تاريخ النشر2017 17 November ساعة 21:20
رقم : 293712

التفاعل الحضاري في التاريخ الإسلامي - ايران نموذجاً

تنا
الاسلام مشروع حضاري لحركة البشرية على طريق تكاملها المادّي والمعنوي، وأينما حلّ هذا الدين حرك الأفراد والجماعات في هذا المسار. وكان له الدور الحضاري المشهود في ايران بعد الفتح، فقد فجّر الطاقات نحو ممارسة دور الاستخلاف، ولذلك ظهرت أجيال من العلماء والمفكرين والادباء، لم يكن لهم وجود بهذه السعة والعمق قبل الفتح المبين.
التفاعل الحضاري في التاريخ الإسلامي - ايران نموذجاً
الشيخ محمود محمدي عراقي 

ومايقال إن الاسلام انتشر في إيران بالسيف فينقضه مالا يحصى من الوثائق التي تشهد على تفاعل الايرانيين بالدين المبين وإقبالهم عليه أفواجاً، والتعايش الأخوي بين الايرانيين والعرب.

وكان المنطلق في كل هذه الظواهر الحضارية هو ما أعلنه الاسلام من تحرير الانسان وتأكيده على عزّة الموجود البشري وكرامته، وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة اليه لاستعادة مسيرتنا الحضارية.

الدين الإسلامي الحنيف قدّم للإنسان وللمجتمع الإنساني مشروع حركة حضارية. قواعد هذا المشروع تقوم على أساس تحرير الإنسان من كلّ ما يكبّل مسيرته من آلهة زائفة وأنانيات ضيّقة وخرافات وهميّة، وتقوم أيضاً على أساس تفهّم الإنسان لمكانته ووجوده على ظهر الأرض، ودوره في الساحة التاريخية.

وبهذا المشروع الحضاري حرّر الإسلام مجموعات بشرية كبيرة مما كان يشلّ طاقاتها الخلاّقة، ودفعها لبناء أروع حضارة بشرية في جانبيها المعنوي والمادّي.

وهذا المشروع الحضاري تعرّض منذ القرن السابع الهجري لنكسات سياسية وعسكرية هائلة، ولكنه بقي في وجدان الأمة يترقب فرصة استعادة الحركة والعطاء، غير أن عصر الغزو الاستعماري شهد جهوداً ثقافية هائلة للقضاء على تطلّع الأمة نحو عودتها الحضارية. والحديث في هذا المجال طويل .

من الشبهات التي أثارها المستشرقون وتلامذتهم في العالم الإسلامي وخاصة في البلاد غير العربية أن الإسلام فرض نفسه على البلاد المفتوحة بحدّ السيف، وتستند هذه الشبهة إلى كتبنا التاريخية التي خلطت الحقائق بالأوهام، ولم يتصدّ لتنقيحها وغربلتها إلاّ القليل مع الأسف.

في تاريخ الطبري روايات عن مذابح حدثت في العقود الإسلامية الأولى بعضها يرتبط بحروب الردة وبعضها بالفتوح الإسلامية. ومن أخباره عن حروب الردة اجتماع قبائل ثعلبة بن سعد في «أبرق الربذة» وإعلانهم منع الزكاة، وقول الخليفة أبي بكر عنهم: «والله لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه»، وما تبع ذلك من سفك دماء غزيرة، ومنها رواياته عن ردّة طيّ، وعودتهم بعد ذلك إلى الإسلام بالتهديد والتخويف، وهكذا رواياته عن ردة أهل عمان ومهرة وقتل عشرة آلاف من المرتدين فيها، وهكذا حديثه عن ردّة اليمن الأولى والثانية وردّة الأخابث وفي جميعها ذكر لجموع غفيرة من القتلى وإلى عمليات إبادة للحرث والنسل .

وهذه الأخبار وإن كانت تثير شك الباحث الموضوعي بمجرد قراءتها لأنها تتعارض مع أخبار ترتبط بإقبال الجزيرة العربية على الإسلام طواعية، سوى فئة قليلة من طلقاء مكة، لكن الدقة في أسانيدها يكشف زيفها جميعاً لأنها ترتبط كما ثبت في التحقيق بمؤامرة كان على رأسها الروائي سيف بن عمر استهدفت مسخ حقائق التاريخ الإسلامي .

وإذا كان سيف بن عمر قد وضع روايات دموية في أخبار الردّة، فقد وضع مثل هذه الروايات في الفتوح أيضاً، وخاصة فتح إيران . وهي أيضاً مليئة بسيول الدماء وصور البشاعة التي تقشعر منها الأبدان، وكلها مزيفة ولا أصل لها من الصحة .
وما يرتبط بدمويات روايات سيف بن عمر في فتح إيران– إضافة إلى تعارضه مع طبيعة الدعوة الإسلامية، ومع وثائق تاريخية كثيرة جداً عن الموقف الإنساني تجاه أهالي البلدان المفتوحة في ظل الإسلام – فإنه مرفوض لما يلي:

١ - إن الإيرانيين المتحررين من ربقة السيطرة الكسروية أسلموا قبل الفتح، من ذلك الإيرانيون في اليمن والإيرانيون في البحرين، ووجود سلمان الفارسي بين أبرز الصحابة له دلالته الواضحة.

٢ - تذكر الوثائق أن جماعات غفيرة من أصناف الإيرانيين تعاونوا مع الفاتحين المسلمين في القضاء على النظام الكسروي منهم القبائل المتنقلة وراء الكلأ (الزط)، ومنهم سكان السواحل (السيابجة)، بل منهم قواد جيش يزدجرد (الأساورة) .

٣ - تخمينات الباحثين تذهب إلى أن عدد المقاتلين المسلمين في فتح إيران لم يتجاوز (٦٠) ألفاً، وكانوا يفتقدون إلى ما كان عند الجيش الإيراني من عدّة وعتاد وآلة الحرب وفنون القتال، بينما كان سكان إيران آنئذ يبلغ (١٤٠) مليوناً منهم عدد لايحصى من الجنود . حجم سكان إيران إذن كان كافياً لأن يضيع فيه المقاتلون المسلمون. مما يدل على أن الفتح كان وراءه الشعب الإيراني نفسه أيضاً.

٤ - التوغل الإسلامي السريع إلى أقاصي شرق إيران يدل على أن المقاومة الوحيدة التي واجهها الفتح الإسلامي إنما كانت من القوات التي بقيت موالية لخسرو برويز، وما إن اندحرت حتى توغل الفاتحون المسلمون في العقد الثاني الهجري إلى خراسان وما وراء النهر، فمن أسلم من البلاد المفتوحة، أصبح له ما للفاتحين وعليه ماعليهم، ومن رفض الإسلام صالحه المسلمون على «تقوى الله ومناصحة المسلمين وإصلاح ما تحت يديه من الأرضين» .

ومن الطريف في أمر الفتح الإسلامي أن المسلمين دخلوا غرب إيران ووصلوا قزوين غير أن منطقة شمال قزوين الجبلية، وهي منطقة سكان الديلم، استعصت عليهم. ويبدو أن هؤلاء الديالمة قد تركت طبيعة الجبال الوعرة أثراً في طبيعة سلوكهم، فكانوا أشداء ذوي منعة وجلادة ومقاومة، فأبوا أن يسمحوا للفاتحين – كما أبوا أن يسمحوا من قَبلُ للساسانيين – بالتوغل إلى منطقتهم، وأضحوا حتى منتصف القرن الثالث الهجري يسمّون كفار الديلم، ولكن هؤلاء أنفسهم احتضنوا الداعية العلوي الحسن بن زيد وولّوه عليهم وأصبحت المنطقة بعد حين مسلمة على مذهب أهل البيت .
٥ - سنرى فيما بعد أن الإيرانيين بعد قرنين من الفتح الإسلامي نالوا استقلالاً سياسياً عن مركز الخلافة ولكنهم ازدادوا التزاماً بالإسلام وحركة في خدمته على جميع الأصعدة، كما أنهم منذ تشرفهم بالإسلام انصهروا فيه وانهمكوا في فهم لغته وكتابه وتعاليمه، فكانت لهم المشاركة العظيمة مما يدل كل ذلك على أن دخولهم الإسلام لم يكن أبداً بحد السيف، ولم يكن أبداً عن رهبة بل عن رغبة عميقة.

كانت الديانة السائدة في إيران عند الفتح الإسلامي هي الديانة الزرادشتية، ومع أن طبيعة هذا الدين لم تكن كالمسيحية واليهودية في وضوح ارتباطها بالنبوات الحقة، فقد عاملهم المسلمون باعتبارهم أهل كتاب، ولم يجبروهم قط على ترك دينهم ، لكنهم دخلوا في دين الله أفواجاً، ويعود هذا الدخول الجماعي في الإسلام إلى عوامل كثيرة أهمها ارتباط الديانة الزرادشتية بالنظام الحاكم الساساني، ومع انهيار هذا النظام الحاكم انهار الجهاز الديني الزرادشتي أيضاً . ولا شك أن هذا الدين ارتبط في أذهان الإيرانيين بما كان ينزل بهم من ظلم الحكّام الساسانيين، ولذلك وجدوا في الإسلام المنقذ لهم من هذا الظلم كما سنبين ذلك، ولكن هذا لا يعني طبعاً دخول كل أتباع الديانة الزرادشتية في الإسلام، فقد ظلت أسر كبيرة منهم على دينهم حتى القرن الرابع الهجري، ولا تزال جماعة منهم باقية على دينهم حتى يومنا هذا.

ولقد كان الزرادشتيون في ظل الإسلام ينعمون بما لم ينعموا به في ظل الدولة الساسانية، من ذلك إعفاؤهم من الجندية، ومن ذلك أيضاً قيامهم بطقوسهم الدينية على الطريقة التي تحلو لهم، وكانوا من قبل مجبرين على أن يؤدوها وفق تعاليم الدولة وقوانين المؤسسة الدينية الصارمة . ولم يكن عليهم من الواجبات تجاه الدولة الإسلامية سوى أداء ضريبة الجزية مقابل حصولهم على حماية الدولة الإسلامية، وكان مبلغ الجزية يزيد قليلاً على مايدفعه المسلم من ضرائب  كما أنها ما كانت تزيد على مبلغ ضريبة الرأس التي كانوا يؤدونها للحاكم الساساني .

وتذكر الوثائق أن الزرادشتيين أسلموا بالتدريج خلال القرون الإسلامية، ويذكر أن سامان جد مؤسسي الدولة السامانية أسلم في القرن الثاني، وقابوس جدّ سلالة حاكمة إيرانية أخرى أسلم في القرن الثالث، ومهيار الديلمي الشاعر الإيراني المعروف أسلم في أواخر القرن الرابع الهجري . أكثر أهالي كرمان ظلوا طوال العصر الأموي على الديانة الزرادشتية، ويتحدث المقدسي الذي طاف في فارس عن الزرادشتيين هناك ومكانتهم واحترام المسلمين إياهم  وهكذا يذكر المسعودي عن أهالي اصطخر، ويتحدث عن كتاب جامع كان لدى الرزادشتيين عن تاريخ الدولة الساسانية استفاد منه في تدوين تاريخه، ويذكر اسم «الموبد» في هذه المدينة ومكانته بين أتباعه .

ويعقد المسعودي في مروج الذهب فصلاً تحت عنوان: «في ذكر الأخبار عن بيوت النيران وغيرها» ويذكر اسم بيت النيران في «دارا بجرد» التي رآها سنة٣٣٢ هجرية ومدى احترام المجوس لها، ويقرر أنها تحظى بتقديس المجوس أكثر من غيرها من بيوت النيران.

وتذكر الوثائق التاريخية أن اتساع دخول الإيرانيين في الإسلام كان يقلص من حرية حركة أتباع الديانة الزرادشتية، مما دفع بعض الزرادشتيين إلى الهجرة إلى الهند.

ويحسن هنا أن نشير إلى ما كتبه (المستر فراي) عن هذا الموضوع إذ يقول ما ملخصه: «إن الزرادشتيين في إيران اتجهوا إلى الإسلام عن طريق دعاة الصفوية والشيعة، وخاصة الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن شهريار الكازروني المتوفى سنة ١٠٣٤ ميلادية. واتجه زعماء الديالمة الزرادشتيون إلى الإسلام، وأسسوا فيما بعد دولة البويهيين في إيران والعراق واختاروا مذهب أهل البيت لهم عقيدة وسلوكاً، واللغة العربية كلاماً وكتابة وأدباً» .
كل هذا ينفي من جهة أقاويل انتشار الإسلام بالسيف في إيران، ويبين من جهة أخرى موقف الإسلام من الديانة الزرادشتية.

إخلاص الإيرانيين للإسلام
ذهب بعض الباحثين الإيرانيين والعرب - مدفوعين بموجة الصراع العنصري التي شاء أعداء الإسلام أن يؤججوا نيرانها في العالم الإسلامي - إلى أن الإيرانيين أمام اجتياح الإسلام اتخذوا موقف سكوت لمدة قرنين ثم عادوا إلى تحقيق هويتهم القومية بعد أن نالوا استقلالاً سياسياً عن مركز الخلافة الإسلامية. 

وهذه الفرية تعني أن الإيرانيين أسلموا بقوة السيف ثم بعد أن استعادوا قوتهم أعلنوا رفضهم للإسلام وعادوا إلى هويتهم القومية السابقة. وهي إساءة كبيرة إلى دين الدعوة بالتي هي أحسن، وإلى الإيرانيين أيضاً، لأن هؤلاء القوميين الإيرانيين - كما يقول الشهيد مطهري - أرادوا أن يشيدوا بالالتزام القومي للإيرانيين فأضفوا عليهم صفة الرياء والنفاق والمخادعة .

وبين أيدينا مالا حد ولا حصر له من الوثائق التي ترفض هذه المقولة وتفندها ونكتفي بتسليط الضوء باختصار شديد على جانبين من حياة الإيرانيين بعد الإسلام ليتبين لنا أنهم أقبلوا على الإسلام بإخلاص وحملوا لواءه وضحوا في سبيل اعتلاء كلمته بهمة عالية.

الأول - اهتمام الإيرانيين في مجال نشر الإسلام.
والثاني - اهتمامهم في إثراء العلوم الإسلامية.

دورهم في مجال الدعوة:
ذكرنا أن الحكام الإيرانيين في اليمن أسلموا قبل الفتح الإسلامي لإيران وأسلمت معهم اليمن، وهؤلاء الإيرانيون ساهموا بشكل فعّال في تثبيت الإسلام جنوب الجزيرة العربية وفي القضاء على حركات الردّة.  وهؤلاء الإيرانيون المسلمون في اليمن ساهموا في فتوح شمال أفريقيا في العصر الإسلامي الأول،  وهؤلاء طبعاً غير الخراسانيين الذين انتشروا في مصر وشمال أفريقيا، وحكموا هذه الأصقاع، وساهموا في تثبيت راية الإسلام فيها خلال العصر العباسي الأول والثاني والعصر الفاطمي. 

لا تتوفر مع الأسف دراسات مستقلة عن دور الإيرانيين في مجال الدعوة ونشر الإسلام، غير أن الوثائق المتفرقة في كتب التاريخ والسير والمذكرات تدل بوضوح على نشاط عظيم نهض به الإيرانيون في نشر الإسلام في شبه القارة الهندية. ففي ظل حملات الغزنويين على الهند نشط العلماء في نشر الدعوة هناك مثل البيروني والحكيم الخراساني. كما أنهم نشطوا أيضاً في ظل هجوم السلاطين الغوريين على الهند، وكان من أشهرهم الخواجه معين الدين چشتي.

ونشطوا أيضاً في الدعوة تحت ظل حكم التيموريين في الهند، وفي ظل حكومة القطب شاهيين سعوا في نشر تعاليم الإسلام في منطقة الدكن، وهكذا في عصر العادل شاهيين حيث هدوا الوثنيين الهنود في مناطق الهند المركزية إلى الدين المبين، وكذا الأمر في عصر النظامشاهيين والملوك النيشابوريين.

وتذكر الوثائق نشاط الإيرانيين في نشر الإسلام في كشمير التي كانت حتى سنة ٧١٥ هجرية لا تدين بالإسلام. ومن هؤلاء الدعاة الإيرانيين في كشمير المير سيد علي الهمداني الذي تربى على يديه آلاف الطلبة الكشميريين.
وتذكر أيضاً دور التجار الإيرانيين في نشر الإسلام في الصين، ولا تزال بعض مكتبات الصين تضم كتباً إسلامية ألفها صينيون باللغة الفارسية. كما نستطيع أن نجد نظير هذا الدور في بعض بلدان جنوب آسيا. 

وفي بحث ألقاه البروفسور إسماعيل يعقوب رئيس جامعة سوراباياي الأندنوسية سنة ١٩٦٩ في مؤتمر ألفية الشيخ الطوسي قال: «اسم فارس ورد في الحديث الشريف وهو الصقع الذي يطلق عليه اليوم اسم إيران، وهو اسم معروف تماماً عند الشعب الأندنوسي. لأننا نعلم أن الإسلام دخل أندنوسيا على يد دعاة قدموا إلى الجزائر الأندنوسية ومنهم الإيرانيون. الدعاة الإيرانيون الذين جاءوا أندونوسيا ونشروا الإسلام في أرجائها حتى أصبح تسعون بالمائة من سكان أندنوسيا - البالغ عددهم اليوم ١١٠ ملايين - مسلمين) .

دورهم في إثراء العلوم الإسلامية
إقبال الإيرانيين الشديد على تعلم لغة الدين المبين ودراسة مصادر الإسلام والتعمق فيها من الدلائل الواضحة على انصياعهم فكرياً ونفسياً لهدى الدين وعلى اهتمامهم الشديد بإثراء العلوم الإسلامية وصيانتها ولمّ شتاتها. ونتيجة لهذا الاهتمام برز فيهم أئمة القراءات: مثل عاصم، ونافع، وابن كثير، والكسائي، وأئمة التفسير: مثل الطوسي، والطبري، وأبي الفتوح الرازي، والفخر الرازي، والميبدي، والبيضاوي. وأئمة الحديث، مثل أصحاب الكتب الأربعة: الكافي، والصدوق، والطوسي. وأصحاب الصحاح الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. ويطول الحديث لو أردنا استعراض المؤرخين والفقهاء واللغويين والأدباء والبلاغيين والمتكلمين والفلاسفة والحكماء وأصحاب الفنون الجميلة. 

وانطلاقاً من هذه المشاركة العلمية الجادّة يرفض البروفسور «براون» أن يكون القرنان عصر ركود وانحطاط بالنسبة للإيرانيين ويقول بعد حديثه عن سلمان الفارسي:

«سلمان هو الشخص الوحيد الذي ورد من الإيرانيين في جامعة الصحابة المعززة والمكرمة وكثير من كبار العلماء المسلمين نهضوا منذ العصور الإسلامية الأول من الأصل الإيراني، وجمع من أسرى الحرب مثل أولاد شيرين الأربعة (ابن سيرين وأخوته الثلاثة) الذين أسروا في جلولاء بلغوا فيما بعد مراتب شامخة في عالم الإسلام. من هنا فإن القائلين بأن الإيرانيين بعد استيلاء العرب على إيران ظلوا لقرنين أو ثلاثة يفتقدون الحياة العلمية والمعنوية لا يصح بأي وجه. بل بالعكس فإن تلك القرون تشكل عصراً رائعاً ومهمّاً ومنقطع النظير. إنها قرون امتزاج القديم والجديد، وتحول الآداب وتطور التقاليد والعقائد والأفكار، لكنها ليست عصر ركود أو سكون أو موت» .

وكما قال براون لم تكن القرون الأولى قرون ركود علمي في إيران كما زعم بعضهم، بل كانت قرون تفاعل حضاري بين شعبين، وقرون «تعارف بين ثقافتين» وهذه القرون سقت دوحة الحضارة الإسلامية التي قدّمت عطاءها الثرّ في القرن الرابع وما بعده.

لم يكن هذا العطاء الحضاري للتفاعل الثقافي بين الإيرانيين والعرب في إطار اللغة العربية فحسب، بل حفلت اللغة الفارسية أيضاً بهذا العطاء متمثلة فيما دوّنه كبار العلماء والفلاسفة والشعراء والعرفاء من آثار خالدة. وهنا أتقدم بالدعوة إلى كل المهتمين بالشأن الحضاري الإسلامي أن يتقنوا اللغة الفارسية ليقفوا مباشرة على ماقدمه لنا أمثال سعدي الشيرازي وحافظ الشيرازي ومولانا جلال الدين الرومي والعطار وسنائي وفردوسي وغيرهم كثير ممن يعبّر عن هذا التفاعل الحضاري العظيم باللغة الفارسية.

التعايش الأخوي العربي الإيراني في ظل الإسلام
كانت إيران قبل الإسلام امبراطورية تتلخص حركتها في تحقيق أهداف توسعية تسلطية شأنها شأن كل القوى المتجبّرة الجاهلية، وكان العرب ممن اكتووا بنار هذه الأهداف، نلاحظ ذلك في علاقة كسرى بملوك المناذرة في الحيرة، فما إن ساءت العلاقات بين كسرى پرويز والنعمان أبي قابوس حتى قضى كسرى على دولة المناذرة رغم ما أسداه عرب الحيرة من خدمات للبلاط الإيراني الكسروي في فتح مصر وفي صدّ اليونانيين. كما أن الوثائق تذكر نزاع الإيرانيين والعرب حول حصن الضيزن على شاطئ الفرات، وتحدثنا الوثائق عن صراع دموي حدث بين الإيرانيين والعرب في عصر سابور الثاني (٣٠٩ - ٣٧٩م) إذ أغارت القبائل العربية على أطراف مملكته فانتقم سابور منها وأسكن أسراها في كرمان وأهواز ومناطق أخرى من أرض إيران. 

ولا تذكر الوثائق التاريخية عن تعايش سلمي بين العرب والإيرانيين قبل الإسلام سوى ما حدث في اليمن، إذ دخلها الإيرانيون ليخلّصوا اليمنيين من الأحباش، فاستوطنوا فيها وتعايشوا مع أهل اليمن، وربما يعود هذا التعايش السلمي إلى بُعد اليمن عن السيطرة الكسروية المباشرة. 

أما بعد الفتح الإسلامي فقد أصبح العرب والإيرانيون أمة واحدة وأصبحوا بنعمة الله إخواناً، وسجل التاريخ صفحات رائعة من التآخي العربي الإيراني، هي بحق من أروع صفحات عطاء الدين في إنقاذ الشعوب من النزاعات الدموية ومن الروح التسلطية المتفرعنة. ويحتاج استعراض هذه الصور الرائعة إلى دراسة مستقلة فأكتفي بذكر بعض اللقطات منها.
هاجرت القبائل العربية إلى شرق العالم الإسلامي فتوطنت مع الإيرانيين في العراق وإيران، وكانت الهجرة كثيفة بشكل خاص إلى خراسان الكبرى. وكانت اللغة السائدة في العراق العربية ومعها الفارسية، والسائدة في إيران الفارسية ومعها العربية، وعلى أثر التزاوج والتعايش نشا أبناء العرب على اللغة الفارسية، ولم يمض جيلان حتى تعذر التمييز بين العرب والإيرانيين في اللغة والملبس والعادات والتقاليد. 

وهناك من يحاول أن يتّخذ من قضية الموالي والتعامل العربي معهم موضوعاً للطعن في التعايش الأخوي بين الإيرانيين والعرب. والواقع أن نظام الولاء وفّر فرصة زوال الفواصل بين القبائل العربية والمسلمين الجدد، حيث أصبح الموالي جزءً من هذه القبائل يتمتعون بكل ما توفره القبيلة لأبنائها من حماية سياسية واقتصادية واجتماعية. ثم إن الحديث عن الموالي على أنهم فئة اجتماعية واحدة فيه الكثير من المجازفة والتبسيط المخلّ كما يقول الدكتور الدوري.  لأن الموالي لم يكونوا فئة واحدة، فمنهم الكتّاب والوزراء، ثم منهم الفقهاء والعلماء ولهؤلاء منزلة عالية، ومنهم التجار، وأثرهم كبير في الحياة الاجتماعية، كما أن منهم الصناع والفلاحين وكان ينظر إلى هذه الفئة الأخيرة نظرة متواضعة.

والواقع أن التاريخ احتفظ لنا بصورة من الإهانات التي نزلت بالموالي وخاصة في العصر الأموي حتى أن الجزية فرضت على المسلمين منهم في فترة من فترات الحكم الأموي، ولكن هذا لم يخلّ بالتعايش السلمي بين الإيرانيين والعرب، فكلاهما كان متبرّماً بظلم الأمويين وساخطاً عليهم، كما أن العرب دافعوا عن الإيرانيين تجاه ما أنزله بهم بعض الولاة العرب المتعصبين من ظلم وتمييز عنصري ، ثم إن الخراسانيين عرباً وإيرانيين تعاونوا في القضاء على الحكم الأموي واستئصال شأفته.

جدير بالذكر أن العنصريين المتعصبين من العرب والإيرانيين يحاولون أن يركزوا على بعض الحركات القومية الإيرانية التي شهدها التاريخ مثل حركة (به آفرين) و (سنباد) و (بابك الخرمي) و (مازيار) ليثبتوا تفوّق العنصر القومي لدى الإيرانيين على الروح الدينية. ولكن كل الوثائق التاريخية تشهد خلاف ذلك، ففي كل أمة شواذ، ولا أدلّ على شذوذ هؤلاء من أنزوائهم عن الأمة وتحوّلهم إلى لصوص وقطاع طرق ومجرمين، حتى تم القضاء عليهم بيد القادة الإيرانيين أنفسهم من أمثال أبي مسلم والأفشين. 

ولابأس من الإشارة إلى أن مصر تعتبر واحدة من أهم مناطق التعايش العربي - الإيراني، فالإيرانيون الذين أسلموا في اليمن شاركوا في فتح مصر في عصر صدر الإسلام، ثم كانوا يشكلون نسبة كبيرة من الجيش الذي تعقّب مروان آخر الخلفاء الأمويين إلى هذا البلد, وعند القضاء على الأمويين سكن كثير من الإيرانيين في مصر، وتعايشوا مع المصريين حتى أن أهل مصر كانوا يرجعون زمناً إلى الفقيه الإيراني الليث بن سعد.

موقف الإسلام من التراث القديم
لاشك أن الإسلام حارب كلّ ما يصد حركة الإنسان والمجتمع الإنساني نحو الكمال المنشود في الفكر والسلوك والنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وألغاه جميعاً… ولكن موقفه من النتاج الفكري والعلمي الإنساني لم يكن سلبياً أبداً إذ لم يندرج في قائمة موانع الحركة التكاملية. يشهد على ذلك موقفه من التراث الإيراني القديم… من اللغة الفارسية… وعلوم الحرب… وعلوم الإدارة… وفنون الإدارة… وفنون العمارة… إلى الكتب القديمة… والعادات والتقاليد السليمة.

مع أن اللغة العربية هي لغة الدين، ولا يصح إسلام مسلم إلا إذا تعلم قدراً من هذه اللغة، فإن العرب لم يفرضوا لغتهم على أبناء الشعوب المفتوحة فرضاً كما فعلت القوى الغازية في التاريخ بل ما فعلته القوى الاستعمارية الغازية في بلادنا من سعي لإبادة لغتنا وثقافتنا وحضارتنا ومسخ ماضينا الثقافي بل أيضاً من اعتداء على فنوننا وآدابنا وتقاليدنا ومقدساتنا. وحبّذا لو تصدّى المهتمّون بتقصًي ما فعلته القوى الاستعمارية في العصر الحديث من عدوان على ثقافات الشعوب في العالم العربي وفي إيران وشبه القارة الهندية وجنوب شرقي آسيا وفي أفريقيا.

نعم، لقد أقبل الإيرانيون بِنَهم على تعلم اللغة العربية وخدموا هذه اللغة في مختلف المجالات، ولكنهم لم يجدوا أنفسهم ملزمين بترك اللغة الفارسية، فبقيت هذه اللغة إلى جنب اللغة العربية، بل إن العرب الساكنين في إيران بعد جيل أو جيلين أصبحوا يتكلمون باللغة الفارسية. ولكن من الطبيعي أن تمتزج اللغتان لتشكلان اللغة الفارسية الاسلامية بمفرداتها العربية الكثيرة.

واستفاد المسلمون دون شك من فنون الحرب الإيرانية لان الأكاسرة كانوا يهتمون بهذا الجانب بشدة، لما كان بينهم من حروب مستمرة مع الروم المنافسين لهم في السيطرة على العالم، والوثائق التاريخية المتوفرة في هذا المجال رغم قلتها توضّح استفادة العرب من هذه الفنون، ففي عصر الرسول (ص) حفر الخندق حول المدينة في حرب الأحزاب باقتراح من سلمان الفارسي، وكلمة الخندق كما يقال فارسية. ثم إن القادة العسكريين الإيرانيين في اليمن كان لهم دور في إدارة عمليات الفتوح وفي القضاء على الردة، كما أن جمعاً من قادة جيش كسرى (الأساورة) كان لهم مثل هذا الدور حتى في فتح إيران. ثم إن التاريخ يحدثنا عن دور قيادات عسكرية إيرانية في القضاءعلى بعض الحركات العنصريّة المعارضة للإسلام في أنحاء إيران، وفي الفتوحات الإسلامية، وفي القضاء على الخوارج، وفي إخماد الفتن. كل هذا يعني أن الفنون العسكرية الإيرانية كان لها دور فاعل في إدارة العمليات العسكرية بعد الإسلام.

وأما في مجال العلوم الإدارية فيكفي أن نذكر أن المحاسبات الإدارية كانت تتم في الدولة حتى زمن هشام بن عبدالملك باللغة الفارسية، مما يدل على أن الجهاز الإسلامي استفاد من هذه العلوم ومن الإيرانيين المتمرسين فيها دونما أدنى حساسية، ومن الطريف أن لغة هذه الدواوين بُدلت إلى اللغة العربية في زمن هشام على يد إيراني يحسن اللغتين هو صالح بن عبدالرحمن .

أما الحديث عن موقف العرب من المراكز العلمية والمكتبات في إيرن إبان الفتح الإسلامي فهو ذو شجون. لقد حاولت العصبيات أن تعطي للفاتحين المسلمين طابعاً وحشياً معادياً للعلم والمعرفة، وتصفهم بأنهم بدو أبادوا حضارة إيران وقضوا على المعالم العلمية فيها. بل وحتى الكتب المدرسية الإيرانية في عصر الشاه كانت تلقن الطلبة هذه المفاهيم عن الفتح الإسلامي، وتبين لهم أن جامعة جنديشابور والمكتبات الإيرانية أبيدت على يد الفاتحين (وتسميهم الغزاة طبعاً) ومثل هذه النعرة قد ارتفعت بشأن إحراق مكتبة الإسكندرية على يد المسلمين الفاتحين.

ودرس الباحثون مسألة إحراق مكتبات إيران إبّان الفتح ومنهم الأستاذ الشهيد مطهري رضوان الله تعالى عليه، وذكر كلّ الأقوال في هذا المجال وفنّدها. كما فنّد فرية إحراق مكتبة الإسكندرية .

بقي أن نشير إلى موقف الإسلام من العادات والتقاليد، ولاشك أن المسلم يكف عن أية عادة تتنافى مع الإسلام وتعاليمه، وهكذا فعل الإيرانيون بعد أن تأدبوا بآداب الإسلام، فأصبحوا في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم ومعيشتهم وحياتهم اليومية ملتزمين بآداب الدين الحنيف، ولكنهم لم يجدوا حرجاً في ممارسة التقاليد القديمة بعد أن هذبها الإسلام وأطّرها بتعاليمه، ومن ذلك مثلاً الاحتفال بعيد النوروز، فلقد تواصل الاحتفال به، ثم شاركهم العرب فيه، وامتدت هذه الاحتفالات إلى مصر .

ثم إنّ فنّ العمارة الإيراني كان له أثره الكبير في بناء المساجد الإسلامية وبناء المدن الجديدة. وهكذا الأمر في باقي الفنون الجميلة، مما يدل على انفتاح الإسلام على ماعند الآخرين من علوم وفنون وعادات حميدة.

عطاء الإسلام للإيرانيين
لايمكن أن نفهم هذا العطاء إلاّ إذا عرفنا ظروف الإيرانيين وحياتهم قبل الفتح الإسلامي. نعم كانت إيران قبل الفتح إمبراطورية عظيمة مرهوبة الجانب متطورة في فنون القتال والعمارة، ولكن المهم في الأمر الشعب الإيراني، ماذا كان نصيبه في ظل هذه الإمبراطورية العظيمة؟ باختصار كانت الأغلبية العظمى من أبناء الشعب تعيش حالة الحرمان وهو حديث يحتاج الخوض فيه إلى كتاب مستقل، ونكتفي بالإشارة فقط إلى مايلي:

١ - كان المجتمع الإيراني قبل الإسلام قائماً على أساس التمييز الطبقي، حتى أن بيوت النار كانت مقسمة على الطبقات، ولايحق للطبقة الدنيا أن تدخل معبد الطبقة العليا.

٢ - كانت الزرادشتية قد مسخت وأفسد فيها رجال الدين (الموبدان)، وأضحى عامة الناس يناصبون العداء للجهاز السياسي والديني معاً، مما حدى بهم أن يتعاونوا مع الفاتحين العرب .

٣ - كان النظام الطبقي في إيران يقضي أن تكون الملكية في احتكار أفراد معدودين، وعلى أكثر الاحتمالات كانت ملكية إيران الكبرى بيد مليون ونصف المليون إنسان، وباقي الشعب البالغ عدده مائة وأربعين مليون إنسان محرومون من حقّ التملك.

٤ - كان التعليم مقتصراً على الطبقة العليا من المجتمع، والباقون محرومون حتى ولو كانوا أثرياء، وفي الشاهنامة قصة تحكي عن ثري إيراني من الطبقة الدنيا إعلن استعداده لإنفاق كل أمواله من أجل رفع الحظر عن تعليم ابنه فلم يسمحوا له بذلك رغم أن ميزانية الدولة كانت بحاجة إلى أموال هذا الرجل .

وتذكر وثائق العصر الساساني أن الفساد دبّ في نظامه الاجتماعي والأسري والأخلاقي بشكل فظيع .

وأي عطاء أكبر لمثل هذا الشعب من دين الهي يوفر له كل ما تصبو له فطرته الإنسانية من ارتباط بالمبدأ الأعلى، ثم يوفر له أيضاً الكرامة والمساواة والحرية؟ ‍‍‍‍ ‍‍فقد أُلغي بفضل الإسلام النظام الطبقي، وأُلغي حظر التعليم بل أصبح واجباً على كل مسلم ومسلمة، وألغيت كل الامتيازات الزائفة التي كانت تتمتع بها الطبقات الممتازة وكهنوت الديانة الزرادشتية، ولذلك كله نرى أن هذا الشعب أقبل على طلب العلم بنهم المتعطش المحروم، وأقبل يحارب في سبيل الله بعد أن كان مسخراً للحرب من أجل الطاغوت، وأقبل على حركة إبداع كبرى في المجتمع الإسلامي بعد أن كان مقيداً بأغلال الجاهلية وإصرها.

العزّة مبدأ هام في الحركة الحضارية
العزّة عنصر هام بل أساسي في الحركة الحضارية على مستوى الفرد والجماعة، فإذا توفّرت العزّة في الفرد وفي الجماعة فثمّة الإبداع والعطاء والتطوير والتكامل المتواصل, وإذا ساد الذلّ شُلّت الطاقات وانعدمت الكفاءات وتوقف العطاء والتطوير.

وهذه قضية اهتمّ بها الإسلام أشد الاهتمام، ولا نبالغ إذا قلنا أن تعاليم الإسلام في مجال العقيدة والشريعة والسلوك تدور كلها حول محور تحقيق عزّة الإنسان وكرامته. وما ذلك إلاّ لأن هذه العزّة وهذه الكرامة من الأسس الهامة للحركة الحضارية.

والفكر الإنساني حافل أيضاً بالتعبير عن هذه الحقيقة بأشكال متعددة، فالتيموس الأفلاطوني هو أساس اندفاع البشر لتطوير أوضاعهم ولكسب اعتراف الآخرين بهم كما يقول فوكوياما . وما التيموس في التحليل النهائي سوى سعي الشعوب لتحقيق عزّتها وكرامتها بين شعوب الأرض.

ولقد كان المصلحون في التاريخ الإسلامي القديم والحديث واعين على أهمية هذا المبدأ، لذلك نرى جهودهم انصبّت على إنقاذ الأمة من عوامل الإذلال وغرس روح العزّة والكرامة في النفوس، وكان لكل منهم أسلوبه الذي تقتضيه ظروفه وقراءته لتلك الظروف.

و إشارة عابرة إلى أن المحور الذي دارت حوله كل الحياة الجهادية للإمام الخميني (رضي الله عنه)، شأنه شأن كل المصلحين العظام، إنما كان لانتشال أبناء الأمة من حالة الذل والخنوع التي أراد الطواغيت أن يفرضوها على الأمة عامة وعلى الشعب الإيراني بشكل خاص، مستلهماً ذلك من روح الإسلام ومن مواقف أجداده الكرام وخاصة الإمام الحسين بن علي (ع) رائد العزّة ورائد رفض حالة الذل. ومن هنا كان الشعار الأول للثورة الإسلامية هو نفسه شعار الحسين (ع): «هيهات منّا الذلة».

واليوم يواصل مسيرة العزّة خَلَفه العبد الصالح الإمام السيد علي الخامنئي قائد الثورة الإسلامية، في توجيهاته ومواقفه العملية، وفي إعلان عام العزّة الحسينية الذي انصبّت فيه الجهود بالجمهورية الإسلامية الإيرانية لتكريس روح العزّة في الموقف الرسمي والتعامل الاجتماعي والإداري.

إعلان عزّة الإنسان هو الذي اجتذب قلوب الشعوب إلى الدين المبين، وهو الذي خلق المجموعة الحضارية الإسلامية الموحّدة التي تفاعلت في إطار حركة تكاملية معنوية ومادية وقدّمت للبشرية حضارة الإسلام.
آفاق المستقبل
لا يجوز لنا شرعاً ولاعقلاً أن نوكل أمور المستقبل إلى الغيب. بل أن نوكلها إلى أنفسنا: ) …إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ…. ، علينا أن نعتمد على أنفسنا ونتوكل على الله سبحانه، هذا أولاً.

وثانياً نحن اليوم نواجه هجوماً شرساً على الصعيد الثقافي والسياسي والعسكري والاقتصادي لصدّ أمتنا عن العودة إلى ممارسة دورها الحضاري على الساحة التاريخية. المهاجمون يبررون عملهم بأنهم يفعلون ذلك للمحافظة على مصالحهم، لأنهم يرون في نهوض المسلمين خطراً على هذه المصالح ، وقد يتظاهرون بأن هجومهم من أجل مساعدة المسلمين على تطوير أوضاعهم المتخلفة .

باسم الحرية وباسم الليبرالية يشنون علينا حرباً صرّحوا بأنها «صليبية» وأنها «مقدسة». وباسم مكافحة الإرهاب تتأهب الصهيونية والمسيحية المتصهينة لمواجهة الإسلام والعالم الإسلامي بالبطش والتخويف والإرعاب.

بينما كل الأديان الإلهية تدعو إلى «الدخول في السلم كافة» وإلى الانفتاح على الآخر واستماع قوله واتباع أحسنه، وإلى التعارف بين الشعوب والقبائل، وحوار الحضارات الذي رفع لواءه العالم الإسلامي ينطلق من صميم هذه الروح الحضارية للدين الإلهي.

الهدف الحقيقي وراء كل ممارسات القوى المتجبرة تجاهنا هو إخماد روح العزّة في نفوس أبنائنا، وفرض حالة من الذل في مشاعرنا وعقولنا.

ونحن أمام طريقين: إما أن نستسلم لحالة الإذلال هذه، أو أن نعبّئ طاقاتنا للمحافظة على أمتنا من الانهيار.

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن العالم الإسلامي بأجمعه مستهدف في عملية الإذلال هذه، وخطاب المهاجمين المخططين الاستراتيجيين منهم والسياسيين، يتحدث عن العالم الإسلامي باعتباره مجموعة حضارية واحدة. ولا بّد إذن أن تكون عملية التعبئة التي ذكرناها تشمل كل الأمة الإسلامية.

ولقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن كل المسلمين من طنجة إلى جاكارتا يشتركون في المشاعر أمام التحديات، ويشتركون في المواقف إزاء عملية الغزو الأجنبي. وهذه ظاهرة هامة يجب أن نكون جادين في أخذها بنظر الاعتبار في مشروعنا الحضاري المستقبلي.

وتعبئة الطاقات لاتكون طبعاً بالشعارات والمظاهرات واللافتات فقط بل لابدّ من خطة مدروسة يتحمل مسؤولية تنفيذها الأجهزة الرسمية والشعبية.

والأولويات المطروحة في عملية استعادة العزّة واستئناف المسيرة الحضارية في اعتقادنا هي ما يلي:
١ - إزالة الفجوة بين الرسمي والشعبي في بلادنا الإسلامية عن طريق المشاركة الجماهيرية في اتخاذ القرار، وتعميق الإحساس بالمسؤولية لدى المواطنين وثقتهم بقياداتهم.

٢ـ إزالة الخلافات بين حكومات العالم الإسلامي والاتفاق على الحد الأدنى الذي يحفظ روح الإحساس بالعزّة والكرامة لدى شعوب المنطقة، والابتعاد عن كل ما يسبب الإحباط واليأس من الحكام لدى أبناء الأمة.

٣ـ العمل المشترك على رفع المستوى العلمي للجامعات والمعاهد العلمية، وفسح المجال للعلماء والمفكرين والموهوبين لاستثمار طاقاتهم وتوفير الإمكانات اللازمة لهم في داخل بلدانهم للحيلولة دون هجرة الكفاءات والأدمغة المفكرة.

٤ - الابتعاد في أدبياتنا وإعلامنا ومناهجنا الدراسية وبرامجنا التثقيفية عن تكريس الإقليميات والذاتيات وتحويل خطابنا الثقافي والإعلامي إلى خطاب حضاري يستند إلى حقيقة الوحدة الحضارية للامة الإسلامية.

٥ - بلورة خطاب إسلامي يقوم على أساس العقل والمنطق والوسطية ويتناسب مع الذهنية العالمية المعاصرة، كي نزيل الفكرة الخاطئة التي عمل المغرضون والجاهلون والمتطرفون على تقديمها للعالم عن الإسلام والمسلمين.

٦ - وضع خطة تربوية وتثقيفية عامة للعالم الإسلامي ترتكز على نظرة الإسلام للإنسان باعتباره الموجود الذي كرمه الله وصان عزته وجعله خليفة في الأرض.

٧ - الكشف عن خطط الإذلال التي يريد أعداء الأمة فرضها على المسلمين، وخاصة ما يرتبط بخطة اغتصاب فلسطين التي تستهدف أول ما تستهدف إذلال الشعوب الإسلامية، وفهم ما يجري في العراق فهماً دقيقاً بمعزل عن مواقفنا من النظام العراقي السابق.

إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية عامة ورابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية المسؤولة عن العلاقات الثقافية بين إيران والعالم خاصة تعلن عن استعدادها في هذه الظروف العصيبة المرّة لكل عمل يدعم عزّة الأمة وكرامتها.
) … وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ…) 
 
https://taghribnews.com/vdcdfs0xxyt0n56.422y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز