تاريخ النشر2010 1 November ساعة 16:23
رقم : 30014

الانعتاق من "عبادة التاريخ"..

إنَّ الطريق نحو تجديد الفكر الإسلاميّ، ينبغي أن يكون منطلقها الأساسيّ هو المنهجيّة العلميّة، في إطار الشَّريعة الإسلاميّة، ذلك المُنْطَلَق الذي من أجله، وفي سبيله، كانت مُعْجِزة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلّم هي القرآن الكريم، الذي ما يزال البعض يحتفظ به في بيته كجزءٍ من التراث بدلاً من تحويل غاياته إلى مشاريع بناء للعقل المُسلم
الانعتاق من "عبادة التاريخ"..
وكالة انباء التقريب (تنا) :

محمّد حليقاوي : كاتب اردني 

ينطلق المشروع التجديديّ في الفكر الإسلاميّ المُعاصر من حقائق شتّى، حيث تُشكّل قضيّة المعرفة التاريخيّة العميقة والمُنْفَتِحة على " الذات " أولاً، وعلى " الآخر " وثقافاتهِ ولُغاته ثانياً، تُشكّل ركناً أساسياً في سبيل تكوين وعي تاريخيّ إنسانيّ، يتحوّل بدوره إلى مسؤوليّة جماعيّة تتبلور إلى تعاونٍ فعليّ، وبدونه تنتقل الشَّريعة الإسلاميّة من " العالميّة " فكراً وقيادةً إلى مجرّد " مُبَادَرة " محلّيّة غير واعية بمحدوديّتها، ومع بلوغنا هذه المرحلة المُتقدِّمة من التفكير تبرز أهميّة اعتماد منهج نقديّ مُتوازن يرى الإيجابيات، ولا يُهمل السلبيّات، في ضوء أخلاق معرفيّة تحترم الإنسان المُسلم، وتتوقّع منه الذكاء والفهم وقبول الحقائق.

ومن وجوه انتفاع الفكر الإسلاميّ بالمنهجيّة العلميّة تجديد المنظومة الفقهيّة بالاجتهاد في موضوع الحريّات السياسيّة والدينيّة، والتخلّص من ثنائيّة دار الإسلام ودار الحرب، التي ترتبط بظروف سياسيّة وجغرافيّة تمَّ تجاوزها في العصر الحديث، وخصوصا في ظلِّ اختلاط الشعوب والأفكار في جميع أرجاء البسيطة، وهذا يتمُّ من خلال الاستفادة من التجربة التاريخيّة من دون أن يعني ذلك الاحتجاب بها أو اعتبارها نهائيّة أو مُقدَّسة، ومن هنا، يبدو جليّاً أنَّ إشكاليّة التجديد هي الوعي بالعلاقة الجدليّة بين الفكر الدينيّ والتجربة التاريخيّة، وهو ما ذهب إليه الدكتور عدنان المَقْراني في كتابه " نقد الأديان عند ابن حزم الأندلسيّ " عندما قال بأنَّ :" الوعي بالصيرورة التاريخيّة للفكر بأشكالها المُتعدِّدة،
لاستخلاص ما يمكث وينفع النَّاس من الزَّبَدْ الذي يذهب جُفاء، وكيما يكون التراث مفهوماً ومُعاصِراً لنا، لا بُدَّ أن يكون مُعاصِراً لنفسه، أي مُرْتَبِطاً في وَعْينا بظروفهِ وحيثياته التاريخيّة، وإلاَّ وقعنا في النَّسخ التكراريّ، وفي نوعٍ من عبادة التاريخ، باعتبار ما هو نسبيّ ومُتحوّل مُطْلَقا ً".

وإنَّما نسوق مسألة التشكيل المنهجيّ لعقل الإنسان المُسلم في سعيهِ نحو المعرفة النَّظريّة والعمليّة؛ لأنَّها تخضع بصفة أساسيّة للمضمون الأيديولوجي الذي يصوغ هذا الإنسان، ومن أبرز سمات هذا العقل المُسلم شمول النَّظر، أيْ توجّه العقل في بحث القضايا توجّهاً شاملاً، واستجماع جميع المُعطيات المُتعلِّقة بها ضماناً للوصول إلى الحقيقة، أمَّا الذي جعل الفكر الإسلاميّ المُعاصِر يتعثّر ولا ينتهي إلى نتائج يُكمِّل بعضها بعضاً، أو يُساعد على توسيع قاعدة البحث العلميّ وتعميقه، ذلكم هو التأرجح بين مناهج وأدوات في البحث والتفكير والمنهجيّة تُفْقد التاريخ والتراث العربيّ والإسلاميّ أصالته، وتُفكّك وحدته، وتخرج به، أو ببعض جوانبه وقضاياه، عن إطارها الحقيقيّ، ذلك الإطار الذي نَبَتَ في أرض الشَّريعة الإسلاميّة.

على الشاطىء الآخر، ما يزالَ يسعى بعض عُلماء وفُقهاء ومُفكّري مجتمعنا المُسلم إلى النَّظَر إلى فكرنا بمنظورٍ أوروبيٍّ وغربيّ، من خلال ربط هذا الفكر تلقائيّاً بالفكر الغربيّ بشكلٍ عام، أو بمرحلةٍ أو مراحلَ مُعيّنة من تطوّره، وهكذا أصبحت قضية الفكر الإسلاميّ بيان ما نقلناهُ عن هذا المُفكّر أو ذاك، والتحقيق في كيفية هذا النَّقل، والشكل الذي بهِ فهمنا هذا المنقول، وترتّبَ على هذا المنهج التجزيئيّ تفكيك وحدة الفكر الإسلاميّ إلى شظايا مُتناثرة، وتمَّ ردُّ كلّ شظيّةٍ إلى أصلها الغربيّ، وإذا حدثت المُعجِزة باكتشاف اختلاف بين الشَّظيّة والأصل المزعوم، كانت التُّهمة جاهزة، إمَّا نقصٌ في الفهم، أو خطأ في النَّقل، أو رغبةٌ في التلفيق والتوفيق، وهذه منهجيّة تتنافى مع أبسط قواعد العلم الذي يدّعي البعض أنَّه يسعى إليها.

ولعلّ هذه المُقدَّمات هي ما دفعت الدكتور محمّد الجابريّ في كتابه "نحنُ والتُّراث" إلى القول بأنَّ دراسة الفكر الإسلاميّ ما تزال تخضع " لهذه الرؤية
التجزيئيّة العازلة اللاعلميّة، فما زلنا ننظر إلى الفقه والكلام والفلسفة والنحو والأدب والحديث والتفسير والتاريخ، كعلومٍ لكلٍّ منها كيانه الخاص المستقلّ تمام الاستقلال، وكأنَّنا إزاء خزانة تضمّ تراثنا في أدراج مُنْفصلة ومُقْفَلة لا ينفتح الواحد منها إلاَّ بإغلاق الآخر، خزانة مُغلقة في الهواء لا يربطها بالواقع وما يجري فيه أيّة رابطة "، ومن هنا، يمكن القول أنَّ الفكر الإنسانيّ ضروريّ في رحلة تجديد الفكر الإسلاميّ، ولكنْ من الخارج فقط، أمَّا التجديد الحقيقيّ، والفهم الشموليّ، والنتائج العلميّة، لا يمكن بلورتها إلاَّ بمنظورٍ عربيٍّ وإسلاميّ، أي في إطار الحضارة العربيّة والإسلاميّة بوصفها حضارة مترابطة، ذاتيّة التطوّر.

وعند هذه النقطة من البيان، فإنَّ استكمال الحقيقة يقتضي القول بأنَّ دراسات الفكر الإسلاميّ الحديث ما تزال مقصورة في أغلبها على الجمع والتجميع، ولا شكَّ أن الساحة الفكرية شهدت وجود دراسات رصينة قليلة، ولكنّنا ما زلنا نفتقد إلى الكثير من الدراسات الأصيلة التي توجّهت إلى الفكر الإسلاميّ مباشرة، ممّا جعل أحد المُفكّرين يصف هذه الدراسات بأنَّها طِفْليّة وانتقائيّة وقافزة؛ لأنَّ تلك الطروحات بشكلها ومضمونها تُقدّم رؤى غير موضوعيّة وغير تاريخيّة، ذلك أنَّ الفكر الإسلاميّ ليس بضاعة تمَّ إنتاجها دفعة واحدة خارج التاريخ، بل هو جزءٌ من التاريخ، وتأسيساً على هذا ينبغي أن يكون التعامل مع الفكر الإسلامي في طريقين اثنين: طريق الفهم، وطريق الاستثمار، في الطريق الأول يجب الحرص على استلهام واستيعاب هذا الفكر بشتى مراحله وتياراته ومنعطفاته التاريخيّة بشكلٍ علميّ، والطريق الثاني يستلزم التوجّه نحو أعلى مرحلة وقف عندها هذا الفكر من أجل البناء والتقدّم والتجديد.

ولا يخفى أنَّ تجديد الفكر الإسلاميّ يتطلّب إعادة الأمور إلى نصابها داخل هذا الفكر نفسه، ومن تمام الموضوعيّة هنا القول بأنَّه لا شيء أبداً يزيد الإشكاليات الفكريّة تعقيداً سوى الطرح الخاطئ لها، والفكر الإسلاميّ المُعاصر ما تزال محاوره الأساسيّة جالسةً
على مُدرّجات الحُلُم ولم تنزل بعد إلى ميدان الواقع والمنهجيّة العلميّة، فالمُفكّر والعَالِم والفقيه والمُثقّف في مجتمعنا يتحدّث عن كلّ شيء إلاَّ المُستقبل، وحتى قضايا الحاضر التي يطرحها لا يعنيه منها إلاَّ ما كان له دلالة بالنسبة للتاريخ.

أمَّا التخطيط للغد فما يزال غائباً عن مجال اهتماماتهم، ولا نجد له أي أثر في تفكيرهم، لا على شكل حُلُم، ولا على شكل دعوة إصلاحيّة، ومن المؤلم في هذه القضيّة كلِّها أنَّ أغلب هؤلاء فعلوا ذلك عن وعيٍ مُسْبَقٍ به؛ لأنَّ طموحهم كان بناء نَظريَّة في مجتمعنا المُسلم تصلح لتبرير وجودهم، وبقاء امتيازاتهم، بمعنى تبرير الذي حصل، بدلاً من الاستعداد للمُستقبل.

من زاوية ثانية، وبصورة مُغَايرة تماماً لمن تجاهلوا المُستقبل، بَرَزَ مجموعة من الدَّارسين الذين أهملوا الحاضر، واقتصرت رؤيتهم على ربط "الماضي" بـ"المُستقبل"، أمَّا حاضر المُسلمين فإنَّه غير "حاضر"، ليسَ لأنَّ هذا الواقع مرفوض وهجين فحسب، وإنَّما لأنَّ قوّة الماضي امتدت إلى المُستقبل وجعلته يدور في فَلَكه، وربّما كان هذا شكلٌ من التعويض عن الحاضر الذي لا نملك منه سوى الهواء، وربّما كان ذلك أيضاً تضخُّماً للذات التي لا تريد الاعتراف بالزمان الذي تركها في نهايات القرن الرابع الهجريّ، ولكنَّ المؤكّد أنَّ الإنسان المُسلم يحيا في مُجتمعٍ استطاع أبناء النُّخبة السياسيّة والعلميّة فيه سرقة الشَّريعة الإسلاميّة، وسرقة الجامع، وسرقة يوم الجمعة، وأصبحَ الماضي الذي أعاد هؤلاء صياغته بهدف الارتكاز عليه نحو مشاريع التجديد، أصبح هذا الماضي هو ذاته مشروع التجديد.

وأمَّا ختام القول، فإنَّ الطريق نحو تجديد الفكر الإسلاميّ، ينبغي أن يكون منطلقها الأساسيّ هو المنهجيّة العلميّة، في إطار الشَّريعة الإسلاميّة، ذلك المُنْطَلَق الذي من أجله، وفي سبيله، كانت مُعْجِزة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلّم هي القرآن الكريم، الذي ما يزال البعض يحتفظ به في بيته كجزءٍ من التراث بدلاً من تحويل غاياته إلى مشاريع بناء للعقل المُسلم، والإنسان المُسلم، وشتَّان.


https://taghribnews.com/vdcjxyet.uqeyvzf3fu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز