تاريخ النشر2017 10 October ساعة 09:58
رقم : 287630

تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا (1)

تنا
يَعرف العالم الإسلامي اليوم العديد من القضايا الجديدة التي تحتاج إلى بلورة خطاب ديني جديد، يعي مقتضياتها وانعكاساتها ودورها في الواقع الإسلامي، لأن لكل عصر ميزاته في إشكالياته وحلوله أيضا، ومتلقيه الذين يتسمون بطابع التغير تبعا لتغيرات العصر، ولا يصح علميا وعمليا استدعاء الحلول الماضية الجاهزة لمعالجة المستجدات الحاضرة دون إعمال فكر وتوجيه إصلاح، إذ أحيطت الإشكاليات المعاصرة بهالة من التنوع والتعقيد، التي لا يصلح معها استعارة جاهزيات الآخرين مع وجود إمكانيات الانتفاع من تلك الحلول على سبيل الاستئناس والمعرفة بالشيء.
تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا (1)
لبنى الرامي - مولاي مروان العلوي - فؤاد عاقل
  ويعد الخطاب الديني خطابا متميزا عن الخطاب العادي، يحضر بقوة في كل العصور وفي كل الميادين، لما له من قوة تأثيرية و إقناعية تجعل العقول تذعن والقلوب تسلم، وما يميزه عن باقي أنواع الخطابات موضوعه الذي هو الدين و مرسله الذي يمتلك سلطة وثقافة دينية.  وينطلق الخطاب الديني الإسلامي من أسس محددة تحديدا صارما، وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وهي المصادر الأربعة التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية، وينتج عنها كل فكر إسلامي، وهذه الأسس ترتبط بعضها ببعض، إلى حد عدم الانفصال.

   هنا يطرح إشكال أساس يفرض نفسه بشدة، خصوصا وأن العصر الحديث الذي نعيش فيه يعرف تغيرات شتى ومستجدات عدة، إنه إشكال التجديد، هل هو تجديد في أصول الدين أم تجديد في الخطاب الديني الذي يمتح من النص، وهو ما يدفع بشدة إلى تناول موضوع الاجتهاد في هذا العصر.

   ومن خلال الاطلاع على المصادر التي تناولت الدين وقضاياه، يتضح أن الاجتهاد هو المنفذ الوحيد الذي يسمح للخطاب الديني بالتجدد من خلال ما يسمح به النص وما وضعه علم أصول الفقه من حدود وآليات.

   سينصب اهتمامنا في هذه الورقة، أولا، على تحديد التمايز الحاصل بين الدين بصفته مصدرا والخطاب الديني بصفته تمظهرا، ثم نقف على تحديد مفهوم التجديد وآلياته، بعد ذلك نعرف الاجتهاد ودوره في التجديد، ونتخذ كتاب "نقد الخطاب الديني" لكاتبه د. نصر حامد أبوزيد نموذجا لتجديد مفهوم الاجتهاد ورد د. محمد اعمارة عليه. لنخلص إلى خاتمة نذيل بها الورقة بأهم الاستنتاجات.

1- النص الديني والخطاب الديني:النص هو كل ما ثبت وروده عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو فوق المحاسبة والاتهام، ويعتبر أصلا لا يمكن المساس به، فهو نص مقدس معجز صالح لكل زمان ومكان، مرتبط بالوحي، يأتي في مقدمة الأدلة الشرعية والحجج الدينية التي لا يمكن دحضها والمنزهة عن كل تحريف وشبهة. لهذا يشكل النص الديني الشكل الثابت الذي يمثل أساس الدين وكنهه. فالأصل أن كل ما شرع الله ورسوله فهو باق وثابت لا يتغير سواء كان متعلقا بالعقائد أو بالعبادات أو بالمعاملات أو بالأخلاق.

أما الخطاب الديني هو الخطاب الذي ينطلق من الرؤية الدينية مرجعا، لذلك فهو ما يستبطنه ويفهمه ويفسره الفقهاء والعلماء من النص الديني أو مصادر الاجتهاد. وهو الواسطة بين الناس وبين القرآن والسنة والتي توضح الإسلام وما فيه من أحكام، فهو طريقة ومنهاج في التفكير والتصور وفي التعبير عن الأفكار والتصورات.

من هذا المنطلق يتضح الفرق بين النص الديني والخطاب الديني رغم ما يمكن أن يمس المفهومين من التباس وخلط وغموض يجعلهما بمثابة الواحد، فما يميز الخطاب الديني هو معيار الثابت والمتغير ويحكم هذا التمايز كيفية فهمه واعتباره سواء من قبل منتج الخطاب أم من لدن متلقيه، فإذا أريد بالخطاب الديني الوحي (النصوص التشريعية)، وبهذا المفهوم فالتجديد محال والتغيير مرفوض، لأنه ثابت في نفسه وهو ما يضمن استمراريته وفعاليته. أما إذا أريد بالخطاب الديني الحديث عن الوحي والتعبير عنه فهما وتأويلا وشرحا، فهذا هو مبحث التجديد وكنهه ومجال التطور وميدانه.
 
وفي هذا الإطار يعتبر نصر حامد أبو زيد أنه أصبح في حكم الحقائق المسلم بصحتها أن الفكر البشري، أي فكر بما في ذلك الفكر الديني، نتاج طبيعي لمجمل الظروف التاريخية والحقائق الاجتماعية لعصره.  فالفكر الإيجابي هو الذي يتصدى لحقائق العصر الذي ينتمي إليه للتحليل والتفسير والتقويم، ويسعى إلى الكشف عن عناصر التقدم ومساندتها، وعزل عناصر التخلف ومحاربتها. والفكر الذي يكتفي بتبرير الواقع والدفاع عنه، إنما ينتمي إلى مجال الفكر على سبيل المجاز لا الحقيقة، إن الفكر في جوهره وحقيقته حركة لاكتشاف المجهول انطلاقا من آفاق المعلوم. وليس الفكر بمعزل عن القوانين الذي تحكم حركة الفكر البشري عموما، ذلك أنه لا يكتسب من موضوعه-الدين- قداسته وإطلاقه. وحتى لا نقع في المغالطات، لا بد من التمييز والفصل بين الدين والفكر الديني، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها. ومن الطبيعي أن تختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعي أيضا أن تختلف من بيئة-واقع اجتماعي تاريخي جغرافي عرقي محدد-إلى بيئة في إطار بعينه، وأن تتعدد الاجتهادات بنفس القدر من مفكر إلى مفكر داخل البيئة المعينة.

2- التجديد:إن معنى التجديد قريب من معنى التطور. لذا، ينبغي التعريف به وبيان وجه استعماله. التجديد –في اللغة-: مصدر للفعل "جدد". ومعنى التجديد: جعل الشيء جديدا أي غير معهود لدى الشخص؛ ولذلك وُصف الموت بالجديد.

  وهذا المصطلح  وإن شاع استعماله في العصور المتأخرة لكثرة المنادين به وسعة مجالاته – فإن له جذورًا في التاريخ الإسلامي ترجع إلى مبدأ الرسالة، حيث ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:"جددوا إيمانكم، قيل: يا رسول الله كيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".

   والتجديد، إذن، يبدو لازما من لوازم الإسلام من مجتمعات وأفرادا؛ ذلك أن المسلم مطالب بتجديد إيمانه بذكر جملة التوحيد "لا إله إلا الله" عن وعي كامل بمعانيها وعمل صادق بمقتضياتها. والمجتمع المسلم مأمور بتجديد إيمانه من كل ما علق به من أسباب الضعف والبلى والخضوع والانحراف.

   إن فهم شريعة الإسلام يستوجب فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية فهما صحيحا، وتدبرها وإعمال العقل فيها من خلال جهد منظم يكشف عن معانيها عندما تكون هذه النصوص محكمة ثابتة، ومن خلال الاجتهاد في الفروع وتطبيق الأصول على ما استجد من المسائل.

لقد تمثل التجديد خير تمثل في قدرة الفقه على الاستجابة للتحديات التي فرضها الواقع في المجتمع المسلم، عندما وظف أهل الاجتهاد كل طاقاتهم في البيئة التي أنشأتها عقيدتهم وفي ظل الثوابت التي أرستها شريعتهم.
لكن بعد عهود – من الجمود والتقليد – برزت - بين صفوف المسلمين –اتجاهات مختلفة للتجديد، لكل منها مفهوم خاص، يمكن إجمالها في ثلاثة اتجاهات:

1 – اتجاه اتخذ التجديد عنوانًا للتحلل من الإسلام بدعوته الصريحة إلى تجاوز الثوابت، وهذا ما يعرف بالتغريب.

2 – اتجاه اتخذ التجديد شعارًا لاجتهاد سائب متحلل من كل الضوابط ومتجاوز لكل الثوابت باستخدامه لطرق التأويل المخلة واصطدامه بالنصوص الصريحة. وهو وِإن اختلف عن سالفه – بعدم استبعاده للإسلام كليًة – فإنه جعل للشرع دورًا ثانويًا مقابل الواقع وحاجاته، حتى أضحت أحكام القرآن والسنة قابلًة للتأويل والتعطيل بذريعة استلهام روح الشريعة ومقاصدها.

3 – اتجاه ينطلق من أسس الإسلام وثوابته متبعًا طرق التأويل الصحيحة، وغير معطل للأحكام في محاولته بناء فقه جديد يجيب عن تحديات العصر ومشكلاته التي لا عهد للسابقين بها. والتجديد – بهذا المفهوم – إنما يبدأ بالتأصيل أي العودة إلى الأصول الإسلامية.

ولزيادة في توضيح ما نرمي إليه من خلال هذا العرض، لا بد من تحديد مفهوم الاجتهاد الذي يعتبر منفذا للتجديد ومسايرة العصر في إطار علم أصول الفقه.

3- مبحث الاجتهاد في علم أصول الفقه:قد عرف العالم الإسلامي في صدر الإسلام الحاجة إلى علم جديد  يواكب متغيرات ذلك العصر، ويحد من التأويلات والأحكام ويقننها اعتمادا على أصول بعينها، تتمثل في القرآن والسنة، إذ يمنح النص القرآني مفاتيح اشتغال للعلماء المسلمين ويمدهم بالآليات التي تحفز العقل على التفكر والتدبر والتأمل، وتقليب الأمور على أوجهها حتى يتبين الحق، وتمنح السنة النبوية الصحيحة من فعل وقول وتقرير المنهج السليم الواجب اتباعه في استصدار الأحكام وفهم القرآن وتأويله، هنا دعت الحاجة إلى علم جديد يؤصل المعرفة الدينية ويمنح منهجا محددا يمكن من فهم الدين فهما سليما ويتيح تطبيقه تطبيقا صحيحا بعيدا عن كل المغالطات يتمثل في علم أصول الفقه، الذي يمنح منهجا للفقيه والمجتهد، يساير روح العصر ومتطلباته، ويواكب الواقع المعيش دون الإخلال بالأصول والخروج عن الحدود التي يسمح بها في الاجتهاد والتجديد.

   لم يكن أصول الفقه علما مستقلا متميزا عن غيره من علوم الشريعة، ولكن قواعده العامة كانت موجودة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ شكله النهائي الذي يميزه عن سائر علوم الشريعة إلا في آخر القرن الثاني، فالأدلة الشرعية التي هي موضوع هذا العلم الرئيس كانت معروفة، والاستدلال بالكتاب والسنة والقياس كان حاصلا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة الكتاب والسنة كانت معروفة للصحابة-رضوان الله عليهم- بحكم معرفتهم بلغة العرب التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فبدأ التعصب لرأي الشيخ والإعجاب به يطغى على الإنصاف عند بعض الطلاب، ولم تكن ثمة قواعد يرجع إليها لوزن الآراء ومعرفة الراجح والمرجوح. وفي ذلك الحين كثر اختلاط العجم بالعرب، وضعف اللسان العربي، ودخل الوضع في الحديث لنصرة مذهب سياسي أو لتأييد رأي، وتصدر للرواية من لم يكن أهلا، واحتاج القرآن إلى تفسير وإيضاح، واحتاجت السنة إلى تمييز الصحيح منها عن الضعيف.

3-1 علم أصول الفقه:
1-  تعريفه:من هذا المنطلق، وفي هذا السياق التاريخي، بدأ التنظير والتأليف لعلم أصول الفقه الذي عرفه الرازي بأنه: "مجموع طرق الفقه الإجمالية،  وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد".

وبهذا يعتمد علم أصول الفقه مجموع الطرق التي توصل إلى إدراك الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. وهي طرق إجمالية تُخرج طرق الفقه التفصيلية التي يُعد الاشتغال بها من عمل الفقيه. فبحث الأصولي لا يتعلق بآية من القرآن بخصوصها كيف تدل على ما دلت من أحكام، ولا حديث بعينه، ولا قياس بعينه، وإنما يبحث في حجية الكتاب وحجية السنة وحجية القياس، وهكذا. فهو يبحث في عوارض تلك الأدلة وما توصف به من قوة أو ضعف وإحكام أو نسخ، وفي شروطها وترتيبها وكيفية الجمع بينها عند تعارضها في نظر من لم يتأملها جيدا. ويطرح هذا العلم طرق استفادة الأحكام من الأدلة والأمارات الموصلة إليها، ويبين كيفية حال المستفيد: المجتهد والمقلد، فالمجتهد يستفيد ويستخلص الحكم من الدليل أو الأمارة التي نصبها الشرع لتهدي إلى الحكم، والمقلد يستفيد الحكم من المجتهد بسؤاله عنه.

2-  موضوعه :يظهر من خلال تعريف الفخر الرازي أن علم أصول الفقه له ثلاث موضوعات رئيسة:
· طرق الفقه على سبيل الإجمال، أي الأدلة القطعية والظنية،
·  صفة الاستفادة منها، وهذا يشمل طرق الدلالة، وهو ما يعرف عند المتأخرين بطرق الاستنباط،
· صفة المجتهد والمقلد، وما يتبع ذلك من شروط الاجتهاد وأحكامه، وسبيل دفع التعارض والمرجحات، ومعنى التقليد وأحكامه.

3-  فوائده:تتمثل فوائد علم أصول الفقه وأهدافه في:
· التفقه في الدين، ومعرفة ما للمكلف وما عليه من الحقوق والواجبات.
· معرفة الحكم الشرعي لكل ما يجدّ من الحوادث والوقائع التي لم يرد بخصوصها نص صريح ولا ظاهر بيّن.
· معرفة حكم الشريعة وأسرارها بالتأمل في علل الأحكام ومقاصدها ومعرفة المقاصد الشرعية الضرورية والحاجية.
· مواجهة خصوم الشريعة الإسلامية الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة للتطبيق في هذا الزمن.
·  حماية الفقيه من التناقض.

4-  استمداد أصول الفقه:يستمد علم أصول الفقه مادته مما يلي:
· القرآن والسنة النبوية، وهذان المصدران هما أساس العلوم الشرعية كلها،
· علم أصول الدين، وهو ما يعبر عنه بعلم الكلام، وهو مبني على معرفة الله تعالى وصفاته وما يجب له وما يجوز له وما يمتنع إطلاقه عليه، والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
· اللغة العربية، باعتبارها وعاء الكتاب والسنة.
· الفقه، وهو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، وأصول الفقه تحتاج في إدراكها إلى إدراك أمثلة من الفقه يمثل بها لتتضح القواعد الأصولية.

5- أدلة الأحكام الشرعية:الدليل في اللغة المرشد إلى الشيء، وفي الاصطلاح: "ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري"، وتنقسم الأدلة الشرعية من حيث الاتفاق على العمل بها وعدمه إلى:
· أدلة متفق عليها وهي الكتاب والسنة.
· أدلة فيها خلاف ضعيف، وهي الإجماع والقياس.
· أدلة فيها خلاف قوي، وهي قول الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة وشرع من قبلتا والاستصحاب وسد الذرائع.
وتنقسم من حيث طريق معرفتها إلى قسمين:

· أدلة نقلية، وهي الكتاب والسنة والإجماع وقول الصحابي وشرع من قبلنا والعرف.
· أدلة عقلية، وهي القياس والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والاستحسان والاستصحاب.

 
https://taghribnews.com/vdcfmed0xw6dcva.kiiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز