تاريخ النشر2022 17 January ساعة 18:00
رقم : 534781
د. مصطفى يوسف اللداوي

صحراء النقب المنسية فلسطينية الهوية وعربية الانتماء

تنا
يحافظ السكان العرب في صحراء النقب الفلسطينية على الأسماء العربية لمناطقهم، فلا يستبدلون أسماء مدنهم وقراهم بأسماء عبرية يهودية، وإن حاول العدو فرضها، ولا يقرون بالتقسيمات الإدارية والحدود البلدية التي تفرضها السلطات المدنية الإسرائيلية، ويصرون على تقسيماتهم القديمة.
الباحث والكاتب الفلسطيني د. مصطفى يوسف اللداوي
الباحث والكاتب الفلسطيني د. مصطفى يوسف اللداوي
ويحافظ السكان العرب في صحراء النقب الفلسطينية على الأسماء العربية لمناطقهم، فلا يستبدلون أسماء مدنهم وقراهم بأسماء عبرية يهودية، وإن حاول العدو فرضها، ولا يقرون بالتقسيمات الإدارية والحدود البلدية التي تفرضها السلطات المدنية الإسرائيلية.

ويصرون على تقسيماتهم القديمة، وحدودها المعروفة، وهي تلك التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم والتي كانت لهم لقرونٍ طويلة إبان الدولة العثمانية، التي منحت عشائرهم مساحاتٍ كبيرة من الصحراء، وكافأت زعماء القبائل وذوي الشهداء الذين قتلوا في حروب تركيا العديدة، حيث كانت الدولة العثمانية في حاجة إلى استرضاء زعمائهم وشراء ولائهم لها، أو إسكاتهم وعدم خروجهم عليها، وبقيت هذه الامتيازات في ظل الانتداب الإنجليزي لفلسطين، حيث حافظت العشائر على أهميتها وقوتها، وحظوظها وامتيازاتها، في الوقت الذي سادت فيه روح التنافس فيما بينها.

ويتجاوز عدد السكان العرب اليوم في صحراء النقب أكثر من 325 ألف نسمة، يشكلون أكثر من نصف عدد سكانها الكلي، ويمثلون ثلث سكان المنطقة الجنوبية حسب التقسيمات الإدارية والعسكرية الإسرائيلية، ويتوزعون على أكثر من عشرة مدنٍ أكبرها مدينة بئر السبع التي تعتبر عاصمة النقب الإدارية، ومركز الولاية العثمانية القديمة، وراهط التي تمثل عمق السكان العرب وهويتهم البدوية التي تميزهم عن غيرهم، وتضفي عليهم طابعاً خاصاً مخالفاً لغيرهم لجهة اللهجة ولون البشرة واللباس.

ويعتز البدو الفلسطينيون بأرضهم، ويتمسكون باقطاعاتهم القديمة والموروثة، ولا يفرطون بشبرٍ منها أياً كانت المخاطر والتحديات، فالأرض بالنسبة لهم هي الهوية والشرف، وهي العائلة والنسب، وهي محل الفخر ومحط التيه، وهي مناط التنافس وعامل التمايز، فضلاً عن أنها الكلأ والماء والمرعى. 

ومن المعيب على الرجل أن يفقد أرضه أو أن يتخلى عنها وداً أو غصباً، رضاً أو كرهاً، فهي بالنسبة له الثوب الذي يستره، واللباس الذي يزينه، وبدونها يصبح عرياناً مفضوحاً بين الناس، يزدرونه ويحتقرونه، ويعيبون عليه ويشتمونه، ويبتعدون عنه ولا يقربونه، ولهذا نراهم يضحون بحياتهم دفاعاً عن أرضهم وحرصاً عليها، ويسرعون إلى حمل السلاح إذا شعروا بالخطر عليها، ويمكن لزعماء القبائل والعشائر الدعوة للنفير العام والتعبئة الشعبية، لتجنيد كل رجالهم ونسائهم للدفاع عن الأرض والذود عنها.

وكانت العصابات اليهودية التي عاثت في فلسطين فساداً إبَّان الانتداب البريطاني لها، تعرف هذه الحقيقة عن السكان، وتدرك حجم تمسك البدوي الفلسطيني بأرضه، ولهذا كانت حملتها على بدو النقب شديدةً وقاسية، استخدمت فيها ضدهم أقسى ما تستطيع من قوة لإجبارهم على المغادرة والرحيل، والتخلي عن أرضهم وديارهم، والتسليم بالواقع الجديد في صحرائهم، ورغم ذلك فإن عدد الذين بقوا منهم في النقب أكثر من الذين أجبروا على مغادرتها، حيث فتحت العصابات الصهيونية بعد القوة المفرطة التي استخدمتها ضدهم، الطريق لهم إلى قطاع غزة وصحراء سيناء، وإلى الأردن ومخيمات الضفة الغربية، وسهلت الخروج والمغادرة لمن شاء بأثاثه، ولمن رغب بحياته وعياله.

وإلا أن اللاجئين إلى مختلف المناطق من سكان النقب، حافظوا على انتمائهم البدوي وهويتهم الفلسطينية، وارتباطهم العشائري ومفاهيمهم القبلية، ولم يستطع العدو بتهجيره لهم أن يقطع أوصالهم، أو أن يفسد علاقاتهم، وأن ينكث عرى التواصل فيما بينهم، بل سعى العديد منهم إلى العودة إلى ديارهم، خاصةً أولئك الذين لجأوا إلى صحراء سيناء، خاصةً أنهم يعرفون مداخل الصحراء والدروب الخفية، في الوقت الذي يعيا العدو في التمييز بينهم، ويحار في التفريق بين أشخاصهم. 

وما زالت كلمة زعيم القبيلة أو شيخ العشيرة تسري على جميع أفرادها، ويقع عليهم حكمه، ويلتزم الجميع برأيه، وينزلون عند قراره ولو كان مخالفاً لبعضهم، ولا يوجد بين سكان النقب العرب أحدٌ يتعالى على القيم والعادات والتقاليد الموروثة، أو يثور عليها ويرفضها، فالجميع لها يخضع، وبها يقبل ويسلم، ولها يستسلم ويذعن، ومن يخرج عن طوع العشيرة يطرد ويحرم، أو يهدر دمه ويلاحق.

ويعتز بدو النقب بالنسل من أصلابهم، وامتداد الأثر لعائلاتهم، وكثرة الولد في عشائرهم، الذين يشكلون بمجموعهم جيش القبيلة وذراعها الطويلة النافذة، التي تحمي القبيلة وتحافظ على الأرض والعرض، ولهذا تشتهر نساؤهم بكثرة الإنجاب، فلا يكون للأسرة شأنٌ ومقامٌ كريمٌ إن لم تنجب أكثر من عشرةٍ من الولد، ولا يكون الرجل راضياً عن نفسه ما لم يكن حوله عشرات الأولاد والأحفاد، ولهذا يكثر في مجتمع النقب البدوي تعدد الزوجات والزواج المبكر، وهذا الأمر يشمل عرب النقب أينما كانوا، فليست هذه الخصلة خاصةً بمن بقي منهم في الصحراء، وإنما هي خصالٌ يتحلون بها جميعاً حيثما كانوا، وبها يتباهون ويتفاخرون.

ويحيط العمران ومظاهر الحداثة بالبدو في كل مكانٍ، العمارات الشاهقة، والمساكن الجميلة، والملابس الأنيقة، وآخر صرعات الموضة والزينة، والسيارات الفارهة، ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، ويدخل إلى بيوتهم مختلف المحطات التلفزيونية المحلية والفضائية، ويقرأون الصحف العربية والعبرية والدولية، ويتابعون الأخبار الخاصة والعامة، ويسافر أبناؤهم إلى كل الدنيا، ويتلقون تعليمهم في مختلف المدارس، ويواصلون دراستهم الجامعية في مختلف العلوم، ويحملون أعلى الدرجات العلمية، ويتقنون اللغة العبرية إتقاناً تاماً، ويحسنون الحديث بها كأهلها، ولكنهم في الوقت الذي لا يتخلون فيه عن لغتهم العربية الأصيلة، ولا يستبدلونها بأي لغةٍ أخرى، فإنهم يحرصون على موروثاتهم البدوية، ومعالمهم القديمة التي يتميزون بها عن غيرهم.

اليوم يواجه أهلنا البدو في صحراء النقب أقسى حملة لتهجيرهم، وأبشع سياسة لإخراجهم من أرضهم، وتغريبهم عن وطنهم، وعزلهم عن شعبهم، فلا نتركهم وحدهم يواجهون، ولا نتخلى عنهم ونخذلهم، وهم بنا يستنجدون وإلينا يتطلعون، فهم منا ونحن منهم، بقية الشعب وأصحاب الأرض وملح الوطن.

بقلم الباحث والكاتب الفلسطيني د. مصطفى يوسف اللداوي

/110
https://taghribnews.com/vdch6knmz23nxqd.4tt2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز