تاريخ النشر2011 2 February ساعة 17:38
رقم : 38498
الحضارة الاسلامية

العقلية الإسلامية من تسامٍ في الفكر والإبداع

وكالة انباء التقريب تنا
الإبداع جمع بين الناحية العمليَّة والناحية الجماليَّة
العقلية الإسلامية من تسامٍ في الفكر والإبداع
لم تكن مهارة المسلمين في العلوم التقنية تقف عند حَدِّ إقامة المساجد والمآذن والقباب، والقناطر والسدود، وغيرها فقط، وإنما كان هناك أيضا ذلك الإبداع الذي ظهر فيه الحسُّ الجمالي للعالِمِ المسلم، وبرزت فيه أيضا مقدرته على تسخير ذلك التنوع من العلوم، لتحقيق الراحة وإدخال البهجة والسعادة على القلب·
?لقد أبدع علماء الحضارة الإسلامية عددا من الاختراعات الميكانيكية الصعبة، تلك التي تُؤَدِّي دورها، لكن الصانع الماهر لم يكتف بهذا بل أضاف إليها ما يجعلها تُؤَدِّي معه دوراً جمالياً آخر لا يَقِلُّ عن سابقه، ومن أبرز أمثلة ذلك الساعات··

الساعات ذكر ابن كثير أنَّ أحد أبواب جامع دمشق كان يُسمَّى باب الساعات، لأنه عُمل فيها الساعات التي اخترعها الساعاتي المهندس محمد بن علي والد فخر الدين رضوان بن الساعاتي، وكان يُعْلَمُ بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها عصافير وحَيَّة من نحاس وغراب، فإذا تمَّت الساعة خرجت الحيَّة فَصَفَّرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطستِ، فَيَعْلَمُ الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة· وكان لابن الجزري ساعة مماثلة أيضاً·

وفي وصف هذه الساعة يقول ابن جبير أيضاً: <وعن يمين الخارج من باب جيرون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفةٌ، ولها هيئة طاقٍ كبير مستدير فيه طِيقان صُفْر قد فُتِّحَتْ أبواباً صغارا على عَدَدِ ساعات النهار، ودُبِّرَتْ تدبيراً هندسيًّا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فَمَيْ بازِيَيْنِ مُصَوَّرَيْنِ من صُفْر، قائمين على طَاسْتَيْنِ من صفر تحت كل واحد منهما؛ أحدهما تحت أوَّل باب من تلك الأبواب، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازِيين يمدَّان أعناقَهما بالبندقتين إلى الطاستين، ويقذفانهما بسرعة، بتدبيرٍ عجيب تتخيَّله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يُسْمع لهما دويٌّ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بِلَوْحٍ من الصفر، لا يزال كذلك عند كلِّ انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلُّها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول·

ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أنَّ في القوس المنعطِف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرَّمة، وتعترض في كلِّ دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مُدَبّر ذلك كلّه منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمَّ الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعُها، فَلاَحَتْ للأبصار دائرة محمرَّة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمرُّ الدوائر كلها، وقد وُكِّل بها في الغرفة متفقِّدٌ لحالها، دَرِبٌ بشأنها وانتقالها، يُعِيدُ فتح الأبواب وصَرْفَ الصنج موضعها، وهي التي يُسَمِّيها الناس المِنْجَانة>·

هذا، وقد أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي، حوالى سنة ۸۰۷م) هديةً عجيبةً إلى صديقه شارلمان ملك الفرنجة (فرنسا)، <وكانت الهديةُ عبارةً عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة، تتحرَّك بواسطة قوَّة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عددٌ مُعَيَّنٌ من الكرات المعدنية بعضها إثْرَ بعضٍ، بعددِ الساعات فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فيُسْمَعُ لها رنين موسيقيٌّ، يُسمَع دويُّه في أنحاء القصر، وفي نفس الوقت يُفتح بابٌ من الأبواب الاثني عشر المؤدِّية إلى داخل الساعة، ويَخرج منها فارسٌ يدور حول الساعة، ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسًا مرةً واحدةً، ويدورون دورةً كاملةً ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتُغْلَقُ خلفهم>·

وهذا هو الوصف الذي جاء في المراجع الأجنبية والعربية عن تلك الساعة التي كانت تُعَدُّ وقتئذٍ أعجوبةَ الفنِّ، وأثارت دهشة المَلِكِ وحاشيته، ولكنَّ رهبان القصر اعتقدوا أنَّ في داخل الساعةِ شيطاناً يُحَرِّكها، فتربَّصُوا به ليلاً، وأحضروا البُلَط وانهالوا عليها تحطيماً، إلاَّ أنهم لم يجدوا بداخلها شيئاً· وتُوَاصل مراجع التاريخ الرواية فتقول: إنَّ العرب قد وصلوا في تطويرِ هذا النوع من الآلاتِ إلى قياس الزمن؛ بحيث إنه في عهد الخليفة المأمون أهدَى إلى ملك فرنسا ساعةً أكثرَ تطورا، تُدارُ بالقوَّة الميكانيكية بواسطة أثقالٍ حديديةٍ معلَّقة بسلاسل؛ وذلك بدلاً من القوَّة المائية·

وإن هذا ليعني -في بعض ما يعنيه - مدى ما وصلتْ إليه العقلية الإسلامية من تسامٍ في الفكر والإبداع، ذلك الإبداع الذي لم يفصل بين الناحية العمليَّة والناحية الجماليَّة للابتكارات والاختراعات العلميَّة·


https://taghribnews.com/vdcdjo0s.yt0jn6242y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز