تاريخ النشر2022 25 January ساعة 18:00
رقم : 535831
محمد جرادات

مخطط برافر الصهيوني ضد النقب الفلسطيني يطل بوجه جديد

تنا
لعل كل ذلك متصل بالمناخ العربي المواتي، حيث انشغلت الأمة عقداً كاملاً من الزمن بتمزيق كياناتها الصغيرة إلى ما هو أصغر، في ظل ما يسمّى "الربيع العربي".
مخطط برافر الصهيوني ضد النقب الفلسطيني يطل بوجه جديد
محمد جرادات 


لعل كل ذلك متصل بالمناخ العربي المواتي، حيث انشغلت الأمة عقداً كاملاً من الزمن بتمزيق كياناتها الصغيرة إلى ما هو أصغر، في ظل ما يسمّى "الربيع العربي".

مخطط برافر الصهيوني ضد النقب الفلسطيني

ارتبطت مشاريع الكيان العبري كافة منذ تأسيسه بمصادرة أراضي العرب، وهم السكان الأصليون لهذه البلاد، ولا يمكن فهم الخطط الإسرائيلية لما يسمّى عملية (توطين) بدو النقب، وهي خطط قديمة جديدة، إلا في سياق احتواء أراضي النقب ومصادرتها.
وعندما يكشف هذا الكيان عن أقنعته كافة مؤخراً بالإعلان الرسمي عن يهودية الدولة، فإن ربط مخططاته ضد السكان البدو بتهويد الأرض يصبح ربطاً منسجماً لم يعد يخفى على كل متابع.   

وكانت "إسرائيل" قد قامت منذ نواتها الفكرية الأولى على أسس قومية - دينية توراتية، ضمن عملية استثمار الحركة الصهيونية للديانة اليهودية عبر إعطائها طابعاً قومياً عنصرياً[1].

ويشمل البعد الديني اليهودي كامل منظومة مشروع "دولة إسرائيل" من المهد إلى اللحد؛ فاسمها أصلاً هو اسم ديني صرف، حيث فضّل الصهاينة استخدام هذا الاسم "دولة إسرائيل" لدولتهم بدلاً من الاسم الذي كان قد اختاره هرتسل، وهو دولة اليهود، لأسباب عديدة، لعل أهمهما:

أولاً: إيجاد تناسق بين اسم الدولة والاسم العبري لفلسطين، وهو "أرض إسرائيل" (إيرتس يسرائيل).

ثانياً: إيثار الصفة العنصرية الكامنة في اسم "إسرائيل" على الصفة الدينية في لفظة "اليهود"[2].

ونجد أن كامل صياغتها التبريرية لوجودها في هذه البقعة من العالم ينطلق من مكوّنات دينية مزعومة، عبّرت عنها هرولة 800 ألف إسرائيلي إلى المشاركة في تشييع الحاخام عوفاديا يوسف، زعيم أكبر جماعة دينية يهودية (شاس)، لتكون أكبر جنازة تشييع في تاريخ "إسرائيل"[3].

ولكنّ طبيعة تحالفها مع الغرب (الديمقراطي-العلماني) جعلها تتقمّص رداءً علمانياً فضفاضاً، لتتّسع للآخر الديني الصرف ضمن عملية احتواء وتمثيل واضحة المعالم، في محاولة إعلامية بعيدة المدى لتكريس نفسها كواحة ديمقراطية في عالم من الغاب (العالم العربي). ولعل رئيس حزب (عتيد) العلماني كشف بكل وضوح عن طبيعة علمانية "إسرائيل" المزعومة وهو يقول: إنه لا يمكن فصل الدين عن الدولة في "إسرائيل"؛ لأن الأخيرة، وخلافاً لدول العالم، تتعدى كونها مكاناً لتصل إلى حدود الفكرة[4]. 

فيما هي تكشف عن حقيقة مشروعها الديني (المنحرف عن جذور اليهودية الأصلية) عند كل منعطف طريق، ولعل مطالبتها الرسمية المُلحّة للعرب منذ سنوات بقبولها كدولة يهودية، وهو ما عبّر عنه العربي/الصهيوني منصور عباس بكل وضوح، هو ما كشف آخر ما يمكن التعامي عنه عن طبيعة "إسرائيل".

 وسبق للزعيم الصهيوني بنيامين نتنياهو أن أعلن بكل صلافة أن "الشرط الأساسي لإنهاء الصراع هو الإقرار الفلسطيني العلني، الملزم والصادق، بـ(إسرائيل) دولة قومية للشعب اليهودي"، حيث أقدمت حكومته في تشرين الأول/أكتوبر 2010م على إجراء تعديلات على "قانون المواطنة" بحيث يتضمن أداء قسَم الولاء لـ"الدولة اليهودية" شرطاً لاكتساب الجنسية الإسرائيلية.

وزعم نتنياهو أن هذا الطرح "استمرار لما بدأه بن غوريون، أي دولة لليهود، لا دولة يعيش فيها مواطنون من اليهود". ويرى غيورا أيلاند، أحد أبرز منظّري الأمن القومي الإسرائيلي، أن طرح نتنياهو شرط ضروري لإحراز تسوية نهائية مع الفلسطينيين. وحديثاً، كشفت صحيفة معاريف الصهيونية عن جهد تبذله الإدارة الأميركية من أجل إقناع أعضاء الجامعة العربية بالإعلان عن قبولهم بمبدأ الدولة اليهودية[5]. 

ولعل كل ذلك متصل بالمناخ العربي المواتي، حيث انشغلت الأمة عقداً كاملاً من الزمن بتمزيق كياناتها الصغيرة إلى ما هو أصغر، في ظل ما يسمّى الربيع العربي[6].

ولعل هذا الأمر يدعونا إلى استذكار نص وعد بلفور الشهير، والذي يقول فيه: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين".

الباحث في الشؤون "الاسرائيلية" إحسان مرتضى يوضّح، في مقابلة على موقع المنار، طبيعة هذ الوعد، بتأكيده أن الخطورة التي حملها أنه لم يعترف بوجود الشعب الفلسطيني أصلاً. فهو يقول "الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين"، لا الشعب الفلسطيني أو الفلسطينيون.

وهذا كان تلبية لرغبة اليهود أنفسهم، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. فهؤلاء المقيمون في فلسطين لهم حقوق مدنية فحسب، وليس لهم حق في وطن ودولة. حتى قرار إنشاء "إسرائيل" وتقسيم فلسطين قام على هذا الأساس. وقبل الوعد كان اليهود في فلسطين لا يشكلون أكثر من 5% من تعداد السكان. ولكن بفعل الهجرات غير الشرعية في تلك الحقبة، أصبحوا يمثلون ما نسبته 15%، إذ إن بلفور أعطى أرض فلسطين لهذه الفئة في مقابل تجاهله لنسبة 85% من المسلمين والمسيحيين فيها[7].

وجذور الفكرة لم تبدأ مع وعد بلفور، بل بدأت مع كتاب تيودور هيرتزل "دولة اليهود" في العام 1895م، الذي وضع الحجر الأساس لظهور الصهيونية السياسية، وتأسيس الحركة الصهيونية بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية بين الـ29 والـ31 من آب/أغسطس 1897م، وانتخاب هرتزل رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.
بعد ذلك بدأ هرتزل عدة محادثات مع شخصيات عديدة من دول مختلفة، مثل القيصر الألماني فيلهلم الثاني (.Wilhelm II) الذي التقى به سنة 1898م مرتين في ألمانيا وفي القدس، والسلطان العثماني عبد الحميد الثاني سنة 1901م، بحثاً عن مؤيدين للمشروع الصهيوني. لكن جهوده فشلت، وتركت المجال مفتوحاً لمواصلة العمل على تأسيس الدولة، وتابعها من بعده حاييم وايزمان وزئيف جبوتنسكي ودافيد بن غوريون[8].

وكان أحد رؤوس الصهيونية يشعياهو بن فورت قد كتب بكل وضوح عبر صحيفة يديعوت تحت عنوان: (الخطأ والسذاجة والتلون: إن الحقيقة هي أنه لا صهيونية من دون استيطان، ولا دولة يهودية من دون إخلاء العرب ومصادرة أراضيهم وتسييجها)[9].

ومثّل إصرار عرب فلسطين المحتلة عام 48م على التمسّك بهويتهم الوطنية الفلسطينية قلقاً كبيراً، لأنه يحدّ من طبيعة (الدولة اليهودية)، وعليه يمكن فهم استمرار الهجوم على الأقلية الفلسطينية بمؤسّساتها وأحزابها وقياداتها في السنوات الأخيرة، كما يمكن فهم تعميم حكومة بينيت لثقافة الخوف عند الشعب اليهودي، عبر إقناعه بأن الدولة في خطر، وأن هذا الخطر آتٍ من إيران، وحتى من السلام مع السلطة الفلسطينية، لذلك لا سلام إلا باعتراف الجميع بيهودية الدولة، وخاصة أن ورقة ما يسمى الإرهاب لم تعد ناجعة، فماذا ستكون الحجة المقبلة؟

اتّجهت حكومات "إسرائيل" المتعاقبة نحو حزمة (إصلاحات) تتعلق بالأراضي تأكيداً منها لإحكام قبضتها على أغلبية المساحة الجغرافية لـ"الدولة"، وهي تزعم أنها واحة للديمقراطية، حتى سيطرت على ما يقدّر بـ93% من مساحتها، بشكل ليس له مثيل إلا في دول شمولية.

لذا جاء إعلانها السافر عن خططها الأخيرة لتهويد النقب الفلسطيني منسجماً مع صراحتها في مطالبة العالم بقبولها ككيان يهودي صرف، وليس فقط ككيان سياسي-ديمقراطي يشكل فيه اليهود أغلبية، وإن حاولت التمويه في طبيعة خططها التهويدية للنقب تحت مسمى (مشروع قانون تنظيم استيطان البدو في النقب 2013م)، وهو مشروع قديم تمتد جذوره منذ بدأ احتلال فلسطين التاريخية عام 1948م، بل منذ عام 1911م عندما أخذ بعض اليهود يحاولون تملّك بعض أراضي النقب بالشراء، ولاحقاً بعثوا بخبراء مختصين لتبيان الأراضي الأكثر خصوبة لوضع اليد عليها[10].

باشر الاحتلال طرد أهل النقب من أراضيهم الزراعية ومرابض ماشيتهم، عبر ممارسة شتّى صنوف القهر والتضييق، في ظل حكم عسكري صارم استمر حتى عام 1966م، ليتدنّى عددهم عام 1953م إلى 11 ألف نسمة، من أصل 80 ألف نسمة عام 48م، تم طردهم إلى غزة ومصر والأردن، فيما تمّت محاصرة مَن تبقى منهم في (منطقة السياج) شرق بئر السبع، حيث تحتاج السيدة المُسنّة إلى المشي عشرات الكيلومترات لكي تصل إلى مركز صحي لتلقّي العلاج عبر شوارع غير معبّدة، والأطفال قد يضطرون إلى المشي مسافات طويلة كل صباح ذهاباً إلى مدارسهم. أما خدمات المياه، فقد وفّر أهالي بعض القرى بجهد سبلاً لمدّ قراهم بأنابيب ضخ مياه، والبعض الآخر اجتهد واخترع طرقاً لاستغلال الطاقة الشمسية للحصول على طاقة كهربائية[11].

وسارع الاحتلال إلى إقامة الكثير من المستوطنات والمنشآت العسكرية التي تتزايد مساحتها تدريجياً، لتتحول إلى مدن مثل ديمونة، وعراد، وإيلات، ونتيفوت، وافقيم، ويروحام، وحرصوا على تركيزها فوق أراضيهم الخصبة غرب بئر السبع من أجل زيادة السكان اليهود، وحرموا البدو رخص البناء أو الاستقرار في المنطقة.

واستهداف الاحتلال للنقب طوال الوقت يعبّر عن إدراك صهيوني لأهمية النقب الاستراتيجية، حيث تعدّ منطقة النقب أوسع الأراضي مساحة في (كنعان) التاريخية، تبلغ مساحتها نحو 13 مليون دونم، ونصف مساحة فلسطين المحتلة، وتمتد من مدينة بئر السبع وقرية الفالوجة، حتى (بقعة أم الرشراش) مدينة إيلات على الجانب الغربي من خليج العقبة، وهي متصلة بثلاثة أبحر: المتوسط من الغرب للشمال، والميت من الشمال للشرق، والأحمر من الجنوب[12].

ويضم النقب وجوداً عربياً متنامياً يزيد من قلق المحتلين، وأكبر مدن النقب هي بئر السبع، ولكن الوجود العربي فيها انتهى بشكل تام بعد احتلالها عام 48م، وهو اليوم يتركز في مدن توطين مثل مدينة راهط 71.000 نسمة، ومدينة اللقية 15.000 نسمة، وعرعرة النقب (12.000 نسمة) وكسيفة (11.000 نسمة) وحورة (10.000 نسمة) في حين يبلغ عدد سكان القرى البدوية (غير المعترف بها) 86,000 نسمة[13].

وكان ديفيد بن غوريون، مؤسّس الدولة العبرية، ومهندس النكبة، قد أمضى أيامه الأخيرة في صحراء النقب، وكانت وصيّته أن يدفن هناك. يمكن الاستدلال من ذلك على مدى الأهمية الاستراتيجية للنقب لدى كيان العدو. هناك تقع أكبر قاعدة نووية في الشرق الأوسط، وتحت رمالها ثمة ثروة طبيعية هائلة لا تزال "إسرائيل" تتكتّم عليها، منذ الخواجا شكري ذيب والخواجا الياس الجلاد[14]، وتحت رمالها أيضاً وتد خيمة الإنسان البدوي الذي تعب من الترحال، فاختار الصحراء وطناً أبدياً.
وينشر المؤرخ عارف العارف (1892-1973م) قائم مقام بئر السبع في الثلاثينيات والأربعينيات[15]، أهداف الخطط الإسرائيلية لاستمرار طرح مشاريع ترحيل بدو النقب وتوطينهم، ومنها خطة عام 1965م، كما يلي:

- تخفيض نسبة تفوّق أعداد العرب على اليهود في منطقة النقب.
- توفير أراض لأعداد جديدة من المهاجرين اليهود، لتنفيذ مشروع جزر المياه للنقب.
- دفع بدو النقب نحو الشمال، قريباً من المدن اليهودية، بحيث يضطرون إلى العمل في مشاريع الاقتصاد الصهيوني، ووضع المشاريع الصهيونية في أيد عاملة رخيصة نتيجة لتشرّد البدو من أراضيهم[16]. 

واللافت في طبيعة السياسة الإسرائيلية تجاه التعامل مع أهل النقب عبر استدعاء حلول مزعومة على أيدي سلسلة جنرالات، ليس الجنرال أيهود برافر أوّلهم، إذ شاركه هذا العمل الجنرال عميدرور رئيس مجلس الأمن القومي، والجنرال يهودا باخر رئيس سلطة توطين البدو، والجنرال دورون ألموج المعيّن لتطبيق مخطط برافر قبل تجميده العلني.

وقد صادق كنيست (إسرائيل) على مخطط برافر يوم 25/6/2013م، بحيث يتم بموجبه هدم (20-40) قرية عربية، وترحيل عشرات الآلاف من البدو من بيوتهم، إلى ما يسمّى مناطق تركيز هي أقرب إلى المعتقلات الجماعية، ومصادرة أكثر من نصف مليون دونم من أراضي البدو، خاصة تلك الأراضي الخصبة بين بئر السبع وقطاع غزة، علماً بأن أغلبيتهم 90% كانت تعتاش على الزراعة[17]. كما تهدف "إسرائيل" من خلال هذا المخطط إلى تهويد الجنوب وعسكرته، ومنع أي تواصل جغرافي ما بين النقب وغزة وسيناء[18].

ومؤخراً، أوضح إيلي عتصمون، نائب رئيس مديرية البدو سابقاً، أن الأرقام الواردة في مخطط برافر مضللة، وهو يعني ترحيل نحو 100 ألف مواطن بدوي لا 40 ألفاً كما يُنشر عادة[19].

واتّسم مخطط برافر بغموض شديد، رغم الإعلان الحكومي الرسمي عن تفاصيل الخطة وجدول تطبيقها[20]، وأنّ الخطة مكوّنة من أربعة أسس:

(1) ترتيب الاستيطان البدوي المشتّت في النقب. 
(2) تطوير اقتصادي للمجتمع البدوي في النقب.
(3) تنظيم وضع ملكية الأرض.
(4) وضع إطار لتطبيق الخطة وفرضها ضمن جدول زمني واضح[21].

وادّعت حكومة الاحتلال أنّ "الخطة هي جزء من مجمل المشاريع الحكومية لتطوير النقب، وأن هدفها هو دمج أفضل للبدو في المجتمع الإسرائيلي، وتقليص الفوارق الاقتصادية بين المجتمع البدوي وباقي المجتمع الإسرائيلي!"، وأنّها ستقرّه كقانون ملزم، وإعادة تنظيم وسائل تطبيقه وفرضه، كما عيّنت حكومة الاحتلال الوزير بيني بيغن ليشرف على تطبيق الخطة.

ووفقاً للتقارير الحكومية، فإن تكلفة هذا المخطط تبلغ 6.8 مليارات شيكل (نحو ملياري دولار) بينها 1.2 مليار شيكل سيتم رصدها لتطوير البلدات البدوية التي سيتم نقل البدو إليها[22].

إن الهدف الكامن وراء كل مشاريع (توطين) البدو هو سلخ البدويّ نفسيّاً ووجوديّاً عن بداوته[23]، وجرّه إلى بيئة مدنيّة مهجّنة يضطلع فيها الاحتلال بعملية «التأديب المدني» لصقل شخصية «المواطن العصري الأليف» الذي يريده الاحتلال، بعيداً عن قيم العناد والتمسّك بالأرض والمقاومة التي جبلتها الصحراء داخله. كذلك، سيتمزّق النسيج العشائري الدقيق، الذي كان يحكم علاقات العشائر البدوية منذ مئات السنين. ستجد تلك العشائر نفسها مضطرة إلى التعايش في بيئة واحدة ضيّقة، بعدما كانت تمارس حياتها بحرّية أكبر في الحيّز الصحراوي المفتوح، وتحظى كلّ واحدة منها بنوع من الاستقلالية في حيّزها الخاص. ربّما ذلك ما يفسّر ارتفاع نسب الجريمة في القرى المعترف بها، والتي يسكنها خليط من العشائر البدوية، عنها في القرى غير المعترف بها[24].

يتكوّن مخطط برافر من عشرة أبواب تشير جميعها إلى طبيعة الخطط الصهيونية لتهويد البلاد، فقد جاء في الباب الأول من المخطط:

(تسوية ملكية الأراضي في النقب مع الأخذ بعين الاعتبار ادّعاءات الملكية التي قُدّمت من قبل السكان البدو من أجل تنظيم قضية الاستيطان للبدو في النقب بحسب قرارات الحكومة). فالموضوع يتعلق بالأساس بالأرض وحسم ادّعاءات الملكية بحسب قرارات الحكومة، لا كما يزعم عنوان المخطط (قانون تنظيم استيطان البدو في النقب). 

مع أن القصد من استعمال مصطلح "استيطان البدو" جاء لغرض طمس وتمويه حقائق جوهرية في واقع البدو، وتشبيههم بالمستوطنين الذين يستوطنون في الضفة الغربية، وباقي الأماكن التي لم يمتلكوا فيها الأرض من قبل[25].
وانصبّ الباب الثالث على طبيعة عمل اللجنة المكلفة بتعويض البدو عن ترك أراضيهم تركاً نهائياً، وهي لجنة تتكوّن من خمسة أعضاء يعينهم رئيس الحكومة، الذي له الصلاحية وحده في تحديد منطقة التعويض والأمور التي يجب على اللجنة معالجتها.
وجاء الباب الرابع ليؤكد أن التعويض مقابل الأرض. ويحصر ادّعاء الملكية بمن قدّموا ادعاءات وشكاوى في سبعينيات القرن الماضي فقط، إلا إذا كان المدّعي هو "دولة إسرائيل" أو الصندوق القومي لـ"إسرائيل" أو سلطة التطوير فلا حدود للادعاء!!!
ولا يخفى أن تحديد فترة زمنية محدودة ماضية للادّعاء يهدف إلى تحقيق أمرين:

أوّلهما: منع طرح موضوع أراضي عشيرة العزازمة في الجزء الأوسط والجبلي من النقب، والتي تصل مساحتها إلى 200 ألف دونم، والتي تمّت مصادرتها قبل السبعينيات[26].

وثانيهما: ضمان عدم فتح ملف أراضي شمال غرب النقب، والتي تمّت مصادرتها قبل السبعينيات.  

وجاء الباب الخامس ليحدد للمدّعين مدة تسعة أشهر فقط لتقديم الدعوى والدخول في تسوية على أراضيهم.

فيما حدّد الباب السادس المقابل التعويضي لمن يدخل في عملية التسوية، ضمن شروط ومواصفات معقّدة جداً، وتعبيرات غامضة تجعل الموضوع برمته في ذمة لجنة التعويضات، هذا إن أثبت المدّعي أنه كان يفلح أرضه في سبعينيات القرن الماضي، وتوافر فيها انحدار أقل من 13%!!! وكله بحسب تعليمات يفرضها رئيس الحكومة بنفسه.

وتتفاوت نسبة التعويضات بحسب مسارعة المدّعي إلى الدخول في تسوية، وبحسب مزايا الأرض، ونسبة المنضمين إلى التسوية من الوارثين لمدّعي الملكية، وأي تأخير يصل إلى 21 شهراً من إقرار القانون يحرم المدعي أيّ تعويض.

ومما يحسم أطماع هذا المشروع بضم الأرض وتهويدها، أنه لا يعطي المدّعي المُثبت استعماله لأرضه في السبعينيات إلا نسبة 50% من الأرض، والباقي تعويض مالي، أما إن كانت تحت سيطرة المدّعي من دون استعمال، فلا يأخذ إلا تعويضاً مالياً نقدياً فقط.

ويتناول المخطط أراضي شمال غرب النقب التي طرد منها أهلها وصودرت، بتعويض جزئي عبارة عن أرض صحراوية، تقع جنوب السياج في عمق الصحراء.

ويتضمن المخطط جملة عقوبات تعطي مدير أراضي "إسرائيل" الحق في إصدار أوامر إخلاء خلال 30 يوماً بحق كل من لم ينضم إلى التسوية، أو انضم إليها ولكنه أخلّ ببعض بنودها.

وأخطر ما نصّ عليه هذا المخطط اعتباره الحل النهائي لقضية ملكية الأرض في النقب، وأنه لا يجوز المطالبة بأي حق بعد مرور 3 سنوات على سنّ القانون وانتهاء التسوية[27].

تكمن خطورة هذا المخطط في تجاهله المدوّي لكون عرب النقب هم أصحاب الأرض الأصليين، وهو لا يعترف بكثير من القرى البدوية التي سبق تجاهل وجودها، بل إن المخطط يتجاهل قرية الفرعة التي اعترف بها عام 2006م[28].

وجاء إعلان وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية عن خططها لإقامة خمس مستوطنات في المنطقة الواقعة بين مدينتي بئر السبع وديمونا، حيث ستقدمه إلى الحكومة من أجل المصادقة عليه، ضمن مقترحات تطوير الاستيطان في الضواحي، وعشية المصادقة على مشروع قانون "برافر" العنصري بالقراءتين الثانية والثالثة، وقد أطلقت وزارة البناء والإسكان أسماءً على المستوطنات الخمس، وهي "عومريت"، "غبعوت عدريم"، "تيلم"، "تلما" و"تلباه". هذا الإعلان يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الهدف التهويدي الحقيقي لمشروع برافر[29].

والحقيقة أن ثمة أهدافاً خفية تكمن وراء مخطط برافر، وهي:

1. عزل النقب عن محيطها العربي (غزة – سيناء).
2. تعزيز وجود المستوطنات في النقب، وخاصة في المناطق التي تعتبر خصبة من ناحية اقتصادية، كالمعادن والرمال والصخور النارية.
3. بناء مراكز عسكرية واستخبارية بالقرب من المحيط العربي، وخاصة مصر والأردن وخليج العقبة.
4. العمل على تسهيل مخطط بناء قناة البحرين، الأحمر والميت، وفتح مجال لخط السكة الحديد الذي سيربط القناة مع البحر المتوسط للاستغناء عن قناة السويس[30].

رفض البدو بكليّتهم مخطط برافر، وعبّر عنهم النائب طلب الصانع عندما تساءل قائلاً: "إذا كان الهدف هو التطوير فلماذا الترحيل والمصادرة؟ ألا يمكن التطوير إلا بترحيلهم وبهدم بيوتهم وقراهم القائمة قبل قيام "دولة إسرائيل"؟ وأضاف: "لماذا لا يتم الاعتراف بها، وتقام فيها أكثر من 75 مزرعة فردية لليهود وتُرحّل قرى عربية يسكن فيها الآلاف؟ ولو كان سكان هذه القرى من اليهود فهل يتم ترحيلهم؟.[31]

كما رفضت كل القيادات العربية في الداخل الفلسطيني هذا المخطط، ودعت إلى سلسلة خطوات مضادة، ليس آخرها إعلان الإضراب العام في مختلف مناطق الوسط العربي[32].

لن يمر مخطط برافر بالتأكيد، وهو نبأ قديم عبّر عنه قائم مقام بئر السبع في عهد الانتداب عندما وصف البدوي بأنه: (يعتبر أرضه كعرضه)[33].

والأرض والعرض متلازمان في وعي البدوي العربي، وهذا ما جعل مخطط تهويد النقب يمر بمراحل طويلة، لعلّ أحدها مخطط برافر، وهو المخطّط الموقت بزمان محدّد متّصل بسعي (إسرائيل) لفرض نفسها كدولة يهودية صرفة أمام العالم برمّته، وخاصة الشعب الفلسطيني. 
 
[1] أنظر كتاب جلعاد عتسمون: مَن التائه؟ دراسة في سياسة الهوية اليهودية. ترجمة حزامة حبايب. المؤسسة العربية للدراسة والنشر. عمان. 2012م.
[2] الطحان، زينب. قناة المنار. 28/10/2013.
http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=630914&cid=41&fromval=1&frid=41&seccatid=101&s1=1
[3]وكالة فلسطين للإعلام.8/10/2013م.http://www.palone.net/pnm/news.php?action=view&id=27857
[4] وكالة معا.30/10/2013م. http://www.maannews.net/arb/ViewDetails.aspx?ID=642498
الطحان، زينب. قناة المنار.  28/10/2013.
http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=630914&cid=41&fromval=1&frid=41&seccatid=101&s1=1
[5] ماذا يعني أن تصبح "إسرائيل" يهودية؟! وكالة فلسطين اليوم. 28/10/2013م. http://paltoday.ps/ar/
[6] نصار، إبراهيم. الربيع العربي: حضور فلسطين رافعة، وغيابها كارثة. جريدة حق العودة. العدد 53.
[7] ماذا يعني أن تصبح "إسرائيل" يهودية؟! وكالة فلسطين اليوم. 28/10/2013م. http://paltoday.ps/ar/
[8] جبارة، تيسير، دور الحركة الصهيونية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876 ـ 1919 م). جامعة النجاح الوطنية.
[9] eman2005y. الاستيطان تتبع تاريخى. 22/نوفمبر 2008م. 
http://www.alismailia.com/Board/lofiversion/index.php?t20040.html. 
يقول موقع ما يسمى "وزارة الخارجية الإسرائيلية" في تعريف "دولة إسرائيل" إن: "إسرائيل دولة يهودية وديموقراطية، وإن كان هذان المنهجان يبدوان متناقضيْن إلاّ أنّ الدمج بينهما كان اعتباراً طبيعياً بالنسبة إلى الآباء المؤسّسين للدولة وواحداً من الخطوط العريضة للوطن منذ أن وُلد مجدّداً في العام 1948. وكان بعض بذور الديموقراطية السياسية الحديثة قد زُرع خلال المراحل المبكّرة من التأريخ اليهودي علاوة عن جملة من المبادئ والقيم الأساسية تشكّل ركيزة الديموقراطية كانت من محاور الفكر اليهودي قولاً وعملاً طوال ألفي عام فأكثر".

الطحان، زينب. قناة المنار.  28/10/2013.

http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=630914&cid=41&fromval=1&frid=41&seccatid=101&s1=1
[10] العارف، عارف، بير السبع وقبائلها، ص274-275. مكتبة مدبولي، 1999م.
[11]العارف، عارف. أوراق عارف العارف. ص1040. ج4. مركز أبحاث م ت ف. الدار العربية للموسوعات. بيروت.  فلاح، غازي، الفلسطينيون المنسيون عرب النقب 1906-1986، ص198. مركز إحياء التراث العربي. الطيبة/المثلث، 1989م.
[12] العارف، عارف، بير السبع وقبائلها، ص267-268، مكتبة مدبولي، 1999م.
[13] فلاح، غازي، الفلسطينيون المنسيون ص105. 183.
[14] العارف، عارف، بير السبع وقبائلها ص276.
[15] يعقوب، أوس. واحة الفكر والثقافة. مؤسسة القدس للثقافة. 
[16] العارف، عارف. أوراق عارف العارف. ج4 ص1060.
[17] وخاصة الشعير والحنطة والذرة والبطيخ والتبغ. العارف، عارف، بير السبع وقبائلها ص279. فلاح، غازي، الفلسطينيون المنسيون ص83.
يقول طلب الصانع أن بدو النقب كانوا قبل عام 1948 يزرعون الأراضي، مشيراً إلى أنه بحسب صور جوية تابعة لسلاح الجو البريطاني ملتقطة في عام 1943م فإن أكثر من أربعة ملايين دونم كانت مزروعة.
خطة برافر تهجير أم توطين للبدو. file:///C:/Users/1/Desktop.htm  
[18] أبو لاشين، جمال. مخطط برافر... بين صمود أهالي النقب وخفايا أمن إسرائيل. الحوار المتمدن-العدد: 4221 l 2013 / 9 / 20.
[19] شبكة مزاج الإذاعية. 18/9/2013م. http://mazajfm.ps/archives/5079
[20] حنا سويد رئيس كتلة الجبهة البرلمانية. صحيفة كل العرب. الناصرة.11/9/2011م.
[21] أبو لاشين، جمال. مخطط برافر... بين صمود أهالي النقب وخفايا أمن إسرائيل. الحوار المتمدن-العدد: 4221 l 2013 / 9 / 20. الخطيب، إياس. دراسة عن مخطط برافر. مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
[22] الخطيب، إياس. دراسة عن مخطط برافر. مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
[23] العارف، عارف. أوراق عارف العارف.ج4 ص1079-1088.
[24] فلاح، غازي، الفلسطينيون المنسيون ص170-171 ، 200.
[25] فلاح، غازي، الفلسطينيون المنسيون ص169.
[26] العزازمة إحدى القبائل العربية الفلسطينية التي كانت تقطن في جنوب قضاء "بئر السبع"، وكانت مضاربهم مترامية الأطراف، تمتد من "بئر السبع" حتى "وادي عربة" و"حدود سيناء". كان عدد أفراد العزازمة عام 1946م "16370" نسمة . في الثالث من أيلول/ سبتمبر عام 1950م، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مستعملة السيارات المصفحة، ومستعينة بالطائرات، بطرد "4071" بدوياً من قبيلة "العزازمة"، من منطقة "العوجا" المجردة من السلاح على الحدود المصرية، وأجبرتهم على اللجوء إلى صحراء "سيناء"، بعد مجزرة رهيبة قتل فيها العديد من النساء والأطفال.
 فلاح، غازي، الفلسطينيون المنسيون ص69 ،117.

[27] أبو راس، ثابت. مخطط برافر ومصادرة أراضي عرب النقب. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. يوليو 2013م.
[28] أبو راس، ثابت. مخطط برافر ومصادرة أراضي عرب النقب. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. يوليو 2013م.
[29] وكالة معا. 29/10/2013م. http://www.maannews.net/arb/ViewDetails.aspx?ID=642091
[30] الخطيب، إياس. دراسة عن مخطط برافر. مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2013م.
[31] منصوري، بديعة. خطة برافر تهجير أم توطين للبدو.26/7/2013م. . file:///C:/Users/1/Desktop.htm
[32] شبكة القدس للحوار.15/7/2013م. http://www.elqudos.com/vb/showthread.php?t=51541
[33] العارف، عارف، بير السبع وقبائلها ص274.


محمد جرادات
باحث فلسطيني

/110

 
https://taghribnews.com/vdcexn8nzjh8xvi.dbbj.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز