تاريخ النشر2019 7 March ساعة 21:55
رقم : 404246
في ذكرى مولد الامام محمد الباقر(ع)

الامام محمد الباقر (ع) باقر العلوم المحمّديّة

تنا
تحيات النبيّ صلى الله عليه وآله الى الباقر عليه السلام: ويجمع المؤرخون على أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حمّل الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الانصاري تحياته، الى سبطه الإمام الباقر، وكان جابر ينتظر ولادته بفارغ الصبر ليؤدي اليه رسالة جده، فلما ولد الإمام وصار صبياً يافعاً التقى به جابر الانصاري في كربلا عند قبر الامام الحسين (ع) فأدى اليه تحيات النبيّ صلى الله عليه وآله.
الامام محمد الباقر (ع) باقر العلوم المحمّديّة
إلى باقر العلوم المحمّديّة وسراجها الوهّاج
إلى شمس المعارف العلويّة وبحرها الموّاج
إلى قطب الدين وسيّد العالمين
إلى خامس الأئمّة الميامين
تعزف القلوب اُنشودة العشق والولاء .

الى الامام محمد الباقر (ع) في ذكرى مولده المبارك


في غرة رجب عام (57) من الهجرة، غمر بيت الرسالة الطاهر موج من السرور والبهجة، احتفاءً بميلاد محمدالباقر (عليه السلام)، الذي سبق مَن سواه من مواليد ذلك البيت العظيم، في كونه أول وليد فيه ينتهي في نسبه الى الامام علي (عليه السلام) وأمه فاطمة بنت الإمام الحسن (عليه السلام) التي وصفها الإمام الصادق (عليه السلام) بأنها صدّيقة لم تُدرَك في آل الحسن إمرأة مثلها، فهو هاشمي من هاشميين، وعلوي من علويين.

وقد صُنع الإمام الباقر (عليه السلام) على عين الرسالة الإلهيّة من خلال الجو الذي وفَّره له والده الإمام السجاد (عليه السلام)، لينهض بأعباء الإمامة الشرعيّة طبقاً لما رسم الله تعالى لعباده في الارض.ومن هنا فإن الإمام الباقر (عليه السلام) قد بلغ الذروة في السمو نسباً وفكراً، وخلقاً، مما منحه أهلية النهوض بأعباء المرجعيّة الفكريّة والاجتماعية للأمة بعد أبيه (عليه السلام).

ويبدوا أن الإمام محمدالباقر (عليه السلام) قد استأثر جدُّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر تحديد اسمه ولقبه، كما في رواية الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري (رضي الله عنه)، حيث يقول: (قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمد، يبقر علم الدين بَقْراً، فاذا لقيته، فأقرئه مني السلام»).وبناءً على ذلك لُقّب محمد بن علي بالباقر (عليه السلام)، أي المتبحر بالعلم والمستخرج لغوامضه ولبابه وأسراره، والمحيط بفنونه، وهذا المعنى تشير إليه معاجم اللغة العربية المعتبرة، ومن شاء فليراجع.
 تحيات النبيّ صلى الله عليه وآله الى الباقر عليه السلام: ويجمع المؤرخون على أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حمّل الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الانصاري تحياته، الى سبطه الإمام الباقر، وكان جابر ينتظر ولادته بفارغ الصبر ليؤدي اليه رسالة جده، فلما ولد الإمام وصار صبياً يافعاً التقى به جابر فأدى اليه تحيات النبيّ صلى الله عليه وآله.


مرّ الإمام الباقر عليه السلام بمرحلة رافقت الكثير من الأحداث والظواهر في ظلّ جده وأبيه عليهما السلام ويمكن تلخيصها بالشكل التالي : عاش الإمام الباقر عليه السلام في ظلّ جدّه الحسين عليه السلام منذ ولادته وحتى الرابعة من عمره الشريف وقد مكنه ذلك من الإطلاع على الأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية وإدراك طبيعة سيرها وفهم اتجاه حركتها بما اُوتي من ذكاء وفهم منذ صباه.

لقد عاش الإمام الباقر عليه السلام في مقتبل عمره حادثة مصرع أعمامه وأهل بيته الطاهرين وشاهد باُم عينيه ملحمة عاشوراء ومقتل جدّه الحسين عليه السلام واُخذ مأسوراً الى طواغيت الكوفة والشام وشارك سبايا أهل البيت عليهم السلام فيما جرى عليهم من المحن والمصائب الأليمة التي تتصدّع لها القلوب.

كما استمع إلى أقوال أبيه الساخنة وهو يخاطب الطاغية المتغطرس يزيد في الشام والتي كان منها قوله عليه السلام : يا يزيد! ومحمد هذا جدي أم جدّك ؟ فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدّي فِلمَ قتلت عترته ؟ ! ! ).

وعاصر الإمام الباقر عليه السلام في سنة ( 63 هـ ) واقعة الحرّة التي ثار فيها أهل المدينة على حكم يزيد وهو في السادسة من عمره الشريف، حيث شاهد نقض أكابر أهل المدينة وفقهائها لبيعة يزيد الفاجر ورأى مدينة جدّه عندما أباحها يزيد لجيشه الجاهلي ثلاثة أيّام متواليات يقتلون أهلها، وينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم.

عاصر الإمام الباقر عليه السلام في هذه المرحلة من حياته الانحرافَ الفكريَ الذي تسبب الاُمويّون في إيجاده مثل بثّهم للعقائد الباطلة كالجبر والتفويض والإرجاء خدمةً لسلطانهم; لأن هذه المفاهيم تستطيع أن تجعل الاُمة مستسلمة للحكام الطغاة ما دامت تبررّ طغيانهم وعصيانهم لأوامر الله ورسوله .

ومن الظواهر التي عاصرها الإمام محمّد الباقر عليه السلام وهو في ظلّ أبيه السجّاد عليه السلام ظاهرة الانحراف السياسي وتتمثل في تحويل الاُمويين للخلافة إلى ملك عضوض يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويوزّعون فيه المناصب الحكومية على ذويهم وأقاربهم .

لقد عاش عليه السلام محنة عداء الاُمويين للعلويين والذي تمثل في ظاهرة سبّهم لجدّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر طيلة ستة عقود.

ومن الأحداث البارزة في حياة الإمام الباقر عليه السلام توالي الثورات المسلحة ضد الحكم الاُموي بعد واقعة كربلاء الخالدة.

ففي سنة ( 63 هـ ) ثار أهل المدينة في سنة ( 65 هـ ) ثار التوابون ، وفي سنة ( 66 هـ ) ثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وثار الزبيريون، وفي سنة ( 77 هـ ) ثار المطرّف بن المغيرة بن شعبة، وفي سنة ( 81 هـ ) تمرّد عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على حكومة عبد الملك بن مروان.

وانتشرت في هذه الفترة ظاهرة وضع الحديث المؤلمة فقد ركّز الاُمويون على هذه الأداة لخدمة سلطانهم .

أما الانحراف الأخلاقي والاجتماعي فقد استشرى في أوساط الاُمة حيث اشتهر يزيد بن معاوية بفسقه إذ كان يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والقرود ويقضي أوقاته بين المغنّين والمغنّيات وشاع عنه ذلك وعرفه عامّة الناس.

وعاش الإمام الباقر عليه السلام في هذه المرحلة من حياته في ظلّ سيرة أبيه عليه السلام بكل وجوده الذي كان يركز نشاطه على إعادة بناء المجتمع الإسلامي وتشييد دعائم العقيدة الاسلامية القويمة، حيث كان يحاول الإمام زين العابدين عليه السلام من خلال بثّ القيم العقائدية والأخلاقية عبر الأدعية وتوجيه رسائل الحقوق وما شابه ذلك صياغة كيان الجماعة الصالحة التي كان عليها أن تتولى عمليّة التغيير في المجتمع الذي راح يتردّى باستمرار.

وكان يشارك أباه السجّاد عليه السلام في أهدافه وخطواته وأساليبه المتعددة في المرحلة التي استغرقت ثلاثة وثلاثين عاماً والتي تمثّلت في الدعاء والانفاق والعتق والتربية المباشرة للرقيق والأحرار باعتبارها نشاطاً بارزاً للإمام زين العابدين عليه السلام خلال هذه المرحلة .

وقف الإمام الباقر عليه السلام مواقف أبيه من الثورات والحركات المسلحة التي كانت تهدف إلى إسقاط النظام الفاسد إذ كان يرشدها ويقودها بصورة غير مباشرة من دون أن يعطي للحكام أي دليل يدل على التنسيق من الإمام عليه السلام مع الثوّار ضد الحكم الاُموي الغاشم.

وكان للإمام الباقر دور بارز وهو في ظلّ أبيه في حركته لتأسيس صرح العلم والمعرفة الاسلامية حيث كان يحضر المحافل العامة ليحدّث الناس ويرشدهم، كما كان يفسّر القرآن ويعلّم الناس الأحاديث النبويّة الشريفة ويثقّفهم بالسيرة النبويّة المباركة .

ان التنصيص من الإمام السجّاد عليه السلام على إمامة ابنه الباقر يعود تأريخياً الى النصوص التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده ونصّت على إمامة اثني عشر إماماً بعد رسول الله كلهم من قريش وبني هاشم، وتداولها الصحابة والتابعون واستند اليها أهل البيت عليهم السلام.

ومن تلك النصوص التي ورد فيها اسم الإمام الباقر عليه السلام بشكل خاص هو النص الذي رواه جابر بن عبدالله الأنصاري وقد جاء في هذا النص ما يلي: «...فقال: يا رسول الله وَمَنْ الائمة من ولد علي بن أبي طالب؟ قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم سيد العابدين في زمانه عليّ بن الحسين، ثم الباقر محمد بن عليّ وستدركه يا جابر، فاذا أدركته فاقرأه منّي السلام». 

وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يوجّه الانظار الى امامة ابنه الباقر عليه السلام، ويستثمر الفرص لإعلانها أمام أبنائه أو بعض أبنائه أو خاصّته وثقاته، يصرّح تارة بها ويلمّح إليها تارة اُخرى.

فحينما سأله ابنه عمر عن سرّ اهتمامه بالباقر عليهما السلام أجابه: «انّ الإمامة في ولده الى أن يقوم قائمنا عليه السلام فيملأها قسطاً وعدلاً، وانه الإمام أبو الأئمة...».

وعن الحسين ابن الإمام زين العابدين عليهما السلام قال: سأل رجل أبي عليه السلام عن الائمة ، فقال: «اثنا عشر سبعة من صلب هذا، ووضع يده على كتف أخي محمد».

وكان يصرّح لابنه الباقر عليهما السلام بامامته ويقول له: « يا بنيّ انّي جعلتك خليفتي من بعدي».
وروي عن أبي خالد أ نّه قال: قلت لعليّ بن الحسين: من الإمام بعدك ؟ قال: « محمّد ابني يبقر العلم بقراً».

وفي مرضه الذي توفي فيه سأله الزهري قائلاً: فإلى من نختلف بعدك؟ فأجاب عليه السلام: «يا أبا عبد الله الى ابني هذا ـ وأشار الى محمد ابنه ـ انه وصيّي ووارثي وعيبة علمي ومعدن العلم وباقر العلم»، فقال له الزهري: يا ابن رسول الله هلاّ أوصيت إلى أكبر اولادك؟ فقال عليه السلام: «يا أبا عبد الله ليست الامامة بالصغر والكبر، هكذا عهد الينا رسول الله صلى الله عليه وآله وهكذا وجدنا مكتوباً في اللوح والصحيفة».

وفي أيامه الأخيرة جمع الإمام زين العابدين عليه السلام أولاده: محمد والحسن وعبد الله وعمر وزيد والحسين، وأوصى الى ابنه محمد... وجعل أمرهم اليه.

وفي الساعات الأخيرة من حياته التفت عليه السلام الى ولده وهم مجتمعون عنده، ثم التفت الى ابنه الباقر عليه السلام فقال: « يا محمد هذا الصندوق اذهب به الى بيتك ». اما أنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكن كان مملوءاً علماً.


الامام محمد بن علي الباقر عليهما السلام في سطور

محمّد بن الإمام عليّ السجّاد زين العابدين ، حفيد السبط الشهيد الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم.

كنيته
أبو جعفر ، كُنّي بولده الإمام جعفر الصادق عليه السّلام. وقد يقال : أبو جعفر الأوّل ، تمييزاً عن الإمام الجواد عليه السّلام الذي يكنّى : أبا جعفر الثاني. أمّا إذا اُطلقت الكنية فيُقصد بها الإمام الباقر عليه السّلام.

ألقابه
أشهرها « الباقر » ، قيل : لتبقّره في العلم ، أي توسّعه فيه. أو لتبحّره فيه ، أو لشقّه للعلم حيث بقرَه فعرف أصله واستنبط فرعه. وقيل : لُقّب بالباقر لغزارة علمه ، وبذلك لقّبه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، مُخبِراً جابر بن عبدالله الأنصاريّ ، وباعثاً إليه سلامه.
أمّا ألقابه الأُخرى فهي : الشاكر لله ، والهادي ، والأمين ، والشبيه؛ إذ كان عليه السّلام يشبه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فهو ربع القامة رقيق البشرة ، ضامر الكشح ، حسن الصوت.

وُلد يوم الجمعة وقيل : السبت أو الاثنين أو الثلاثاء غرّة رجب ، أيّ أوّل يوم منه سنة سبع وخمسين من هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وهو الأشهر ، وقيل : سنة ستٍّ وخمسين ، أو ثمانٍ وخمسين.

وكان مولده المبارك في دار أبيه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام ، في مدينة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم.


 
يقول ابن منظور: التبقر: التوسع في العلم والمال، وكان يقال لمحمد بن علي بن الحسين بن علي الباقر (رضوان الله عليهم)، لأنه بقر العلم وعرف أصله، واستنبط فرعه وتبقر في العلم.. . .
ويقول الفيروز آبادي: والباقر محمد بن علي بن الحسين لتبحره في العلم...

وقال ابن حجر: وارث علي بن الحسين من ولده، عبادة وعلماً وزهادة: أبو جعفر محمد الباقر، سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وآثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه، وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة وكفاه شرفاً أن ابن المديني روى عن جابر أنه قال له ـ وهو صغير ـ: رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يسلم عليك فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً عنده والحسين في حجره، وهو يداعبه فقال: يا جابر يولد له مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده ثم يولد له مولود اسمه محمد فإن أدركته يا جابر فأقرأه مني السلام .

وقال سبط ابن الجوزي:
روى عنه الأئمة: أبو حنيفة وغيره، قال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة:

(لقيت محمد الباقر؟ فقال: نعم، وسألته يوماً فقلت له: أأراد الله المعاصي؟ فقال: أفيعصى قهراً؟ قال أبو حنيفة: فما رأيت جواباً أفحم منه. وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر لقد رأيت الحكم عنده كأنه مغلوب ويعني بالحكم الحكم بن عيينة، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه ...

قال شمس الدين محمد بن طولون: أبو جعفر محمد بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الملقّب بالباقر، وهو والد جعفر الصادق رضي الله عنهما، كان الباقر عالماً، سيداً كبيراً، وإنما قيل له الباقر لأنه تبقّر في العلم، أي توسّع، والتبقير التوسيع،

وفيه يقول الشاعر:
                                   يا باقر العلم لأهل التقى***وخير من لبّى على الأجبُل..


قال علي بن محمد بن أحمد المالكي ـ المعروف بابن الصباغ ـ : وكان محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) مع ما هو عليه من العلم والفضل والسؤدد والرياسة والإمامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، ومشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله .

واجتمعت فيه صفات ومزايا فريدة، فكان الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه وأنه ليذكر الله (عز وجل) وأكل معه الطعام ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله عن ذكر الله... وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس".

قال له الأبرش الكلبي: أنت ابن رسول الله حقاً. ثم صار إلى هشام فقال: دَعُونا منكم يا بني أمية، إن هذا أعلم أهل الأرض بما في السماء والأرض، فهذا ولد رسول الله .

كتب عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة: ابعث إليّ محمد بن علي مقيّداً.
فكتب إليه العامل: ليس كتابي هذا خلافاً عليك يا أمير المؤمنين، ولا ردّاً لأمرك، ولكن رأيت أن اُراجعك في الكتاب نصيحة لك، وشفقة عليك. إنّ الرجل الذي أردته ليس اليوم على وجه الأرض أعفّ منه ولا أزهد ولا أورع منه، وإنّه من أعلم الناس، وأرقّ الناس، وأشدّ الناس اجتهاداً وعبادة،وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له فـ (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم). فَسُرّ عبد الملك بما أنهى إليه الوالي وعلم أنّه قد نصحه.

قال الحكم بن عتيبة في قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين): كان والله محمد بن علي منهم.

في عصر الإمام الباقر (عليه السلام) كانت الحياة الثقافية في مرحلة جمود من قبل الحكم والسياسة الاموية وبسبب ابتعاد الناس عن الأخلاق النبيلة والمثل العليا التي جاء بها الإسلام، فقد كانت السياسة الأموية العامل الأكبر في إثارة الخلافات العشائرية، وتقسيم المجتمع إلى نزاري وقحطاني، يريدون بذلك أن ينسوه الإسلام رسالة الوحدة والعزة؛ وان اكرمكم عند الله اتقاكم .

وكان لسانهم الناطق في عصر الإمام الباقر (عليه السلام) عدة شعراء مخلصين منهم كثير عزة والسيد الحميري والكميت بن زيد الأسدي يقول كثير:
ولاة الــــــحــــــق أربــــــعة سواء ألا إن الأئــــــــــــــمة من قريــــش
هــم الأســــــباط ليـــس بهم خفاء علـــــــــي والــــثلاثة من بنـــــــيه
وســـــــــــبط غيَّبــــــــته كـــربلاء فـــــــــــــسبط ســبط إيمـــــان وبرٍّ
يقــــــــــــود الخيــل يقدمها اللواء وسبــــــــط لا تـــــــراه العين حــيّ
يرضون عنده عسل ومــاء  . تغــــــيب لا يُـــــــــرى فيهم زمــاناً

والحق يقال أن الكميت كان المحامي الذلق المتمكن بالحجة المفخمة وهو كما قال شوقي ضيف: (طرفة نفيسة من طرف العصر الأموي ولون أدبي جديد في تاريخ الأدب العربي)

مع العالم النصراني

لمّا كان الإمام محمد الباقر (ع) في الشام، التقى بنفر من النصارى كانوا متوجّهين لزيارة كبير علمائهم، وذلك بمناسبة أحد أعيادهم، فسار معهم.. وكان النصارى يعيشون في كنف الإسلام أحراراً، يمارسون طقوسهم وعباداتهم كيفما شاؤوا.

دخل الإمام الباقر (ع) على العالم النصرانيّ، وهو قسّيس كبير، ولمّا استقرّ به المجلس نظر إليه العالم وسأله وهو لا يعرفه:
منّا أنت، أم من الأمّة المرحومة؟
فأجابه (ع): من الأمّة المرحومة.
فسأله: من علمائها أم من جّهالها؟
فأجابه: لست من جهّالها.
سأل العالم: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة؛ فتأكلون وتشربون ولا تحدثون؟
قال الإمام : نعم. قال: هات برهاناً على هذا.
قال الإمام: نعم، الجنين يأكل في بطن أمّه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يحدث.
فبهر العالم وقال: ألست زعمت أنّك لست من علمائها؟
فأجابه الإمام: إنّما قلت: لست من جهّالها.

واستمرّ الأخذ والرّد بينهما طويلاً، حتّى أفحم العالم، وأسقط في يده. فصاح بأصحابه مغضباً: والله لا أكلّمكم، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً.
فقد توهّم أنّهم عمدوا إلى إدخال الإمام عليه، لإفحامه وإظهار عجزه.

وانتشرت قصّة الإمام مع العالم المسيحيّ في دمشق، وعرف الناس قدر الإمام الباقر عليه السلام، وإحاطته بشتّى العلوم والمعارف.

ووصلت القصة إلى مسامع هشام. وميلاً منه إلى مضايقة الإمام؛ أرسل مبعوثين إلى المدن الواقعة على الطريق إلى يثرب، فنشروا أكاذيب مؤدّاها أن ابن علي بن الحسين قد دخل ديراً للنصارى، وأنّه مال إلى شريعتهم.. وصاروا يحرّضون الناس على مقاطعته؛ فلا يحدّثوه ولا يبايعوه، ولا يستضيفوه في بيوتهم، وأمروهم فوق ذلك أن يغلقوا الأبواب في وجهه..
 
خرجت قافلة الإماممحمد الباقر(ع) من دمشق في طريقها إلى المدينة، حتى وصلت إلى بلدة كبيرة، وكان الإمام ومرافقوه على قدرٍ كبير من التعب والعطش، فحطّوا رحالهم قرب البلدة للتزوّد بالماء والطعام قبل أن يتابعوا طريقهم، لكنّ أهل البلدة أغلقوا أبوابها في وجوههم.. والناس أخيراً على دين ملوكهم..

كان أفراد القافلة قد أتوا على كلّ ما معهم من ماءٍ وزادٍ، وقد أغلقت دونهم الأبواب. فحاروا في أمرهم..

اعتلى الإمام عليه السلام صخرةً هناك، وراح يتحدّث إلى أهل المدينة، وينصحهم بصبر ولينٍ، لكنّهم لم يستمعوا إليه، وأصرّوا بعنادٍ على موقفهم، ولمّا يئس منهم رفع صوته عالياً. وراح يتلو آيات العذاب، التي تلاها النبي شعيب على قومه، وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم. وإلى مدين أخاهم شعيباً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، إنّي أراكم بخير، وإنّي أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ".
ثم قال: يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقيّة الله..».

فما أتمّ كلامه حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة، ونادى أهل قريته قائلاً: يا قوم، هذه والله دعوة شعيب، فاخشوا ربكم وافتحوا الأبواب أمام هذا الرجل الربّانيّ، فإن لم تفعلوا نزل بكم العذاب. يا قوم، إنّي أخاف عليكم، وإنّي لكم ناصح فاستمعوا..

خاف الناس من تحذير هذا الرجل الحكيم، وقد أدركوا أنّهم يخطون نحو العذاب، لأنّهم يقفون في وجه ابن نبيّهم، لا لشيءٍ إلاّ لينالوا رضى هشام.. فبادروا إلى الأبواب وفتحوها، وراحوا يلتمسون من الإمام العفو والغفران.

كان عصر الإمام الباقر عليه السلام، من أدقّ العصور الإسلامية، وأكثرها حساسيةً، فقد نشأ فيه الكثير من الفرق الإسلاميّة، وتصارعت فيه الأحزاب السياسيّة، كما عمّت الناس ردّه قويّة إلى الجاهلية وأمراضها، فعادوا إلى الفخر بالآباء والأنساب، ممّا أثار العصبيّات القبليّة، وعادت الصراعات القبلية إلى الظهور، وهذا ما شجّع عليه حكام بني أميّة، كما انتشرت مظاهر التّرف واللهو والغناء، والثراء الفاحش غير المشروع.

تصدّى الإمام الباقر عليه السلام لكلّ هذه الانحرافات، فأقام مجالس الوعظ والإرشاد، كي يحفظ لدين جدّه نقاءه وصفاءه.

كما تصدّى عليه السلام للفرق المنحرفة، فاهتمّ برعاية مدرسة «أهل البيت» التي أنشأها جدّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم من بعده الأئمة الأطهار من ولده. وقد التفّ حول الإمام الباقر علماء كثيرون، نهلوا من صافي علومه ومعارفه في الفقه والعقيدة والتفسير وعلوم الكلام.

وبعد عمر قضاه في الدعوة إلى الله، ونشر العلوم والمعارف، كما قضاه في مقارعة البغي والظلم والانحراف عن الدّين؛ دسّت له السمّ يد أثيمة، لا عهد لها بالله ولا باليوم الآخر، يد من أيدي أعدائه بني أميّة، الذين خافوا منه سموّ خلقه، وعظيم تقواه، ورفعة منزلته، والتفاف الناس من حوله.

وانطوت باستشهاد باقر علوم الأوّلين والآخرين، صفحة رائعة من صفحات الرسالة الإسلامية، أمدّت المجتمع الإسلاميّ بعناصر الوعي والتطوّر والازدهار. 


                      



اعداد وتدوين
علي اكبر بامشاد





 
https://taghribnews.com/vdcjxxexmuqey8z.3ffu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز