تاريخ النشر2015 6 July ساعة 12:21
رقم : 196972

الإمام علي باني اُسس التعايش (2)

تنا
الرفاه ينعش التعايش، ولضمانها لابدّ من تنمية مستدامة، والحاجة والعوز تقودان إلى الخراب، والتعويل على الضرائب دون رفع الإنتاج والأرباح يضرّ بالبلاد ويهلك العباد، وكيف لا تكون النتائج كذلك ؟
الإمام علي  باني اُسس التعايش (2)
 المهندس فؤاد الصادق 
 
في الاقتصاد والتنمية والتعايش:
 يوصي  الامام علي عليه السلام: ( ثم اسبغ - أي أوسع - عليهم الأرزاق - بإعطائهم مقدار حاجاتهم في رفاه - فإن ذلك - الإسباغ - قوّة لهم على استصلاح أنفسهم - فمنْ صلح حاله لايفكّر إلا في عمله -، وغنىً لهم عن تناول ما تحت أيديهم - فلا يظلمون الناس بأخذ أموالهم، ولا المال العام -، وحجّة عليهم - أي سحباً للذرائع - إنْ خالفوا أمرك ، أو ثلموا - أي خانوا - أمانتك.)  

فالرفاه المتناسب مع الحاجة يساعد على إصلاح الفرد لحاله وذاته وتفعيل أدائه، ويحول دون ظلم الآخر وتفشّي الأحقاد.  
وهل يمكن إهمال دور الرفاه في إحياء التعايش وإنعاشه ؟  

ويضيف سلام الله عليه في هذا الاتجاه مايزيد الصورة وضوحاً:(... وإنما يوتى خراب الأرض من إعواز أهلها... )  
ولذلك يؤكّد - عليه السلام - أهمية التنمية مشدّداً على التنمية ورفع الإنتاج لدعم الميزانية العامة محذّراً من اللجوء إلى الضرائب المشروعة مشيراً إلى أخطار ذلك على البلاد والعباد بقوله:(.. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج،لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أضر بالبلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً … فإن العمران محتمل ما حملته... )

فالرفاه ينعش التعايش، ولضمانها لابدّ من تنمية مستدامة، والحاجة والعوز تقودان إلى الخراب، والتعويل على الضرائب دون رفع الإنتاج والأرباح يضرّ بالبلاد ويهلك العباد، وكيف لا تكون النتائج كذلك ؟

فحين تتوقّف التنمية، تتدنّى وتنعدم الأرباح، وتهبط فرص العمل، وترتفع البطالة، لكن دفع الضرائب المجازة متواصل، فيستمر الفقر والإفقار والبطالة، فيبدأ التذمّر بالنمو، فتختلّ التوزانات والعلاقات لتختفي فرص التعايش بين الرعية نفسها من جهة، وبين الحاكم والمحكوم.

هذه بعض الفقرات من وصية امير المؤمنين الامام علي - عليه السلام- لمالك الأشتر، والتي باتت معروفة عالمياً بالدستور العلوي، وقد أجاد حقاً المفكّر المسيحي جورج جرداق في تعليقه على هذا الدستور بقوله:(( فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا
وتجد له مثيلاً في دستور ابن أبي طالب ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد… )). 

أما الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان (السابق) فقال قبل عدة سنوات:(( قول علي ابن أبي طالب:يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية )).  
وبعد أشهر اقترح عنان أن تكون هناك مداولة قانونية حول كتاب الإمام علي إلى مالك الأشتر. اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، بعد مدارسات طويلة، طرحت هل هذا يرشح للتصويت ؟ وقد مرّت عليه مراحل ثم رُشِّح للتصويت، وصوتت عليه الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي.  
هذه فقرة من وثيقة واحدة من وثائق الإمام علي بن أبي طالب تحفة الرسول الأكرم عليهما الصلاة والسلام لأمته، وللأسرة البشرية.
 
ثلاث لقطات  

لنذكر ثلاث لقطات ترتبط بالتعايش خارج هذه الوصية، مما هو أكثر خصوصية،ويسلط الضوء على الممارسة والتطبيق في حياته عليه السلام:  
• الإمام (عليه السلام) يمشي مع النصراني إلى قاضيه، ليتحاكم كأحد الرعيه، وقاضيه يقضي عليه غير مصيب، فلا يرفض عليه السلام الحكم!  
روى ابن الأثير في التاريخ (الكامل) أن علياً (عليه السلام) وجد درعاً عند نصراني فأقبل إلى شريح قاضيه وجلس إلى جانبه يخاصم النصراني مخاصمة رجل من رعاياه، وقال: إن هذه درعي لم أبع ولم أهب، فقال للنصراني: ما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي إلا بكاذب، فالتفت شريح إلى علي (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل من بيّنة؟ قال: لا، فقضى شريح بها للنصراني، فمشى هنيئة ثم أقبل فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام النبيين، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين.كما في كتاب: بحار الأنوار ج 97 - ص 291.  
هذه القصة رويت أيضاً بشكل آخر، في الكتب الفقهية في باب القضاء.

  هلْ رأى الشرق و الغرب نموذجاً كهذا ؟  
إنها قمّة الخضوع لسيادة القانون، لاستقلال القضاء ولمساواة الجميع أمام القضاء دون تمييز بسبب الدين أو الموقع أو المسؤولية أو....  
وهلْ للتعايش طريق غير النمو والتجذّر والتأصّل في كنف ممارسات كهذه ؟  
يجيب شبلي شميلـو على السؤال المتقدم قائلاً:
 
إن علي بن أبي طالب عليه السلام إمام بني الانسان ومقتداهم،و لم ير الشرق و الغرب نموذجاً يطابقه أبداً لا في ‏الغابر و لا في الحاضر. كتاب: الإمام علي صوت العدالة الانسانية،ج 1 - ص.7.  
 
• الإمام علي - عليه السلام - قائد الدولة يعدل عن طريقه ليشايع صاحبه الذمّي:  
ورد عن الإمام جعفر الصادق حكاية عن جده أمير المؤمنين عليهما السلام: حيث صاحب ذمياً في الطريق فقال له الذمّي: أين تريد يا عبدالله؟  
قال «ع»: أُريد الكوفة، فلما عدل عن الطريق، الذمّي، عدل معه أمير المؤمنين«ع».... فقال له الذمّي:
لم عدلت معي؟  
فقال أمير المؤمنين(ع): هذا من تمام الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمر نبينا، وفيه أن الذمّي أسلم بذلك. كما في كتاب: العلاقات الاجتماعية ص: 323  
• كيف يصف الإمام علي - عليه السلام - منْ رفع السلاح ومارس الإرهاب:  
يقول الإمام محمد الباقرعليه السلام أن جده علياً عليه السلام لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: ( هم أخواننا بغوا علينا)كما في كتاب: وسائل الشيعة ج11- ص 62.  
أجلْ لمْ يجتهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في نشر ثقافة التعايش فحسب، بلْ ساهم في انشاء وبناء وصناعة وعي فردي وجمعي من أجل تعايش إيجابي مستدام ومسؤول، فكان في سلوكه الرسمي وغير الرسمي والفردي والاجتماعي وفي كلّ الظروف والأحوال آية وقدوة للتعايش ودعائمها، لينقل التعايش بمقوّماته من الرصيد المعلوماتي للبشرية إلى الرصيد المعرفي كي يترجم التعايش في السلوك والقرار.  

فأين نحن اليوم من ثقافة التعايش مع هذا الرصيد الهائل ؟  
لماذا نسقط المطلقية على الدين ؟ في الوقت الذي لايسمح الدين بالمطلقية حتى في أهم الأمور العقائدية، وأعني تحديداً:  
الإيمان، فالتعددية هي الأصل حتى في الإيمان.
 
كـيـفْ ! ؟  
ورد عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام: (( يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست على شيء.. حتى ينتهي إلى العاشرة، فلا تسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمناً فعليه جبره )).كما في كتاب: بحار الانوار ج - 66- ص- 165.  

فمنطق حصر الألوان في الأسود والأبيض مرفوض حتى فيما يرتبط بالإيمان،كما هو الإقصاء والتسقيط كذلك، حتى لو برز بعباءة الإيمان، فللتسقيط بداية بلا نهاية، ومنْ أسقَط سيُسقَط بعد حين.
 
لقد عمل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لتكريس التعايش بزرع مقوماتها مفهوماً وممارسة كالتعددية والتسامح واللاعنف والعدالة كما تقدم، فالمفاهيم هذه بلا عدالة، تبقى مفاهيم نظرية، عصية على التطبيق، ولا تتعدى عن كونها معلومة من المعلومات، وحلماً من الأحلام، لذلك نرى الإمام عليه السلام نذر نفسه الطاهرة لتكريس وتأصيل مقومات التعايش، وعلى رأس تلك المقومات العدالة، في كل خطوة، وفي جميع الاحوال والمراحل، فحوّل التعايش إلى أصل معرفي، فعبر به من دائرة الفكر، إلى دائرة القرار، ومن غربة النظرية إلى واحة الممارسة، فأمست بعدالته قادرة وفاعلة على رفد التعايش بسرّ الحياة والخلود حتى أستشهد لعدالته كما يقول الكاتب المسيحي جبران خليل جبران:( قتل علي في محراب عبادته لشدّة عدله).
 
إن اليونسكو قد تنبّهت لأهمية التعايش، ومنذ عشر سنوات فاعتبرت شعار «تعلّم للعيش مع الآخرين» أحد الأعمدة الأربعة المطلوبة في أي نظام تربوي إلى جانب الأعمدة الثلاثة الأخرى: «تعلّم لتعرف»، «تعلّم لتعمل»، «تعلّم لتكون»،
وشعار: « تعلّم العدالة لتسعد بانتعاش التعايش» أحد الأعمدة المطلوبة في أي نظام تربوي،واعتباركتاب نهج البلاغة مصدراً من مصادر النظام التربوي الدولي.
https://taghribnews.com/vdcd590fxyt0nn6.422y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز