QR codeQR code

شرعية الثورة وشروطها من منطلق الثورة الحسينية

للمرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله

8 Dec 2010 ساعة 15:17

إن الله فرض الجهاد من أجل إقامة العدل وتحقيق الحرية للناس الذين لا يريد الله لهم أن يكونوا عبيداً إلا له.


وكالة انباء التقريب (تنا) :
قد يتساءل البعض عن سبب الإصرار على استعادة ذكرى الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وصحبه الأبرار في كل عام حقاً وكي تكون الإجابة وافية، لا بد أن ندرس المسألة على ضوء صفتنا الاسلامية.
أولاً: فنحن مسلمون تواجهنا في الحياة وفي كل جيل من أجيالنا مشاكل وتحديات في مجال الحرية والكرامة، فقد نبتلى بالذين يريدون فرض العبودية علينا، وبمن يريدون فرض الذل علينا في حياتنا العامة والخاصة، وقد تواجهنا في الحياة قضية العدالة في مسألة الحكم والحاكم الذي يفرض علينا الظلم، في ما يُشَرّع من قوانين، أو ما يتحرك به من مشاريع، أو ينشئه من علاقات ويقيمه من معاهدات وتحالفات مع من يريدون فرض الفقر والتخلف على أمتنا. 

إن كل أجيال المسلمين قد عاشت مثل هذه المشاكل دون شك، ولكن الظروف كانت تختلف بين جيل وآخر. فقد تجد بعض الأجيال نفسها في حالة اختناق بحيث لا تستطيع أن تتنفس بالثورة، وقد تجد بعض الأجيال نفسها في حالة حصار لا تستطيع فيه أن تتحرك بحريتها، وقد تجد بعض الأجيال نفسها في سعة من الحال على أساس السعة في ظروفها.
وهنا نريد أن نواجه المسألة نحن كمسلمين، فما هو تكليفنا الشرعي أمام مثل هذه القضايا؟ هل يجوز لنا أن نثور من أجل القضايا التي تتصل بعزتنا؟
هل يجوز لنا أن نثور في القضايا التي تتمثل بمسألة العدالة فينا؟ أو أنه لا يجوز لنا ذلك. 

ربما يفكر بعض ا لناس بأن على المسلمين أن لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، لأنهم عندما يثورون في وجه الظالم القوي أو المستكبر الطاغي الجائر، فإنهم يعرضون أنفسهم للتهلكة، والله يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة/ ١٩٥.
وربما يفكر آخرون بأن الله لا يريد للمسلم أن يكون عبداً لغيره، ولا يريد له أن يكون ذليلاً لأي شخص، ولا يريد له أيضاً أن يقبل بالظلم، وأن عليه أن يواجه هذه الأمور بطريقة التحدي والمواجهة، حتى لو أدى ذلك إلى أن يسقط جريحاً أو صريعاً في المعركة. 

كيف نستطيع أن نختار بين هذين الرأيين؟
وكيف نستطيع أن نجد الأساس الشرعي لأي من الخيارين؟
هناك طريقتان تتكاملان في هذا المجال:
الطريقة الأولى: هي أن نبحث في الكتاب والسنة، باعتبارهما المصدرين اللذين نأخذ منهما كل أحكامنا الشرعية لنجد أن الكتاب الذي قال: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، قال: (وجاهدوا في الله حق جهاده) الحج/ ٧٨.
فنفهم من ذلك أن الجهاد لا يمثل حالة إلقاء النفس في التهلكة التي تمثلها الحالات الانتحارية أو الحالات الذاتية التي يخشى فيها الانسان الخطر علي نفسه، دون أن تكون هناك قضية كبيرة تقف وراء حركته. 

أما مسألة الجهاد، فإن الله اعتبره خطاً من أجل إقامة العدل، ومن أجل تحقيق الحرية للناس الذين لا يريد الله لهم أن يكونوا عبيداً إلا له.
ومن تأكيد العزة والكرامة التي يريدها الله للمؤمنين، نجد أن القرآن الكريم يقول: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) المنافقون/ ٨.
ويفسرها الإمام جعفر الصادق (ع) فيقول: ((إن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يذل نفسه)).
معنى ذلك أن الانسان ليس حراً في أن يذل نفسه، والله سبحانه وتعالى يريد للانسان أن يكون حراً بمعنى أن لا يرضخ لعبودية المستكبرين، ولهذا قال الله للمستضعفين الذين فضلوا العبودية على مواجهة المستكبرين:
(الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) النساء/ ٩٧.
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً) النساء/ ٧٥.
(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً) النساء/ ١٠٠. 

إن المسألة أن الملائكة تقول للمستضعفين الذين فضلوا أن يقعوا تحت تأثير الضعف فيستسلموا للمستكبرين: إن الله يقول لكم: إنكم في جهنم، لأنكم إن لم تستطيعوا مواجهة الكفر في هذا المكان، عليكم أن تخرجوا إلى مكان آخر تستجمعون فيه القوة ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) النساء/ ٩٨.
فأولئك أمرهم موقوف عسى الله أن يعفو عنهم.
فالله لا يريد لنا البقاء في حالة الاستعباد إذا كنا نقدر على مواجهة الظلم والكفر. وهكذا نستطيع أن نأخذ من كل آيات الجهاد، ومن كل آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن كل آيات رفض الظالمين وعدم الركون إليهم شرعية التحرك في مواجهة الظالم، والتصدي لكل قوى الاستكبار والاستعباد والذل في العالم.
ثم قد نحتاج إلى القدوة. وقدوتنا في الحياة هي رسول الله (ص) في مواجهة المشركين، حيث نأخذ منها ومن آيات الله التي تحركت متحدثة عن كل حروب رسول الله (ص) وانطلقت لتشرع القتال للمسلمين: (إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) الحج/ ٣٩. 

في الاسلام عندما يكون الحكم جائراً وظالماً، فللمسلمين أن يثوروا على الحاكم الجائر. وإذا لم ينسحب الحاكم من الحكم ولم يستسلم للشرعية الاسلامية فمن حق المسلمين أن يزيلوه بالقوة حتى لو قتلوه.
عندما تكون المسألة مسألة الحكم الاسلامي والعدالة في المسلمين، وحريتهم وعزتهم ومستقبلهم.. فلا حرية لأحد في مقابل ذلك.
وقد يُثار موضوع ما إذا كان الحاكم مسلماً ينطق بالشهادتين، ولكنه ظالم ويعطي البلاد الاسلامية للمستكبرين، وللكافرين وللطغاة، ويمكن الكافرين من رقاب المسلمين، ويشرع للمسلمين غير شريعة الله.. فهل يجوز مواجهته؟ 

ربما يقول البعض أنه: لا يجوز لنا أن نقاتل المسلمين. هذا حاكم مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والقرآن يأمرنا بإطاعة أولي الأمر في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء/ ٥٩.
وهناك مَن يقول: لا يجوز القتال فيما بين المسلمين، حتى لو كانت المسألة مسألة إقامة العدل وهدم الظلم، ويستشهدون بقول الرسول محمد (ص): إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار. فقيل: يا رسول الله! هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول؟ قال: لأنه أراد قتلاً. 

ومن وجهة إسلامية، فإن من حق المسلمين، في أي بلد إسلامي يتحرك فيه الحاكم ليفرض سياسة الكفر والطغيان على المسلمين، أن يقاتلوه.
ولكن من أين نعرف شرعية هذه الثورة داخل الحياة الاسلامية.
إن قتال المسلمين لبعضهم البعض لا يجوز في القضايا الخاصة، أو الأوضاع المبنية على العصبية، أو على الحزبية القائمة على العصبية، أو على الحالات العشائرية أو على الخلافات الخاصة...
أما عندما تتعلق المسألة بوجود فئة تلتزم خط الكفر وتدافع عنه وتعمل للضغط على المسلمين في حريتهم، فإن لولي الأمر أن يتدخل ليلاحظ مصلحة المسلمين في ذلك، كما تدخل الإمام علي (ع) وحارب الباغين أيام خلافته بعدما حارب المشركين مع رسول الله (ص)، وذلك من أجل أن يجعل كلمة العدل في داخل الحياة الاسلامية، ويجعل قضايا المسلمين مرتكزة على الخط الأصيل.
إن هناك خطاً يُراد منه حفظ الحياة الاسلامية. كما نحتاج إلى سيرة الإمام علي (ع) الذي خاض المعركة داخل الحياة الاسلامية، فإننا نحتاج أيضاً لسيرته (ع) وهو يسوغ استمراره في الخلافة إذ يقول: ((لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يُقارّوا على كظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها. ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم ذنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز)). 

يمكن للإمام (ع) أن يتحرك معهم في مواجهة الواقع الفاسد، ولولا أن الله فرض على كل العلماء التحرك، من موقع علمهم بالله، أن لا يقاروا على حالة مظلوم يجوع ويسلب وينهب ويذل... وعلى حالة ظالم يتحرك لأجل أن يفرض ذلك على المظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز. 

لقد ثار الإمام الحسين وأعلن أن الأساس في ثورته هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمعنى قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران/ ١٠٤.
أن من الأمر بالمعروف أمر الظالم بالمعروف، وأن من النهي عن المنكر نهي الظالم عن المنكر، وأن من الأمر بالمعروف مواجهة الظالم، مواجهة التحدي، وإجباره على ذلك بالثورة في وجهه، لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالكلمة، وقد يكون بالموقف، وقد يكون بممارسة القوة. 

كما إن الإمام الحسين (ع) أكد موقع العزة عندما قال: ((ألا وأن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة وهيهات له ذلك، هيهات مني الذلة: أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طهرت وحجور طابت أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)).
لقد تحرك الإمام الحسين ع) في المعركة تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي معركة خاسرة من الناحية العسكرية، لكنه يرى أنه لا بد أن يصدم الواقع حتى يستطيع أن يهز قواعده لتتحرك الثورات من بعده، لأن الواقع وصل إلى مرحلة استرخى فيها تحت تأثير حكم يزيد، ولذلك انطلق الناس وهم يحبون الحسين ليحاربوه. 

لقد كان الوضع الاسلامي مهيأ لأن يستمر الظلم، بحيث يحرك الناس كلهم في مواجهة كل دعوة للحق، وبذلك يستطيع التخطيط الكافر في داخل الحياة الاسلامية أن يقدم الكفر للناس باسم الاسلام، ولذلك كان الحسين يشعر بالحاجة إلى صدم الواقع، ولذلك استعد للمأساة حتى أنه جلب نساءه وأطفاله معه من أجل أن تمتد الثورة، وتتسع دائرة صداها لتصل إلى كل الناس.
ومن الضروري في كل تحرك وفي كل ثورة أن نتعرف ما هي شرعية حركتنا الاسلامية هنا وهناك، حتى نواجه الله من موقع شرعي في كل ما عملناه. 

لهذا: فحاجتنا في كل سنة أن نستعيد ثورة الحسين (ع)، باعتبار أنها ثورة لتحريك الواقع الاسلامي الفاسد ضد الحاكم الجائر، ولدرء التخطيط الكافر لعملاء الكفر في داخل الحياة الاسلامية، حتى نقول لكل الأجيال الاسلامية القادمة: هذا هو الإمام الحسين (ع، وهو سيد شباب أهل الجنة، وهو إمام من أئمة المسلمين، لا يتحرك إلا من خلال الخط الذي رسمه الله. 

إذاً نستطيع أن نأخذ من ثورة الحسين (ع) في كل سنة نستعيدها، شرعية الثورة في وجه الحاكم الظالم. وإذا أجيزَ لنا أن نثور في وجه الحاكم الظالم وهو مسلم، فيجوز لنا بطريق أولى أن نثور في وجه الحاكم الظالم وهو اكفر. لأنه إذا جاز لك أن تثور بوجه المسلم فكيف بالكافر.
نعم، عندما نريد أن ندرس ثورة الإمام الحسين (ع) علينا أن نعرف الظروف التي كان يعيش فيها الحسين (ع) من حيث الإمكانات وطبيعة الجو والوضع القائم، وندرس ظروفنا ونقارن، فلربما تكون مرحلتنا مرحلة الإمام الحسين (ع)، ولربما تكون مرحلة أخرى. لكن القضية لا بد أن تُدرس دراسة دقيقة، فمن حيث المبدأ: الاسلام لا يريد للانسان المسلم أن يسترخي أمام الظلم وأن يخضع له، ما دام يستطيع أن يتحرك في وجهه. 

إن الأحكام الشرعية لا تتجمد، فكما قال الله سبحانه وتعالى: صلوا، صوموا... فإنه قال: جاهدوا. غاية الأمر أن للجهاد شروطاً، في طبيعته وفي حركته وأوضاعه وفي كل مواقعه، تماماً كما للصلاة وللصوم شروطها.
إننا نبحث عن ثائر تمنحنا حركته شرعية لحركتنا، وهذا ما لا نجده إلا بالحسين (ع)، وفي أمثال الحسين (ع)، فلنتحرك في هذا الخط، وعلى هذا الطريق، حتى نركز المسألة على أساس ثابت متين في كل المجالات العملية.



رقم: 33452

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/33452/شرعية-الثورة-وشروطها-منطلق-الحسينية

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com