تاريخ النشر2022 3 October ساعة 18:00
رقم : 567556
جمال واكيم *

مشروع الديانات الإبراهيمية.. لإنتاج إسلام صهيوني للتطبيع مع "إسرائيل"؟!

تنا
اليونانيون تبنوا عقيدة الطبيعتين المنفصلتين للسيد المسيح والمتساويتين في الجوهر، في مقابل تبني السريان والمصريين عقيدة الطبيعة الواحدة للسيد المسيح وهي الطبيعة الإلهية، وتحت مظلة هذا الخلاف العقائدي جرى التعبير عن الصراع القومي والثقافي بينهما.
مشروع الديانات الإبراهيمية.. لإنتاج إسلام صهيوني للتطبيع مع "إسرائيل"؟!
اليونانيون تبنوا عقيدة الطبيعتين المنفصلتين للسيد المسيح والمتساويتين في الجوهر، في مقابل تبني السريان والمصريين عقيدة الطبيعة الواحدة للسيد المسيح وهي الطبيعة الإلهية، وتحت مظلة هذا الخلاف العقائدي جرى التعبير عن الصراع القومي والثقافي بينهما.

مشروع الديانات الإبراهيمية .. لإنتاج إسلام صهيوني للتطبيع مع إسرائيل؟!

هل سمعتم من قبل بالمسيحيين من أتباع المشيئة الواحدة؟ القصة تعود إلى القرن الخامس الميلادي حين نشأ جدل في طبيعة النبي السيد عيسى المسيح، وهل هي إلهية أم إنسانية، ولقد حسم الجدل في مجمع خلقيدونية عام 453 بالاتفاق على أن للسيد المسيح طبيعتين: إلهية وإنسانية.
لكنّ جدلاً آخر نشأ في العلاقة بين الطبيعتين ولمن تكون الغلبة بينهما. وبينما أصر البعض على أن الطبيعتين منفصلتان ومتساويتان في الجوهر، أصر آخرون على أن الطبيعة الإنسانية محدودة، أما الطبيعة الإلهية فغير محدودة، وبالتالي فهي التي ستغلب على الطبيعة الإنسانية للسيد المسيح وتدمجها فيها، بما يؤدي إلى أن يكون للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهية.

دروس التاريخ 

كان يمكن أن يبقى هذا الجدل محصوراً بين جدران وأروقة الأديرة بين رجال الدين أنفسهم لولا أنه اتخذ بعداً آخر للتعبير عن الصراع بين اليونانيين من جهة، والسريان والمصريين والعرب من جهة أخرى.
 كان اليونانيون هم من يسيطر على الدولة الرومانية الشرقية أو البيزنطية، وكان السريان والمصريون بالدرجة الأولى والعرب، بصفتهم أبناء عم السريان والأقباط يعتبرون أنفسهم عرضة للتمييز من قبل اليونانيين منذ غزو الإسكندر المقدوني للشرق وإقامته إمبراطورية غلبت عليها الثقافة اليونانية الهيلينية.

وخلفتها في القرن الأول قبل الميلاد إمبراطورية رومانية تبنت الإرث اليوناني ومارست التمييز ضد السريان والأقباط الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أعرق حضاريًا من اليونان بحكم موروثهم الحضاري الطويل منذ آلاف السنين قبل الميلاد المنبثق عن حضارات تعاقبت على حكم الشرق الأدنى انطلاقاً من العراق والشام ومصر.

وقد جرى التعبير عن هذا الصراع بأن تبنى اليونانيون عقيدة الطبيعتين المنفصلتين للسيد المسيح والمتساويتين في الجوهر، في مقابل تبني السريان والمصريين عقيدة الطبيعة الواحدة للسيد المسيح وهي الطبيعة الإلهية. وتحت مظلة هذا الخلاف العقائدي جرى التعبير عن الصراع القومي والثقافي بين اليونان من جهة والسريان والمصريين وقسم من العرب من جهة أخرى. 
هذا الصراع سيؤدي دوراً في إيجاد أسباب الفرقة بين رعايا الدولة البيزنطية في الشام ومصر والأناضول، في وقت كانت فيه الدولة البيزنطية قد بدأت تواجه تحدياً مستجداً باعتماد الدولة الساسانية في إيران والعراق سياسة عدائية نشطة ضدها منذ النصف الثاني من القرن السادس الميلادي.
ففي ذلك الوقت كان الفرس قد بدأوا يرنون بأنظارهم إلى شرقي المتوسط ومد تجارتهم إليه من دون الحاجة إلى كسب رضى البيزنطيين على ذلك. ولقد استغل الفرس الصراع الدائر في الدولة البيزنطية ودعموا أتباع المشيئة الواحدة واستفادوا من تقرّبهم منهم لتحقيق انتصارات على الدولة البيزنطية مكّنتهم من السيطرة على أجزاء من الأناضول وبلاد الشام ومصر في مطلع القرن السابع الميلادي.

كان على الإمبراطور البيزنطي هرقل الذي تبوأ العرش سنة 610 أن يبذل جهداً كبيراً لإعادة تجهيز الجيوش لاستعادة المقاطعات التي انتزعت من بيزنطة والتي ستتوج بعد عقدين بانتصار كبير على الفرس عام 629 تمكّن بموجبه من احتلال عاصمتهم المدائن وإجبارهم على توقيع معاهدة ينسحبون بموجبها من مصر والشام ويعودون فيها إلى الحدود التي كانت تفصل بين الإمبراطوريتين في الشرق على طول نهر الفرات.
كان هرقل يعي أن الانقسام الذي ضرب الإمبراطورية البيزنطية بين السريان والمصريين أتباع الطبيعة الواحدة واليونانيين أتباع الطبيعتين كان قد أدى دوراً في إضعاف قبضة الدولة البيزنطية في الشرق وساهم في خسارة الدولة البيزنطية هذه الأقطار ما جعلها تعاني الأمرين حتى نجحت في استعادتهما في آخر الأمر.
ظن هرقل أنه في حال نجح في التوفيق بين المذهبين فإنه سيكون بإمكانه أن يجد أرضية مشتركة تنهي أسباب الانقسام وتساعد في تثبيت الحكم البيزنطي في الشرق.
هذا جعله يتبنى اجتهاداً تقدّم به بولس، بطريرك أرمينيا، التي كان يقول من خلالها "إن كان للمسيح طبيعتان: إلهية وإنسانية فإن له أيضاً إرادة واحدة، وهي الإرادة الإلهية. وقد عرفت الطائفة التي تبعت بولس بأتباع المشيئة الواحدة.
لكن مبادرة الإمبراطور ستفشل ولن تسهم إلا في دعم فرقة دينية جديدة ستدخل في اصطدام في الوقت نفسه مع اليونانيين أتباع الطبيعتين والسريان والمصريين أتباع الطبيعة الواحدة.
ويكمن السبب في أن الإمبراطور لم يعِ حقيقة أن الخلاف الديني هذا كان يعكس صراعاً قومياً بين فئة مهيمنة على الدولة هي اليونانيون وأخرى مهيمَنٍ عليها ترى نفسها أعرق حضارياً هي فئة السريان والمصريين.
وسيساهم هذا الصراع القومي بعد أعوام قليلة في دعم السريان والمصريين الفاتحين العرب المسلمين في فتح بلاد الشام ومصر، إذ وجدوا فيهم مخلصين لهم من الجور اليوناني. وستزول هيمنة بيزنطة وتزول معها الهيمنة اليونانية الرومانية في الشرق التي دامت تسعة قرون. 

التاريخ يعيد نفسه؟! 
ما أشبه الأمس بما يجري اليوم، إذ نشهد الولايات المتحدة الأميركية، التي تعتبر نفسها إعادة تجسيد للإمبراطورية الرومانية والحضارة اليونانية الرومانية، تحاول الإبقاء على هيمنتها على منطقة المشرق لاحتواء قوى أوراسية صاعدة من ضمنها إيران لمنعها من الوصول إلى شرق المتوسط.
 تحاول أميركا تدعيم حضورها العسكري المتمثّل في قواعد عسكرية أقامتها في العراق وسوريا ولبنان ومنطقة الخليجية، بإعادة تشكيل أيديولوجي للمنطقة يساهم في دمج "إسرائيل"، المعتمدة من قبلها كقاعدة للنفوذ الأميركي في المشرق، في المحيط ذات الغالبية العربية الإسلامية. هذا جعل الولايات المتحدة تسعى لفرض صفقة القرن في المنطقة بمنع قيام دولة فلسطينية، وبتطبيع العلاقات بين العرب و"إسرائيل".

وكما الإمبراطور هرقل قبل 1400 عام، فإنّ الأميركيين رأوا أنّ الصراع بين الغرب والعرب، وبين العرب و"إسرائيل" هو صراع ديني. هذا ما ورد في كتابات أميركيين متدينين يمينيين أمثال صامويل هانتنغتون الذي قال إن العالم منقسم بين حضارات قائمة على أساس ديني: منها الحضارة الغربية اليهودية المسيحية، والحضارة المسيحية الأورثوئوكسية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الآسيوية الصينية واليابانية، والحضارة الهندية، والحضارة الإفريقية، والحضارة الكاثوليكية اللاتينية.
ورأى هانتنغتون أن الصراعات ستنشأ في مناطق التماس بين هذه الحضارات، ومن ضمن مناطق التماس هذه منطقة المشرق العربي حيث يقوم صراع بين اليهودية الصهيونية، كجزء من الحضارة اليهودية المسيحية، والعرب الذين يشكلون جزءاً من الحضارة الإسلامية.
ووفقاً لهؤلاء المفكرين اليمينيين الغربيين، فإن اللوم يقع على الإسلام في التصادم الحاصل في الشرق مع "إسرائيل" اليهودية، كما أن اللوم يقع عليه في اصطدامه بالحضارة الغربية لعجزه عن تحديث نفسه، كما حصل مع الحضارة اليهودية المسيحية التي استطاعت تحديث نفسها، وكما يقول المؤرخ الصهيوني الأميركي برنارد لويس في كتابه "ما الخطأ الذي حدث" الذي يطرح من خلاله نفسه مقيِماً ومديناً للدين الإسلامي.
ولأن القصور، وفقاً لهؤلاء المفكرين اليمينيين الغربيين، هو في الإسلام، فإن هؤلاء المفكرين بدأوا يطرحون فكرة "إصلاح" الإسلام. ولأن الصراع وفقاً لهؤلاء صراع ذو بعد ديني، فإن "بناء السلام" يكون في التقريب بين الأديان أو ما يسمّى التطبيع الديني عبر تطويع الدين الذي فيه قصور، وهو الإسلام وفقاً لهؤلاء المفكرين اليمينيين، مع الدين الذي واكب الحداثة وهو الدين اليهودي أولاً والدين المسيحي الإنجيلي ثانياً.
 برزت فكرة التقارب بين الأديان منذ سبعينيات القرن الماضي بتوقيع "اتفاقية كامب دافيد" للسلام بين "إسرائيل" ومصر. وفي السنوات الماضية، مع طرح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مشروع صفقة القرن الذي يقوم على تطبيع العلاقات بين الدول العربية و"إسرائيل"، تجدد الحديث عن التقارب بين الأديان. 
ففي آب/أغسطس 2020 وقعت الإمارات العربية المتحدة و"إسرائيل" في واشنطن اتفاقية لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما تلتها اتفاقية أخرى بين البحرين و"إسرائيل" في أيلول/سبتمبر 2020 تضمنت احتفالاً شارك فيه ممثلون عن الإمارات العربية المتحدة والبحرين و"إسرائيل" والولايات المتحدة لإطلاق مشروع الديانات الإبراهيمية للتقريب بين الأديان.
وقد قام المشروع على الدعوة للعودة إلى النبي إبراهيم الخليل، أبي الأنبياء جميعاً، بصفته النبيّ الجامع للديانات السماوية الثلاث.
 وقد جرى النظر بسلفية دينية وبطريقة حرفية للنصوص الدينية مثلما حصل مع حركة الإصلاح البروتستانتية في القرن السادس عشر التي نظرت إلى الإنجيل في شقيه: العهد القديم والعهد الجديد، بطريقة حرفية من دون النظر إلى البعد الغيبي والقيمي فيما يمهد لإطلاق "ديانة صهيونية إسلامية" بذريعة الإصلاح الديني، كما حصل في القرن السادس عشر حين ساهمت حركة التمرد على الكنيسة الكاثوليكية في إطلاق تيار المسيحية الصهيونية.
 وعلى وقع هذا النهج أطلق "صندوق أبراهام" على أن تموّله الدول الأعضاء في الاتفاقية لتنفيذ مشروعات دينية وثقافية وسياحية تساهم في إنتاج ثقافة مشتركة بين أتباع الديانات اليهودية والإسلامية والمسيحية بشقّها الإنجيلي. وقد أعلن عدد من قادة الدول العربية استعدادهم للانضمام إلى هذه الاتفاقية، ومن ضمنهم السودان والمغرب وسلطنة عُمان والأردن.

الفشل حتمي!

نستنتج أنه كما حاول الإمبراطور هرقل خلق مذهب جديد يشكل أرضية مشتركة بين السريان اليعاقبة واليونان الأرثوذكس يكون من شأنها ضمان بقاء هيمنة بيزنطة في الشرق، فإن الولايات المتحدة تعتقد أنه يمكنها ضمان بقاء هيمنتها في الشرق، إذا هي دعمت تطبيعاً دينياً بين المسلمين واليهود والمسيحيين الإنجيليين يكون على أرضية مشتركة بين الديانات الثلاث.
 لقد غاب عن بال الأميركيين أن أزمة العرب والمسلمين مع الولايات المتحدة تكمن في هيمنة قوة غريبة عن المنطقة عليهم، وفي وقوف واشنطن حجر عثرة أمام آمال المسلمين والعرب القومية والتنموية، تماماً كما غاب عن بال الإمبراطور هرقل أن الخلاف الديني في القرن السابع ما كان إلا غطاء لخلاف ذي بعد قومي بين السريان والمصريين من جهة واليونانيين من جهة أخرى.
 وتالياً فإنه كما فشل مشروع هرقل في الأديان آنذاك، فإن مشروع الولايات المتحدة حتما سيفشل إذ إنه لا يعالج جذر المشكلة الكامنة في رغبة العرب والمسلمين في التحرر من السيطرة الخارجية الغربية عليهم. ونستنتج أنه لا يمكن لعامل أيديولوجي حتى لو كان ذا بعد ديني أن ينجح إذا لم تُعالج الأبعاد المادية للصراع.
وفي هذا الإطار يمكن أن نستحضر تجربة أيديولوجية أخرى من القرن العشرين هي تجربة القومية العربية. كان هذا التيار قد انطلق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كمحاولة من العرب الواقعين تحت الحكم العثماني لإيجاد دور لهم في عالم متغير.
في الحرب العالمية الأولى، وفي إطار الصراع على المنطقة العربية بين الدولة العثمانية وبريطانيا العظمى، قامت حكومة صاحبة الجلالة باحتضان تيار القومية العربية ظناً منها أنه سيخدمها في خطب ود العرب ضد الدولة العثمانية.
وكان أحد أبطال هذا التيار وهذه المرحلة نوري السعيد الذي سيصبح، غير مرة، رئيساً لمجلس الوزراء في العراق. لكن في الخمسينيات من القرن الماضي، ستظهر قيادة جديدة في مصر وتتمثل في جمال عبد الناصر الذي سيرفع لواء التحرر من الاستعمار القديم.
 كان عبد الناصر متأثراً بالقومية العربية، ولأنه سيصطدم ببريطانيا، فإنه سيقوم بإعادة صياغة هذا التيار بما يحرّره من الهيمنة البريطانية ويعيد صياغته كمشروع تحرر.
 هذا كان الفرق بين القومية الناصرية والقومية التقليدية التي سبقتها. وفي الحصيلة فإن تيار عبد الناصر هو الذي سينتصر في النهاية، وسنجد ممثل التيار القومي العربي التابع لبريطانيا مسحولاً في شوارع بغداد عام 1958. فهل يواجه عرابو "الاتفاقيات الإبراهيمية" أنفسهم مصير نوري السعيد؟ 


جمال واكيم*
أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية



/110
https://taghribnews.com/vdcdk50k9yt09k6.422y.html
المصدر : الميادين
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز