تاريخ النشر2020 9 September ساعة 03:10
رقم : 475268
صدر حديثاً

كتاب "حين بكتك محاجر القصيد " للمفكر المغربي الدكتور ادريس هاني

تنا -خاص
على هامش ذكرى استشهاد أبي عبد الله الحسين ع صدر حديثاً كتاب "حين بكتك محاجر القصيد " للمفكر المغربي الدكتور ادريس هاني و مما جاء فيه : لا يمكن لأمة حرّة أن تنسى أحرارها وأبطالها، والحسين أيقونة التحرر لا يستثقل سماع ذكراه سوى العبيد، ذلك لأنه يوم الطّف نادى في القوم: فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون.
كتاب "حين بكتك محاجر القصيد " للمفكر المغربي الدكتور ادريس هاني
صدر حديثاً :كتاب "حين بكتك محاجر القصيد " للمفكر المغربي الدكتور ادريس هاني
عدد الصفحات 328
سنة النشر 2019
دار النشر دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع/بيروت
غلاف الكتاب غلاف ورقي
$10.00
$9.50

 في كلّ آه يربض نفس الحسين، في كلّ ثغر من ثغور الألم، في كل ملاحم العدالة الإنسانية، إن لم يكن الحسين ملح الكفاح طُرّا، فبأي آلاء ربكما تكذّبان.
- ليس لألم الحسين حدود.. يسكن في كلّ جرح .. يتدفق كشلاّل حزن عبر القصيد..وليس ذاك مما انطوى عليه الرثاء عربيّا فحسب، فالوجع الحسيني كونيّ فلا تخطئ النّظر وتستكثر على اليتامى هذا الأنين..فلو كان الحسين لهم لأحاطوه بأسوار من دموع، ولأقاموا له في كلّ صقع مدرسة للنحيب..واعلم حينئذ أن البكاء حنين لطفولة المشاعر في ذروة التمحّض والوفاء..أيتام غدوا بفقد حسين والحزن والأرق..
المفكر المغربي الدكتور هانی ادریس: نسيان الحسين...الهروب من السؤال التاريخي
على هامش ذكرى استشهاد أبي عبد الله الحسين ع   :


كان همّ يزيد وعصابته محو آثار ذاكرة موجعة استطاع الحسين أن يسدل الستار على آخر فصول الخداع فيها، هناك وفي كربلاء لم يعد مجال للرقص على ركح الزّيف، بات ما قبله ليس كما بعده، كانت أوّل انتفاضة أشعرت الرأي العام الواقع تحت توتاليتاريا يزيد الذي سخّر الكتابة التاريخية والحديث والفقه والمنابر لطمس معالم البيت الثوري في الإسلام. أطاح الحسين بيزيد وغير مجرى التّاريخ وحوّل قاتليه إلى مجرمين إلى الأبد في ذاكرة الأحرار.

وسنجد الدعوى إلى النسيان مظهرا من مظاهر الدّجل حيث شكلت بديلا عن تحريف الحدث نفسه، فإما تأويل الحدث أو نسيانه حتى لا نعكّر صفو تاريخ كتبه عبيد وجواري المتغلّب بشوكة المرتزقة وفلول الانتهازية الذين لم يخل منهم تاريخ قطّ.

لم تحسم حكاية كربلاء، إذ لا زال التاريخ والوعي يتشقلب مهما بدا من تحرره المغشوش لأنّه لا زال مدينا لهذه الثنائية المغالطة: إما تأويل الحدث بلغة الانتهازية وإمّا النسيان. لكن كيف يُنسى ما لا زال جرحا مفتوحا في جسد الوعي التّاريخي لأمّة تتناسى مأساة أبطالها وتجعل من الدعوة للنسيان رسالتها الجديدة حتى لا يبقى في التاريخ وازع للحرية والكرامة؟

ويبدو لي أنّ نسيان الحسين أو الدعوة لنسيان المأساة هو سياسة ماكرة تعزز الإفلات من العقاب. ولكن من يعاقب من يا ترى؟ حينما نتحدث بباسطة عن موضوع متصرم فذلك انزياح مغالط، لأنّ المتذكّر للمأساة يتماهى مع الحدث لكنه يعبر به في مسارات الزمن، فلقد توقف الزمن برسم هذا الصراع حتى بات كل يوم فيه ظلم هو عاشوراء وكل أرض فيها ظلم هي كربلاء، بل العقاب وموضوعه هنا نوعي يشمل كل موقف.

لو تركت الذاكرة لجدلها الطبيعي لكنا أمام إيجابية النّسيان باعتباره آلية لتعزيز قوة الحياة ورسوخها، لكن الذاكرة في عملية النسيان الطبيعي تقوم بانتقاء دقيق حيث تنسى بعضا من الحوادث وتثبت أخرى بحسب حاجة النفس إلى توازنها وكمالاتها. إن النسيان حينما يصبح تحت سياسة الخداع يصبح الانتقاء واعيا كالكذب، وحينما يستفحل الوعي الزائف بالتاريخ ويتحول إلى حقيقة راسخة تنتشر عبر مسالك الوعي واللاّوعي - 14 قرنا كافية لجعل الزيف قضية لاوعي أيضا - تصبح الدعوة للنسيان الانتقائي اللاشعوري - حين نحسن الظّن - خداعا عميقا.

وبالعودة إلى التحليل النفسي للنسيان نؤكد في نهاية المطاف مع فرويد بأننا لا ننسى إلا ما يريد اللاّشعور نسيانه، إنها محاولة الذّات للهروب والتخفيف من حدّة الصراع بين الـ( الهو) والأنا الأعلى، فالهو هو المأساة هنا والشعور البدائي الدافق الذي لا رتوش فيه بينما الأنا الأعلى هو سلطة التحريف نفسها للواقع وما يسمى بقصة الغلب والشوكة التي فسر بها ابن خلدون مأساة تتجاوز مفهوم العصبية ومقتضياتها لذا كان أوضح من مؤرخين سابقين إذ لم يفرد لها في تاريخه بابا، شكل من النسيان المنهجي الذي عبر عنه ابن خلدون أفضل تعبير لأنّه لن يستطيع حلّ إشكالية صراع بين فكرة أن العصبية لم تعد لبني هاشم وأنّ الحسين على حقّ، هذا في حين أنّ قضية الحسين تتجاوز المقاربة العصبية. لكن إن كنا سنتحدث عن النسيان ببراءة فإنّ هذا الفعل قديم حتى لما كانت القضية مفتوحة، بل إن النسيان هو خطة باء بعد فشل خطة ألف ألا وهي تأويل الحدث على نحو ما فعل مؤرخو الغُلب.

سعى المحرّفون إلى عدة خطط في تقويض خطورة الحدث: التأويل/التزييف، النسيان، الحياد إقحام الخداع الديني بتحويل المناسبة إلى ضرب من الرّقص على ذاكرة منسية وافتعال طقوس تخرجنا من الملّة إلى ملّة أخرى وتكريس شكل من الزهايمر التفافا على الذّاكرة الموجعة في يوم كان أحرى أن يكون عيد حرّية وكرامة وليس عيد فقدان الذّاكرة.

لقد كان الحياد دائما موقفا مُغالطا في التّاريخ سواء تعلق الأمر بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، لكن الحياد في حالة الحسين هو حياد إزاء المبدأ، لهذا نفهم سبب محاولاتهم الانزياح بالواقعة إلى مستوى الاختلاف السياسي ونسبية المواقف والاختلاف في الرأي.
فالهروب في كليشهات عدالة العهد الأوّل بغثّه وسمينه محاولة للهروب من ضغط الذاكرة وإمعانا في النسيان الممنهج للحركة التصحيحية، كم عدد الخرائف المستعملة في عملية الهروب من السؤال التّاريخي؟

لا يمكن لأمة حرّة أن تنسى أحرارها وأبطالها، والحسين أيقونة التحرر لا يستثقل سماع ذكراه سوى العبيد، ذلك لأنه يوم الطّف نادى في القوم: فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون. فلقد أرسى الحسين مفهوما للحرية وربطه بالقوم وبالعروبة لأنها لم تكن تعني سوى استيطان جغرافيا المروءة ولا تشير إلاّ إلى سُلالة من أنجبتهم الفحولة من العرب. فالعروبة حسينيا تعني الأحرار ذلك لأنّ القوم الذين حاربوه كانوا عربا أيضا لكنهم عبيد وأعراب .

إن كنّا سنسلّم فرضا بنسيان الحسين فما الضّامن أن تمتلئ ذاكرتكم بصور النذالة وتفاهات الماضي؟ بأي بديل امتلأت ذاكرة أهل النسيان يا ترى؟ فإن كنا ولا بدّ نريد نسيان مذبحة كربلاء فلننس بدرا وأحدا والأحزاب وحنين وما شابه، ولننس كل رمز وكل بطل وكل حرّ في التاريخ؟ لكن المشكلة - مشكلتهم- هي في المظاهر الاحتفالية التاريخية الموصولة بزخمها الجماهيري وما تشكل عبر التاريخ من تعبيرات هي بالأحرى تؤكّد على عظمة البطل وخطورة الموقف وهو أمر من شأنه أن يرقى بالأمة التي لم تنس حسينا بأنها جعلت للوفاء تاريخا موصولا لا ينقطع. ما هو الجُرم في أن نتذكّر ونستفيض في التّذكّر؟

ويبدو أن نسيان الحسين هو علامة على فضيحة ذاكرة موشومة بالإلتباس وتخشى من الاعتراف، بل إن نسيان الحسين هو عنوان انحطاط أمّة تخشى من مراجعة تأريخها المسطور وامتلاك تاريخها الواقعي، إنها لا تملك الشجاعة لمساءلة تجاربها، ولعل من مفارقاتها أنها حين أرادت ذلك على أساس الخداع استعملت العناوين الحديثة والانزياحات والمغالطات لتعيد قراءة الحدث بالمقاصد نفسها التي كتب بها تاريخ الغُلب، بل ومن مفارقاتها أنّها حاولت من داخل تاريخ الغلب وتراث القمع أن تستخرج زيف العقلانية والتحرر ومعاني الديمقراطية بأثر رَجعي ورٍجعي، وكان لنا مقام مع كلّ هذا التلوّي الثعلبي في مجال كتابة التّاريخ وتحيين مضمونه بأدوات مستحدثة خادعة.

نسيان الحسين هو أيضا علامة على مُغالطة أمّة تريد أن تنخرط في التّاريخ ودورته بميراث الغلب والعصبية لا بميراث الثورة والتحرر، كما تريد الانخراط في الأزمنة الحديثة بمنسوبها من تاريخها الخاص المزيّف، كما تريد الانخراط في الكون الحديث بتاريخ معروض غرريا كبيع مغشوش.

لا تقادم في جريمة نوعية تتعلّق بأشرف الأبطال وبالحقيقة والتّاريخ، جريمة تمس جوهر المبادئ وتدور مدار العدالة والإنصاف. تكمن الخدعة هنا في أنّ القول بتقادم الحدث النوعي يراد منه تكريس الزيف التّاريخي تحت طائلة التقادم في الجريمة، وهذا ما يجعل وعينا مغشوشا يستند إلى حجة التقادم، مع أنّ التقادم خارج تخصّصا عن موضوع الجريمة النوعية. نريد أن ننسى جريمة لكن لا ننسى ما ترتّب عنها من تزويير فأين الإنصاف وأين المصالحة على قاعدة تصحيح الوعي التّاريخي؟

قلت وكررت مرارا إنّ قضية الحسين الجوهرية هي النّار التي يخفيها دخّان المظاهر الاحتفالية بكل حمولتها من أرزنها إلى أحمقها، فالقضية الأساسية هنا هي أنّ الرتابة التاريخية يجب أن تهتز في كل ذكرى عاشوراء، فالتّاريخ القائم على النسيان هو الآخر ماكر ومُغالط وأتفه من كل ما يبدو أحيانا من حماقة في التعبير عن المأساة، وأنا أدعو إلى أنّ يكون من مظاهر الذكرى التعبير عن الانجنان بالحسين إلاّ أنّ الجنون نفسه له أكثر من تعبير ولكل عصر جنون يليق به ويكون مقنعا.

وتعظيم الشعائر مطلوب، ولئن كانت البدن من شعائر الله كما يقول أهل الكلام في المقام فالأحر أن يكون الحسين الذبيح من أعظمها، وتعظيم الشعائر يقتضي إكبارها إكبار مقنعا وفيه عظمة الإبداع والابتكار.

كيف إذن نتحدث عن النسيان في موضوع تاريخي، وهل يستقيم النسيان مع شعبة التّاريخ التي هي استذكار؟ قال العروي في ديوان السياسة: إن السياسي يخشى من المؤرخ لأنه يذكر ويتذكر، هذا كلام حكيم في مفهوم التاريخ نفسه، فالذي يدعو للنسيان هو من يخشى من التاريخ.

وما الجدوى من أن تقوم مصالحة على أساس نسيان التاريخ. وتلك دعوتي منذ زمان أمارس في حقها النسيان ما دام الغالب هو خفّة الأحكام والنزق الفكري الغالب، وأعني امتلاك الشجاعة لمباشرة تاريخ بكل تناقضاته حيث مقتضى المصالحة التصالح على مراجعات يجب اقتحامها بشجاعة يلهمنا إياها الوعي المعاصر.

لا جدوى من المماحكة، سيقول هؤلاء إنّ الأمر يتطلب واقعية سياسية كما لو أنّ الثورة ضد يزيد ليست سياسية، وسيقولون إنها الانفعال والعاطفة واللاعقلانية وكأنّ مقارعة تاريخ الغلب لا تقتضي تصالحا مع الأسطورة.

جاء من ألهمهم عنوان ميثولوجيا الحدث لكن جاء في السياق نفسه من قال إنّ النص نفسه يدور مدار منطق الأسطورة أي اعتماد المخيال آلية في التحفيز وبالتّالي المخيال في خدمة الوعي والميثوس في خدمة اللوغوس.

وقلنا أيضا حتى بححنا: لمّا صار التّاريخ صناعة الغالب وتمّ إقصاء التراث الآخر كان لا بدّ أن يستند هذا الآخر المقصي إلى المخيال الشعبي، لقد استطاعت الأسطورة أن تحمي مضمون الحقيقة التّاريخية وكان لا بدّ أن تبقى ملامح الأسطورة وآثار المخيال، هنا قامت الأسطورة بدور تاريخي ضدّ الزّيف التاريخي نفسه، علينا أن نكون دقيقين للغاية، فالأسطورة لا تعني الزيف بل تعني تحويل الحقيقة إلى رموز وإشارات قابلة للسفر في الزمن.

بهذا المعنى تكون الأسطورة هي مظهر لتاريخ محفور في بنية سوسيو-ثقافية غير قابلة للتّصرّف، وهذا ما يجعل الأسطورة في خدمة الواقع أكثر من تأريخنا، لأنّ أساطير المتغلّب تكتسب لها سلطة المعقول.

كم حاول التاريخ المزيّف أن يبتكر من صور خادعة ويتوسّل بالخيال ليزفّ لنا أيقونات مغشوشة ويحشّي ذاكرتنا بالكثير من التكرار؟ لماذا حينما نصل إلى مذبحة كربلاء تدور العيون في الرؤوس ويتفيهق الخنفشاري وتتمطّط شفاه "بني كلبون" وتبدأ كل خطط الإلتفاف على تاريخ واضح هو: أنّه في يوم ما كان يزيد رفقة قرده أبي قيس يريد إذلال الحسين، واتفق أنّ الحسين فعل كل ما في وسعه تحاشيا الموقف، ولكن الدعي ابن الدعي ركز بين السّلة والذّلة ، وحين حشرته عساكر ابن زياد قال: هيهات منا الذّلة، والمحصّلة: قُتل الحسين وبنوه، وسبيت بنات النبيّ، وقتل الطفل الرضيع، ودكّ الحسين تحت سنابك خيل ابن زياد، وقطع الشمر الرأس بينما انقض مرتزقته ليجردوا الجثة من كل شيء إلى حد قطع الأصابع لنهب الخاتم. الوجه المتوحّش لتاريخ يزفّه المؤرخ كقطعة نقية ومعصومة في تجارب النوع، كل من فيها نجم بأيهم اقتديت اهتديت، ثم قالوا: تلك أمّة قد خلت...

نخلص إلى القول أنّ نسيان الحسين هو التفاف على التاريخ وحراسة معبد الزّيف، وهو دعوى عبيد العرب الذين نادى الحسين فيهم: فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون.
وعليه، لا يوجد عقل ولا قلب في تراث الغلب وبقايا عبيده الذين يبررون مآسيه ويخفون مذابحه بعناوين تنتمي للانزياحات المُغالطة. إنّ الحديث عن تاريخ صحيح ومصادر موثوقة من دون اجتهاد ومقارنة وتحقيق هو غباء وتغابي على طريق الاستغباء. لن نكون أمّة تاريخية إذا كنّا سنلتفّ على التّاريخ بصناعة تأريخية لم تقطع مع خرافة النّسيان.

لمّا فشلت خطة النسيان وتأويل الحدث ومقولة الحياد(تلك أمة قد خلت) ومغالطة استبدال ذاكرة الوجع بتهويد الموقف الشرعي انتقلوا إلى آخر محطّة للبهتان فاختزلوا الحدث في بعده الطائفي والمذهبي كما اختزلوا مواقف أخرى في ذلك، وبالفعل استطاع الإعلام الموصول من زمن القردة النازية على المنبر المحمّدي حتى آخر فنون التضبيع الإعلامي المرويّ بأبوال البعير لتعزيز هذه الصورة النمطية الجبانة لحشر صوت الكرامة والحرية والعدالة في حزازات ضيقة، فوجد من وجد المصلحة في تكريس هذه النزعة البالية والماكرة، لكنهم وهم يخطّؤون مخالفيهم في مظاهر الحزن لم يقدموا ما به تتصالح الأمّة على تخليد يوم حزن عام على أبي الأحرار وتجعل منه جزء من ذاكرة تصالح معها أبناؤها ليخرجوا من بؤس هذا الانحشار. ماذا سيختلّ إن بات يوم الحسين عيدا للتحرر، لكن نسيان الحسين لا يمكن الإجماع عليه. قضية الحسين هي قضية الأحرار، وذاكرتنا تتّسع لكل أحرار الكون فكيف لا تتسع للحسين؟

ويبقى السؤال: ولم لا يكون النّسيان؟

تضعنا مأساة كربلاء أمام مشهد يفيض بالفروسية ويبلغ الإحساس فيه بالتحرر والكرامة منتهى ما تعززه المروءة. فأمّا ما يتعلق بالمصيبة وكيف تمّ انتهاك الحرمات فقد فاضت به الأخبار على الرغم من كل محاولات التحريف، لكن ما معنى الحسين؟

معناه الذي يزعج العبيد والقردة النازية على منابر التراث بطل جسّد كل معالم الفروسية. ما كان ليزيد وزمرته أن يحاربوا حسينا بمبارزة الأبطال بل فضّلوا الإحتشاد في عساكر أعدت بمنازلة جيش الديلم.

لقد حوّل كل هؤلاء العساكر إلى وحوش تنهش جسد الحسين كقطيع من الضّباع الضارية، ولم يقتربوا من جسده حتى أيقنوا بأنه لفظ أنفاسه الأخيرة. لقد كشف الحسين عن النذالة والانتهازية والانحطاط، كل هذا كان مخفيا في سرب من المجاملات والتظاهر.

كانت ثورة الحسين منعطفا ما عاد بالإمكان إخفاء ما تنطوي عليه جبهة النّفاق من رغبة واستعداد للجريمة. لم يعد بإمكان تاريخ أبي قيس أن يتغلّب على الوعي كما تغلّبوا على الناس، فلقد شرخ الحسين الوعي عبر التضحية واقتطع منه مساحة للحرية والكرامة وترك الباقي لسلالة أبي قيس - قرد يزيد - ومن سار في ركب تاريخ متورخ بخوار عجل السّامري.

لا يتعلق الأمر بثأر تاريخي، فالثأر تولاّه فورا سليمان بن صرد الخزاعي والمختار الثقفي وحركة التوابين، وقامت به الحركة العلوية قبل استبداد بني العباس، قام به الفاطميون والبويهيون وما لا حصر له ممن دكوا قتلة الحسين وأحفاذهم ومشاريعهم دكّا كل بحسب وعيه التاريخي ومقاصده، لكن القضية تتعلّق بالذّاكرة النّقية والفروسية العالية والتحرر الأرقى، فالحسين يحيل على الحكاية كلّها في تاريخ لم يقرأ ولم يكتب بعد.

إذا استكثرت على الحسين التضحية واعتبرت أنه لا يوجد فيها مصلحة في دنيا ولا في آخرة كما قال ابن تيمية الحرانّي فذلك لأنّ العبيد ما فتؤوا عبر التاريخ يهوّنون من ملاحم الأحرار، هوّن الحرّاني من ثورة الحسين وسلك على طريقه سرب من قطّاع طرق التراث لكنهم عادوا ليحولوا الحراني إلى أيقونة وبطل.

هؤلاء كما يفعل الكثير من أهل المقاصد الماكرة أخرجوا مفهوم الكرامة والتحرر من مقاصد الإسلام، إنهم يخشون أن يقودهم السؤال التاريخي إلى ما هو أخطر، فما هو يا ترى الأخطر في المقام؟

إنّ يزيد ممثّلا لبطانته سعى لاستكمال الثأر لقتلى شيوخه ببدر في تمثّله لأبيات ابن الزبعرى مع إضافات ثابتة من عنده:

ليت أشياخي ببدر شهدوا +++وقعة الخزرج من وقع الاسل
قد قتلنا القرن من ساداتهم +++ وعدلنا ميل بدر فاعتدل

وكان الغرض احتواء ميراث الإسلام كلّه لنزعة أرستقراطية قديمة للتملّك، وبلغ مع يزيد الذروة، فكان المخلّص هو الحسين، وفي مقتله تعبير أبعد مدى: فتشوا مرة أخرى عن الحقيقة، فلو لم يقتل الحسين لالتبس الأمر أكثر، فالمؤرخ قد يؤوّل كل شيء لصالح المتغلّب، لكن كيف يتم تأويل المقتل في مشهد يفيض بالجراح والآلام؟ ولقد قالها لهم:

     إن كان دينُ محمّدٍ لم يستقم +++ إلّا بقتلي، فيا سيوف خذيني

لم يشأ أن يكون شاهد زور، وأدرك أنّ الحقيقة انحشرت، وأنّ المستقبل سيتمحّض للسردية المتغلّبة والتاريخ تنكّر من خلال خيانة المؤرخ للأحرار فماذا عساه يفعل الحسين؟ أن يرسم في الأفق ملامح الحقيقة الضّائعة بلون الدّم وعطر الكرامة. كيف يا ترى النسيان ليوم هو الأعظم وحيث لا يوم كيومك أبا عبد الله..


\110
https://taghribnews.com/vdcb0sbawrhbz5p.kuur.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز