتسع فيه الخرق على الراقع.
ومع ذلك يبدو أن المؤرخين ابن أبي زرع والناصري لم يصيبا الحقيقة في تقويمهما للحدث حين اعتبرا المأمون «أول من أدخل عسكر الفرنج أرض المغرب واستخدمهم بها»، ذلك أن النصوص التي سبق عرضها تكشف عكس ذلك. 

٣ - الأسرى المسيحيون أو المنفيون إلى المغرب:
إذا كان الحضور المسيحي قد تكثف عن طريق الكتائب العسكرية المجلوبة من بلدان الغرب المسيحي، فإن هناك رافدا آخر تدعّم به هذا الوجود أيضا، ألا وهو مسألة الأسرى المسيحيين الواقعين في قبضة المسلمين عن طريق الحروب أو القرصنة البحرية التي بلغت ذروتها في العصر الموحدي حتى أنه «بلغ الحال من كثرة سبي الآدميين أن يباع بيضاوان من الروم بسوداء من الوخش في بجاية».
وبالإضافة إلى عمليات الجهاد والقرصنة البحرية، تعزز الحضور المسيحي في الغرب الإسلامي بعمليات الترحيل الإجبارية من الأندلس نحو المغرب. فإذا كان المرابطون قد قاموا بترحيل عدد من نصارى الأندلس، في تواريخ متفرقة، فإن الموحدين نحوا منحاهم، فقاموا بعملية ترحيل سنة ٥٦٦هـ /١١٧٠م(١٧). 

٤ - البعثات التبشيرية:
يضاف إلى ما سبق ذكره، مجيء بعض البعثات الدينية أو الإرساليات التبشيرية التي بعثتها البابوية لخدمة الطائفة المسيحية الموجودة في الغرب الإسلامي، أو للقيام بعمليات التبشير بالدين المسيحي داخل المجتمع المغربي كما سنفصل في موضعه، فاستقرت فيه بصفة مؤقتة، ولعبت أدوارا هامة في تاريخ المسيحية في الغرب الإسلامي. 

وبهذه الروافد المتنوعة، تعددت الجاليات المسيحية المتوسطية على أرض الغرب الإسلامي، وأصبحت تعيش جنبا إلى جنب مع المغاربة، وتساهم في حياتهم اليومية، فكيف كانت وضعيتها وما هي أدوارها وتأثيراتها في المجتمع المغربي ؟
ثانيا: أوضاع الجاليات المسيحية في المغرب في العصر الموحدي:
ساهمت عدة معطيات في تحديد وضعية الطائفة المسيحية في الغرب الإسلامي وإعطائها مكانتها المتميزة، ففضلا عن الخلفيات التي تم عرضها، والتي كانت تصب في اتجاه رعاية هذه الطائفة وتحسين أوضاعها، هناك معطيات أخرى ساهمت في تكريس هذه الوضعية نذكر منها: 

١ـ فلسفة العقيدة الإسلامية القائمة على مبدأ التسامح والتعايش مع الآخر.
٢ـ حماية الدولة الموحدية للمسيحيين انطلاقا من محافظتها على مصالحها وخاصة التجارية منها.
٣ـ تدخّل البابوية المستمر لحماية رعاياها المسيحيين في المغرب. ٤ـ قوة الدول والجمهوريات المسيحية التي تنتمي إليها الطوائف المسيحية، إذ غالبا ما كانت تلك الدول تلوّح بالتهديد وتستعمل ورقة سحب كتائبها العسكرية في حالة عدم احترام الموحدين لاتفاقياتهم السلمية أو المساس بمصالح الرعايا المسيحيين.
٥ـ السياسة السلمية التي نهجها الخلفاء الموحدون، خاصة الأواخر منهم.
تأسيسا على هذه المنطلقات، واعتمادا على نصوص عربية ولاتينية سنحاول ملامسة وضعية هؤلاء المسيحيين في المجالات الدينية والاقتصادية والاجتماعية. 

١ - الوضعية الدينية للمسيحيين في الغرب الإسلامي:
لا يخامرنا شك في أن هذه الوضعية استفادت من روح التسامح التي شاعت في ربوع بلاد المغرب. ولعلّ أبرز مظاهر هذه الروح العالية سماح الخلفاء الموحدين لمختلف الفئات المسيحية من تجار وجند وأسرى وغيرهم ببناء كنائس وممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، فمتى بدأ تأسيس الكنائس في المغرب وما هي ظرفيته؟. 

إذا اكتفينا برواية المؤرخ المراكشي، فإننا نقع أسرى تصور غير صحيح يفيد بأن الموحدين لم يسمحوا ببناء أي كنيسة، ولكن عذر هذا المؤرخ يكمن في أنه عاصر الدولة الموحدية، وكان يخشى عاقبة تسجيل حدث كان يعتبر مخجلا ومهينا لها، رغم بعده عنها وهو يؤلف كتابه. غير أن المؤرخين المرينيين لم يجدوا حرجا في ذكر أخبار بناء الكنائس في العصر الموحدي. 

ولا سبيل إلى الشك في صحة الروايات المرينية لأن المصادر المسيحية تعضدها، إلا أن الفرق بين النصوص العربية والمسيحية هو أن الأولى تقرن الحدث بعهد الخليفة الموحدي المأمون، بينما الثانية ترجع ذلك إلى عهد الخليفة يعقوب المنصور الذي بنى للحرس النصراني كنيسة «يذهبون إليها للاستماع إلى القداس».
بينما تجمع الرواية العربية على اقتران بناء أول كنيسة بعهد المأمون الذي طلب مساعدة عسكرية من ملك قشتالة فرناندو الثاني لاسترجاع سلطته من أحد منافسيه، وهو الأمير الموحدي يحيى بن الناصر (٦٢٣-٦٢٧هـ)، فاشترط عليه الملك القشتالي – في حالة انتصاره واستيلائه على مراكش – أن يبني كنيسة للرعايا المسيحيين، وأنه متى أسلم أحد من هؤلاء رده إلى إخوانه، في حين أن من تنصّر من المسلمين فليس لأحد عليه من سبيل، فوافق على هذا الشرط الذي يذكرنا بأحد بنود صلح الحديبية، وبمجرد ما تمت الغلبة للمأمون، دخل مراكش مع النصارى، «فضربوا بها نواقيسهم». 

واستفاد المسيحيون من جو التسامح، فعرفت أحياء المدن التي كانوا يقطنونها بناء عدة كنائس، ففي سبتة على سبيل المثال، كان الأسقف الذي يقوم بدور المرشد الروحي بها هو الأسقف الإيطالي هوغو Hugo حوالي سنة ٦٢٣هـ / ١٢٢٧م. ومن المحتمل أن يكون لكل طائفة مسيحية أسقفيتها حيث كان لكل من تجار جنوه وبيزة كنائس خاصة بهم. 

ومهما كان الأمر، فمن الواضح أن التنظيم الكنسي في عصر الموحدين بلغ أوجه، ووجهت البابوية – مستفيدة من جو التسامح – عدة أساقفة نذكر من بينهم الأسقف الشهير Agnellus الذي تنعته الوثائق اللاتينية بأسقف فاس، أعقبه Lupus الذي تشير إليه إحدى رسائل البابا إنوسانت الرابع، وهي رسالة تتضمن دعوة منه إلى الرعايا المسيحيين لالتزام طاعة هذا الأسقف في كل القضايا الروحية. أما الأسقف الذي أعقب Lupus فهو Branch الذي بقي على كنيسة مراكش إلى حدود ١٢٨٩م. 

وإلى جانب السماح ببناء الكنائس، سمحت السلطة الموحدية للبعثات التبشيرية المسيحية بممارسة نشاطها سواء في المدن الداخلية التي كان يقيم فيها الجنود النصارى وقادتهم، أو داخل الأحياء التي كان يسكنها التجار المسيحيون في ضواحي المدن الواقعة على الشريط الساحلي المتوسطي لبلاد المغرب. وفي هذا المنحى ثمة نصوص تخبرنا بأن البابا هنوريوس الثالث Honorius III بعث إلى أفراد البعثات التبشيرية توجيهات يطلب فيها من المبشرين – تسهيلا لمأموريتهم وتمويها على المغاربة – ألا يحلقوا لحاهم، وأن يتزينوا بزي المسلمين. 

ولا نستبعد أن تكون الأسقفيات المنبثة في المدن التي استقر فيها التجار المسيحيون في الساحل، نقطة انطلاق النشاط التبشيري في مدن المغرب الداخلية، شفيعنا في هذا الاستنتاج ما شهدته سبتة من نشاط تبشيري قامت به جماعة دانييل Daniel سنة ٦٢٣هـ / ١٢٢٧م. 

من كل ما سبق يتضح أن الوضعية الدينية للطوائف المسيحية كانت محترمة ولا يكدر صفوها أي عائق. أما الآراء التي أنكرت هذه الحقيقة فسنناقشها في حينها بعد التعرض للوضعية الاقتصادية – الاجتماعية.
٢ - الوضعية الاقتصادية – الاجتماعية للطوائف المسيحية في الغرب الإسلامي:
كما حظيت الطوائف المسيحية بوضعية دينية تغمرها روح التسامح، فإن فئة منها تمتعت بوضعية اقتصادية متميزة، ويتعلق الأمر بفئة التجار، ولاغرو فإن مناخ الحرية، وحسن سياسة التعامل التي حرص الخلفاء الموحدون على جعلها قاعدة وناموسا، استقطبت العديد من تجار البلدان المتوسطية الذين فضلوا الاستيطان في المدن المغربية الساحلية تسهيلا لمهامهم باستقبال السفن ونقل البضائع. 

وكان هؤلاء التجار ينقسمون إلى فئتين:
- التجار الذين يتوفرون على رأس مال ثابت ولا يقيمون في المغرب بل يعيّنون وكلاء ينوبون عنهم.
- التجار الذين لا يملكون رأس مال، ولكنهم يعملون لصالح الفئة الأولى، ويكتفون بالربح الذي يحققونه في بلاد المغرب، ويقيمون في إحدى المدن المغربية، وهذه الشريحة هي التي تهمنا.
وقد حرصت الجمهوريات المسيحية التي ينتمون إليها على عقد معاهدات تجارية مع بلاد المغرب لفائدة تجّارها، ففي سنة ٥٨١هـ / ١١٨٦م، عقدت جمهورية بيزة معاهدة للتجارة والسلم مع السلطان الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور لمدة ٢٥ سنة تضمن حرية تجّار بيزة في كل من سبتة ووهران وبجاية وتونس. 

ولم يجد هؤلاء التجار أدنى حرج في الاتصال بالخليفة الموحدي لعرض كل ما يعترض عملياتهم التجارية من صعوبات، يؤيد ذلك الرسالة التي بعثها قنصلهم إلى أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بتاريخ ١٩ماي/ أيار ١١٨١م حول الصعوبات التي أعاقت عددا من تجار مدينة بيزة الإيطالية من أجل استخلاص جلود بجاية.
ولا يساورنا شك في أن المسؤولين المغاربة لم يديروا ظهرهم لكل هذه النداءات. ولا تزال الأرشيفات تحتفظ بمقتطف من قانون مدينة مرسيليا الخاص بتنظيم تجارة المرسيليين في بلاد المغرب، وخاصة تجارة الخمور في كل من سبتة ووهران وبجاية وتونس، كما توجد عقود تجارية حررت على يد كتّاب عدول، تتعلق بتجار مدينة جنوة الإيطالية في عدد من المدن المغربية. 

وفي إطار البحث عن الوضعية الاجتماعية لهؤلاء التجار يتبادر تساؤل آخر وهو: أين كانت تسكن هذه الطوائف المسيحية، وكيف كانت ظروف إقامتها ؟
إذا كانت المصادر العربية لا تجيب سوى بإشارات باهتة، فإن الوثائق اللاتينية التي نشرها "مسلاتري " تكشف النقاب عن كثير من القضايا التي تتعلق بمقرّ إقامة هؤلاء التجار وتنظيماتهم في أحيائهم الخاصة.
تستعمل المصادر العربية مصطلح «فندق» للتعبير عن مقر السكن الذي كان يقيم فيه التجار المسيحيون، وهو المصطلح ذاته المستعمل في الوثائق اللاتينية. لكن هذا المصطلح لا يعني الفندق بمفهومه المتداول اليوم، بل يشير إلى حي كبير أو "مدينة" صغيرة تقع في ضواحي المدينة المغربية أو ما تسميه المصادر بالربض، وهذا ما يفهم من كلام ابن عذاري الذي جاء في سياق حديثه عن تجار جنوة سنة ٦٣٦هـ /١٢٣٨م ما يلي: «وذلك أنهم لما وصلوا إلى سبتة في مراكبهم برسم محاولات تجارتهم، فاجتمع منهم في ديوانها وربضها عدد كثير...». 

ولا شك أن هذه " المدينة " الصغيرة كانت تحتوي على كل المرافق الضرورية التي تخدم حاجيات التجّار المسيحيين. فعلاوة على المتاجر الكبرى، وجدت الدكاكين الصغرى، ومقر سكنى القنصل، كذا الكنيسة، والمقبرة والفرن ومكان كاتب العدل وربما حمام عمومي.
ومن الجدير بالذكر أن كل طائفة من الطوائف المسيحية كان لها فندقها الخاص، فهناك فندق خاص بتجّار مرسيليا, وآخر لتجّار جنوة وهكذا دواليك. وثمة إشارات إلى وجود فندق بسبتة خاص بتجّار مرسيليا في سنوات ٦٢٤هـ /١٢٢٧م-٦٢٥هـ/١٢٢٨م-٦٣٦هـ/١٢٣٦م-٦٥٦هـ/١٢٥٥م. 

والراجح أن مختلف هذه الطوائف المسيحية كانت تقيم في المدن الساحلية مثل سبتة، الجزائر، بجاية، بونة، تونس، مهدية، سفاقس، قابس، جربة وطرابلس. وقد أحصى أحد الباحثين ١٥ مركزا لإقامة هؤلاء المسيحيين.
ويستشف من خلال أحد بنود قانون بلدية مرسيليا لسنة ٦٢٥هـ/١٢٢٨م نوعا من التقنين الخاص بتجارة الخمور حيث ينظم هذا البند كيفية بيع الخمر المرسيلي في بجاية وسبتة. ونعلم من خلال ذلك أنه كان بإمكان تجار مرسيليا بيع هذه المادة في المدينتين بالجملة أو التقسيط في متاجر خاصة. ومن بين هذه المتاجر ما كان يباع فيها الخمر للمسيحيين فقط، بينما كان بيعه مباحا في متاجر أخرى للمسلمين كذلك. 

وقد وجد داخل هذه " المدن المسيحية " قنصل مقيم لا تفصح الوثائق عما إذا كانت إقامته تتسم بطابع الاستمرار أم لا. وقد يسمح قانون مدينة مرسيليا لسنة ٦٥٦هـ / ١٢٥٥م بالظن أن القناصل النصارى لم يكونوا ملزمين بالتواجد بصفة دائمة في كل موانئ المغرب. وفي بعض الحالات كان القنصل يعين للقيام بمهمة مصاحبة السفن القادمة إلى بلاد المغرب. أما في سبتة فإن القنصل كان يعين لمدة سنة، ويقوم بمساعدته نقابيون ورؤساء الحرف. وكان يقسم بالإنجيل بعدم السماح بإقامة مكان للدعارة في الفندق الذي يشرف عليه، وكذلك عدم بيع الخمر الأجنبي إلا بعد نفاذ الخمر المرسيلي، كما لم يكن يسمح بكراء الحوانيت للأجانب دون استشارة المسؤولين في الفنادق التي ينتمون إليها، وعلى العموم فإن التزامات القنصل تجلت في ما يلي: 

أ ـ الدفاع عن مصالح الجاليات المسيحية سواء تجاه السلطات المحلية أو الأجانب.
ب ـ إدارة الحي أو المدينة الصغيرة التي تقيم فيها الجالية المسيحية .
ج ـ القضاء بين الرعايا.
وإلى جانب القنصل، وجد داخل هذه المدن المسيحية موثّق يتم تعيينه من طرف القنصل، ويأتمر بأوامره كما يشهد على ذلك عقد محرر بتاريخ فاتح نوفمبر/ تشرين الثاني ٦٣٣هـ /١٢٣٦م. ولم تكن مهمة الموثّق تنحصر في تحرير عقود التجّار فقط، بل في تسجيل قرارات قضاء القنصل.
كما لا يستبعد وجود قضاة تحت إمرة القنصل، وفي هذا الصدد، تحتفظ الأرشيفات بوثيقة قرار تعيين قضاة من طرف محافظ مدينة بيزة بين التجار المقيمين في تونس بتاريخ ٨ ماي / أيار ٦٣٧هـ / ١٢٤٠م.
من ذلك كل يتضح أن " الأحياء المسيحية " كانت تمثل مجتمعات صغيرة تعيش فيها الطوائف المسيحية، وتمارس أنشطتها وديانتها بكامل الحرية، وكأنها في بلدانها الأصلية. لكن هل يمكن القول أنها كانت تتمتع بحصانة ديبلوماسية ؟
لا شيء يمكننا من الإجابة بدقة على هذا التساؤل، لكن يبدو أن جهاز الدولة المغربية العسكري والأمني لم يكن يسمح لهم بالدخول إلى هذه المدن سوى بأمر من السلطات المغربية.
بقي بعد هذا إثارة نقطة هامة تخص الوضعية الاجتماعية لفئة من هؤلاء المسيحيين، وهي فئة العبيد الذين اضطرتهم ظروف الأسر إلى العيش في الغرب الإسلامي. 

فمن المعلوم أن القرصنة البحرية كانت تشكل أحد موارد بيت المال، فضلا عن أن العبيد كانوا يمثلون يدا عاملة هامة، كما أن مسألة افتداء الأسرى تحمل أكثر من دلالة على المغزى الاقتصادي من عمليات القرصنة.
ونرجّح انطلاقا من نصوص تاريخية وفقهية أن مراكش وغيرها من مدن الغرب الإسلامي كانت تزخر بفئة الرقيق الأوروبي التي أثارت عطف العالم المسيحي، فقامت بعض الجمعيات النصرانية بتقديم مشروع إلى البابوات يقضي بجمع التبرعات والصدقات لتحرير العبيد من بني جلدتهم. وقبل البابا إنوسانت الثالث المشروع، واتصل بالخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور بواسطة رسالة مؤرخة في ٨ مارس ١١٩٨ م يطلب منه فيها تسهيل مأمورية البعثة الدينية التي أرسلها لافتداء الأسرى. 

وقد ردّ الخليفة الموحدي ردا إيجابيا حيث رحّب بالبعثة وأمر بتسهيل مهمتها في جميع أنحاء البلاد، وتمكنت من شراء ١٨٦ أسيرا في تونس سنة ١٢٠١م، وفي سنة ١٢١٠ بلغ عدد المحررين في تونس ٢٢٠، بينما بلغ عدد هؤلاء في الجزائر وحدها .
إن هذه الإحصائيات وغيرها تنهض شاهدا على روح التسامح التي تعامل بها المغاربة مع المسيحيين، وقد أعطى هذا التسامح ثماره حتى أن قائد الحاميات المسيحية في مراكش في عهد الخليفة الموحدي المنتصر عرف بأنه «أكبر صديق للمسلمين». وإذا كان قد حاربهم بعد مغادرته المغرب، فقد سخّر نفسه للتوفيق بين الجانبين، بينما نعت الأسقف Lupus بكونه مهندس الصداقة القشتالية – الموحدية. 

ولعلّ روح التسامح هذه هي التي جعلت البابا أنوسانت الرابع لا يكتفي فقط بتوجيه رسائل الشكر والتقدير إلى الخلفاء الموحدين، بل إنه حث المسيحيين على التوجه نحو المغرب، وطلب من الأساقفة الإسبان والبرتغاليين حماية ممتلكاتهم في المناطق التي كانوا يمرون فيها.
وينهض ارتفاع عدد المسيحيين المقيمين في المغرب دليلا آخر على جو التسامح الذي كانوا يرتعون في ظله. والأرقام التي قدمها بروسّلار Brosselard لها أكثر من دلالة.
ومن الإنصاف القول إن هذا التسامح كان متبادلا، فالمجاعة التي عصفت بأفريقية سنة ٥٤٢هـ/١١٤٧-١١٤٨م جعلت كثيرا من عائلات النبلاء تطلب مساعدة روجار الثاني، واللجوء إليه، فما كان من هذا الأخير إلا أن رحّب بعرضهم.
أما الزواج بين المغاربة بالنصرانيات، واعتناق الإسلام فهو أكبر دليل على ثمار هذا التعايش السلمي وهو ما سنتطرق إليه لاحقا، فهل يمكن بعد كل هذا أن نجد ما يناقض مقولة التعايش السلمي ومناخ التسامح بين الجانبين ؟
https://taghribnews.com/vdchxqnzv23nz-d.4tt2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز