تاريخ النشر2025 4 May ساعة 11:23
رقم : 675507

باحثة تونسية : الحج دعوة مفتوحة لترسيخ الوحدة بين المسلمين

تنـا - خاص
وصفت الدكتورة "سندة الكوندي" وهي استاذة جامعية وباحثة اجتماعية تونسية، شعيرة الحج، بانها "تجلٍّ سنويّ لوحدة الأمة الإسلامية، ودعوة مفتوحة إلى ترسيخ تلك الوحدة في الحياة اليومية، بعد العودة من المشاعر المقدّسة".
باحثة تونسية : الحج دعوة مفتوحة لترسيخ الوحدة بين المسلمين
وفي مقال لها خلال حضورها عبر الفضاء الافتراضي في ندوة "الحج دعوة للوحدة واحياء الامة الاسلامية"، عقدت اليوم الاحد برعاية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، اضافت الدكتورة الكندي، إن فريضة الحج هي تجربة تربوية، تُقوّي الإيمان الفردي، وتُغذّي الوعي الجماعي، وتفتح بابًا للتجديد الروحي والاجتماعي في حياة المسلمين.

وفيما يلي نص هذا المقال : - 

دور الحج في توحيد المسلمين
يعتبر الحج الأفضل من بين العبادات و المناسك الدينية حيث قال الإمام الصادق (ع) " الحج أفضل من الصلاة و الصيام " هذا على المستوى العقائدي أما على المستوى الإجتماعي  فتعتبر شعيرة الحج متجذرة بعمق في التقاليد الإسلامية وتهدف إلى أن ترمز إلى وحدة وخضوع جميع المسلمين لله. ومن المفاهيم الأساسية التي يتم التأكيد عليها في الحج أهمية الإيمان المشترك بالله الواحد، والقرآن الكريم، والقبلة المشتركة بين المسلمين. ويتجلى هذا المفهوم في حقيقة الأمر أن جميع الحجاج، بغض النظر عن خلفياتهم ومكانتهم الاجتماعية، مطالبون بأداء نفس المناسك. ومن خلال التأكيد على أهمية الإيمان المشتركة فإن الحج هو تذكير بالوحدة والأخوة الموجودة بين المسلمين. إن فكرة الاعتقاد المشترك تشكل جوهر الإسلام لأنه مبني على الإيمان بالله الواحد وتعاليم النبي محمد. والمسلمين مطالبون أن يتبعوا أركان الإسلام الخمسة  والتي تشمل الشهادتين، والصلاة، والصيام، والصدقة، والحج. ومن خلال الالتزام بهذه الركائز، يُظهر المسلمون التزامهم بالمعتقدات والممارسات المشتركة التي تحدد إيمانهم.

خلال الحج، يأتي الحجاج من كافة أنحاء العالم. ورغم هذه الاختلافات فإنه يجمعهم هدفهم المشترك وهو طلب المغفرة والرحمة من الله. إن هذه الوحدة في طريقة تعامل الحجاج مع بعضهم البعض هي دليل على اللطف والرحمة والاحترام للمسلمين بغض النظر عن جنسياتهم أو عرقهم. و  أداء مناسك الحج معًا يخلق شعورًا بالتضامن بين المسلمين ويعزز الاعتقاد بأنهم جميعًا جزء من أمة واحدة أو مجتمع واحد. وتتعزز هذه الوحدة فيه التي تؤكد على أهمية الدعم المتبادل والتعاون على سبيل المثال، مساعدة الحجاج في أداء واجباتهم تعتبر عملاً فاضلاً؛ لأنه يعكس روح الأخوة والرحمة التي يجسدها الإسلام. ما يساهم في تعزيز الشعور بالوحدة بين المسلمين فخلال المشاركة في مناسك الحج، يتم تذكير الحجاج بقيم الإيمان والطاعة والتواضع - التي تشكل جوهر إيمانهم. إن التحديات الجسدية والتجارب الروحية التي يخوضها الحج تذكرنا بضرورة الصبر والمثابرة والانضباط الذاتي في مواجهة الشدائد.

أولًا: وحدة العقيدة :
في قلب الحج تتجلى أعظم صور التوحيد، إذ يُعلن الحجيج منذ لحظة الإحرام تلبيةً واحدة، تُعبّر عن خضوعهم لله، وتأكيدهم على وحدانيته: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك...". هذه التلبية الموحدة تُردّد على ألسنة الملايين، من مختلف البلدان واللغات، لكنها تنبع من إيمان واحد وعقيدة واحدة. الحج، بهذا المعنى، يُذكّر المسلم أن الاختلافات السطحية التي تفرّق الناس في حياتهم اليومية، لا وزن لها أمام وحدة التوجّه إلى الله. وقد أشار محمد إقبال إلى هذا المعنى حين قال: "في مكة تسقط الجنسيات، ويذوب الفرد في جماعة التوحيد، وهناك يتعلّم المسلم أنّه جزء من أمّة لا تموت." إنه شعور عميق بالذوبان في الكيان الأكبر، حيث يصبح المسلم فردًا في جماعة تتشارك الإيمان والرجاء.

ثانيًا: وحدة المظهر والمساواة بين الناس :
من أبرز رموز الحج لباس الإحرام. هذا اللباس البسيط، الذي يلبسه جميع الحجاج دون تمييز، يُسقط كل الاعتبارات الطبقية والمظاهر الدنيوية. الجميع في ثوبين أبيضين، يقفون على قدم المساواة أمام الله. هذا التماثل الظاهري ليس عبثيًا، بل هو تدريب رمزيّ على فكرة جوهرية في الإسلام: أن الناس سواسية، وأن التفاضل يكون فقط بالتقوى والعمل الصالح.

وقد لخّص المفكر علي شريعتي هذا المعنى بقوله: "في الحج يخلع الإنسان فرديته، ويعود إلى أصل وجوده، حيث لا تمييز، ولا طبقية، ولا قومية، بل الإنسان فقط، في حضرة الخالق." فالحج إذًا تجربة نزع للهويات المزيفة، وإعادة بناء الإنسان كما أراده الله: خاضعًا، متواضعًا، متجردًا من الزيف.  التجرد من الملابس (الإحرام ): رفض لهيمنة القوى المستكبرة، يخلع الحاج ملابسه الدنيوية ويلبس الإحرام، كأنه يتحرر من كل الأوصاف المصطنعة (الحدود، الجنسيات، الطبقية) التي فرضها المستكبرون لتقسيم الأمة. هذه اللحمة الموحدة تذكّر بأن القوة الحقيقية هي في الاتحاد تحت راية "لا إله إلا الله"، لا تحت رايات الاستعمار أو التطبيع.

ثالثًا: وحدة الزمان والمكان :
الحج هو شعيرة موقّتة في أيام معلومة، في أماكن مقدّسة محدّدة: مكة، منى، عرفات، مزدلفة... وهذا التجمع الهائل في وقت ومكان واحد يُنتج مشهدًا فريدًا في العالم. ملايين الأجساد تسير في نسق واحد، تؤدي نفس المناسك، بخطوات متطابقة، وأدعية مشتركة. هذا التوحّد في الزمان والمكان يُعمّق الشعور بأن المسلمين، وإن تفرّقوا في الأرض، فإنهم قادرون على الالتقاء حول ما يوحّدهم متى شاءوا.

وهنا نستحضر ما قاله مالك بن نبي عن الحج: "الحج هو مؤتمر عالمي للأمة الإسلامية، لكنه ليس مجرد تجمع سكاني، بل هو لقاء روحي يعيد للأمة وعيها بأنها واحدة رغم الحدود المصطنعة." هذا اللقاء السنوي لا يُوحّد فقط الحركة، بل يُعيد تشكيل التصوّر الجماعي عن الذات الإسلامية.
 
رابعًا: التواصل الاجتماعي وتبادل المعارف :
 الحج ليس فقط عبادة بدنية وروحية، بل هو أيضًا مناسبة اجتماعية وإنسانية بالغة الأهمية. ففي موسم الحج، تلتقي الشعوب الإسلامية من كل القارات. يتحدّث الناس، يتبادلون الأخبار والتجارب، يتعرّفون على أوضاع بعضهم البعض. هذا اللقاء الكبير يُسهم في بناء جسور التواصل، وتعزيز مشاعر التضامن والتعاطف.

وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في تأملاته حول الاجتماع البشري، رغم أنه لم يكتب كثيرًا عن الحج تحديدًا، لكن من خلال نظريته عن "العصبية" يمكن القول إن الحج يُسهم في تذويب العصبيات الجزئية، ليُعيد تشكيل عصبية عليا، تقوم على الإيمان، لا النسب أو الانتماء الجغرافي.

خامسًا: إحياء الشعور بالأمة الواحدة :
من خلال كل ما سبق، يُعيد الحج إلى المسلم الشعور بالانتماء إلى كيان أكبر: الأمة الإسلامية. في عالم يميل نحو الفردانية والتشتت، يأتي الحج ليُذكّر المسلم أنه ليس مجرّد فرد منعزل، بل هو عضو في جسد كبير، عليه واجب تجاه أمته، كما له حق فيها. وقد لخّص هذا المعنى الشيخ محمد الغزالي بقوله: "الحج ليس مجرد طقوس تُؤدى، بل هو إعادة تشكيل للمسلم، فكريًا وسلوكيًا، ليخرج من أنانيته، ويشعر أنه جزء من أمة مسؤولة ."فهذا الشعور بالانتماء لا يولد من فراغ، بل من تكرار هذه التجربة الجماعية، التي تزرع في النفس التواضع، والمسؤولية، والانفتاح.

سادسا : العدو المشترك و أهم القضايا وموقفنا كمسلمين من قوى الاستكبار :
عندما يرمي الحاج الجمرات (رمي الشيطان)، فهو لا يرفض الشر الرمزي فحسب، بل يرفض كل أشكال الاستكبار العالمي الذي يتجسد اليوم في :
الاحتلال الصهيوني لأراضي المسلمين، وإن لم يكن عسكريا فهو ظلم واستكبار اقتصادي وسياسي وحتى ثقافي. الحصار الجائر على غزة والعراق واليمن. والصبر على صعوبات مناسك الحج يذكرنا بالصبر والوحدة في غزة و صبر أهلها على الجوع و العطش و الفقد و اليتم و الدمار و الموت.

ان كل حجر يُرمى في مناسك رمي الجمرات  هو إعلان، بأن الأمة لن تسكت عن الظلم، وستحطم رؤوس الطغاة كما حطم إبراهيم عليه السلام أصنام قومه، وإن الطواف حول الكعبة هو مقاومة للتبعية الثقافية والسياسية الكعبة هي مركز الكون الإسلامي، والحجاج يطوفون حولها عكس اتجاه عقارب الساعة، كرمز لرفض الدوران في فلك الغرب (الذي تدور فيه كل أنظمته السياسية والاقتصادية باتجاه معاكس).

في المشاعر المقدسة، لا توجد سفارات أمريكية، ولا قواعد عسكرية غربية، بل سيادة الإسلام الخاصة.

النداء الواحد (لبيك اللهم لبيك): تحرير العقل والقلب من الهيمنة المستكبرون يريدون للمسلمين أن ينادوا: "لبيك أمريكا، لبيك الغرب!" لكن الحج يُعيد برمجة الأمة على الولاء لله وحده. هذا النداء يحرر.

من جانب آخر وحدة الصف في عرفة : إعلان بأن المستضعفين سينتصرون وقوف الملايين في صعيد عرفة يشبه جيش التحرير الإسلامي الذي ينتظر إشارة النصر.  هنا يتذكر الحجاج أن أمريكا وإسرائيل وحلفاءهما لن يدوموا، كما لم تدم قوى الاستكبار عبر التاريخ (فرعون، هامان، قوم عاد). الدعاء في عرفة هو سلاح المستضعفين.
 خاتمة

الحج، بهذا المعنى العميق، هو أكثر من رحلة روحية. هو تجلٍّ سنويّ لوحدة الأمة الإسلامية، ودعوة مفتوحة إلى ترسيخ تلك الوحدة في الحياة اليومية، بعد العودة من المشاعر المقدّسة. إنه تجربة تربوية، تُقوّي الإيمان الفردي، وتُغذّي الوعي الجماعي، وتفتح بابًا للتجديد الروحي والاجتماعي في حياة المسلمين. في زمن التفكك، يبقى الحج نداءً صامتًا لكنه قوي، يُذكّرنا بأننا، رغم كل شيء، أمة لا تزال تملك قلبًا نابضًا، وروحًا قادرة على الحياة. الحج ثورة روحية وسياسية إنه يذكّر الأمة بأن الشيطان الأكبر (أمريكا وحلفاؤها) وأذنابه (الصهاينة وأنظمة التطبيع) لن يقهروا المسلمين ما داموا متمسكين بوحدتهم كجسد واحد. فكما أن الجسد يُحارب العدو بمناعته، فالأمة تُحارب الاستكبار بإيمانها، ووحدتها، ومقاومتها. اللهم أرِنا في أمريكا وإسرائيل وحلفائهما يومًا كيوم عاد وثمود. [ولا تحسبن الله غافلًا عمّا يعمل الظالمون إنما يؤخرهم...ليوم تشخص فيه الأبصار]- (إبراهيم: 42)
 
والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته


انتهى / 1969
https://taghribnews.com/vdcjyiemauqeaiz.3ffu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز