تاريخ النشر2022 15 September ساعة 21:36
رقم : 565657

أولويّاتٌ في التبليغ الديني المعاصر - القسم الاخير

تنا
 إنّ العمل الديني والتبليغي ليس ماكينة انتخابيّة، لكن للأسف أصبح التبليغ اليوم عند بعضٍ مثل الانتخابات، فباتت كثرة الجمهور مؤشّراً على جودة العمل التبليغي، مع أنّ صحة ما نقول ليس بعدد الذين ينتصرون لنا، ولا بعدد الذين يحضرون في محاضراتنا وخطبنا، إنّما المعيار هو التوازن في الأسلوب والمضمون الذي أقدّمه .
أولويّاتٌ في التبليغ الديني المعاصر - القسم الاخير
حيدر حبّ الله
تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا


المبرّر الآخر لعدم التضحية بالدين لأجل الناس، هو أنّ صحّة القضية ليس بعدد المنتصرين لها، بل لقد كان أصحاب الحقّ عبر التاريخ في كثيرٍ من الأحيان ثلّة قليلة، فأصحاب نوح كانوا هم القلّة، حيث قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ومَنْ آمَنَ ومَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ (الهود: ۴۰)، وكذلك يصرّح القرآن الكريم في قضيّة اختبار داود× أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات قليلون، حيث قال عزّ وجلّ: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وقَلِيلٌ مَا هُمْ وظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعاً وأَنَابَ﴾ (ص: ۲۴).
 
لكن للأسف الشديد، بعض الأشخاص ـ وهم يمارسون حركة دينيّة دعويّة إلى الله سبحانه وتعالى ـ عندما يشعر بأنّ عدد المستجيبين له قليل أو الناس لا تستجيب أو يرى كثرة النقد على الدين أو أنّ الناس لم تعد تستمع.. فهو يقدّم بعض العروض، مثل البيع والشراء والتجارة، عروضاً تخفيفيّة؛ ليخفّف من السعر، حتى يجلب أكبر عدد من الزبائن ويلمّع صورة السلعة أمامهم!
 
عندما تتعامل مع القضيّة الدينيّة في نشاطك الدعوي بمنطق العروض التجاريّة، فسوف تلحق الضرر بالدين نفسه، ولهذا علينا أن نتوازن، لا نُلحق الضرر بالناس ونحسب ذلك على الدين، كما لا نلحق الضرر بالدين ظانّين أنّنا بذلك نخدم الناس بهدايتهم له.
 
إنّ العمل الديني والتبليغي ليس ماكينة انتخابيّة، لكن للأسف أصبح التبليغ اليوم عند بعضٍ مثل الانتخابات، فباتت كثرة الجمهور مؤشّراً على جودة العمل التبليغي، مع أنّ صحة ما نقول ليس بعدد الذين ينتصرون لنا، ولا بعدد الذين يحضرون في محاضراتنا وخطبنا، إنّما المعيار هو التوازن في الأسلوب والمضمون الذي أقدّمه، فإذا لم يقبل الناس بعد ذلك فلا يهمّ أبداً، إنّما المهمّ أنّني لم أقصّر في تقديم صيغة دعويّة تبليغيّة ناجحة في ذاتها، وأمّا الباقي فإلى الله سبحانه وعليه.
 
من جانب آخر، يتلمّس بعض الناس في زماننا الرخصة في أيّ مكان، وهناك بحث في الفقه السني تحت عنوان "تلمّس الرخص"، وقد طرحه بعض علماء الإماميّة مثل الشيخ محمّد مهدي شمس الدين (۲۰۰۱م). لقد كان هذا الموضوع موجوداً حتى في القرن الهجري الأوّل، حيث توجد نصوص تُنسب لبعض الصحابة والتابعين في النصف الثاني من القرن الهجري الأوّل، تتكلّم عن هذه الظاهرة، وأنّ بعض الناس كانوا يتلمّسون الرخص، رخصةً من هنا وأخرى من هناك، وما ينتج عن ذلك هو دين الرخصة. هذا النوع من التماس الرخص قد يؤدّي إلى الأمن من مكر الله.
 
التماس الرخص بهذه الطريقة العشوائيّة يؤدّي إلى نوع من تلاشي الهويّة الدينيّة، لا نقول: لا يلتمس الإنسان الرخصة في حالة حرج أو لفضّ مشكلة أو لحلّ أزمةٍ مّا، ما دامت الرخصة وجهة نظر شرعيّة، لكن أن يعيش الناس أو أن نربّيهم دوماً ـ كما يفعل بعضهم ـ على التماس رخصةٍ ومفرّ من
الالتزام الديني، فهذا ما سيؤدّي على المدى البعيد إلى عدم شعورهم بدرجة عالية من تحمّل المسؤوليّة الدينيّة وصعوبة رفع مستوى قدرتهم على التحمّل، وهو ما يحمل خطراً تربويّاً.
 
والنتيجة: إنّ من مصاديق أمن الناس من مكر الله، تلمّس الرخص بطريقة شاذّة لا بطريقة موضوعيّة.

ب ـ جعل الهويّة والانتماء معياراً للخلاص
ثمّة وجهٌ آخر لأمن الناس من مكر الله سبحانه، وكثيرٌ من المسلمين مبتلى به في زماننا بما يؤدّي للزهد في العمل الصالح، ألا وهو جعل الانتماء والهويّة ـ دون العمل ـ معياراً للخلاص.
 
في كلّ فترة زمنيّة تُجعل فيها هويّة الإنسان وانتماءه معياراً للخلاص وليس عمله وأداءه، فأبشر بترك الناس للعمل الصالح، وأمنهم من مكر الله، وهذا من الموضوعات الطويلة، لا أريد أن أخوض فيه الساعة، لكن لتقريب الفكرة، أشير إلى مسألة "الشفاعة"، فعندما نقدّم للناس مفهوم الشفاعة بطريقةٍ انتمائية محضة خاطئة، فسوف نزهّدهم من العمل تلقائيّاً، وإلا فسوف نقدّم خطاباً متناقضاً. عندما نقول مثلا: إنّ المسلمين بأجمعهم يدخلون الجنّة يوم القيامة بشفاعة نبيّهم محمد‘، فلا يرى المسلم حاجة إلى العمل الصالح؛ لأنّه مهما فعل سوف يدخل الجنّة بشفاعة نبيّه ولو فعل ما فعل من المعاصي! إنّ هذا الخطاب يزهّد الناس بالعمل ويؤمّنهم مكر الله تعالى.
 
هذا لا يعني إنكار الشفاعة، بل يتضمّن تخطئة تفسيرها بهذه الطريقة، وإلا فهناك تفاسير أخرى للشفاعة لا تؤدّي إلى ذلك، مثل أن نقول: إنّ النبي‘ وأهل بيته^ يشفعون لك إذا تعثّرت خطواتك وأنت تسير في طريق الحقّ، فيشفع لك تعثّر خطوة هنا، وأخرى هناك، ويسامحك الله سبحانه بشفاعة الشفعاء؛ حيث زلّت قدمك هنا أو هناك وأنت في طريق العمل. لكن للأسف الشديد تُقدَّم الشفاعة في بعض الصيغ الخطابية والدعويّة بما يركّز الزهد في العمل، وكأنّك بمجرّد أن وفّقك الله أن خلقك من أبوين مسلمين فإنّ الموضوع قد انتهى!
 
عندما نركّز على أنّ الخلاص مرهونٌ بالانتماء، وليس مرهوناً ـ مثلاً ـ بضمّ الانتماء إلى العمل، فنحن في حقيقة الأمر ومن الناحيّة الميدانيّة نؤمن الناس من مكر الله، وندفعهم إلى الزهد في قيمة العمل الصالح، وهذه قضيّة مهمّة جداً.
 
ج ـ تفريغ الأعمال من موقعها في سلّم الهرم الأولويّ في الدين
الوجه الآخر لتزهيد الناس بالعمل الصالح، هو عدم المحافظة على خصوصيات الأعمال الصالحة بنسبة خلوص النيّة والعناء الذي يكون فيها، الأمر الذي يؤدّي إلى عدم مراعاة رتب الأعمال، فيزهد الناس بأداء التكاليف الصعبة؛ إذ يرى الشخصُ أنّه بإمكانه أن يحصل على ثوابٍ موازٍ لأصعب الأعمال بمجرّد قيامه بأعمال بسيطة جداً، فلماذا يُتعب نفسه ليجاهد في سبيل الله، مع أنّه يستطيع أن يحصل على ثواب ذلك المجاهد الذي استشهد في سبيل الله، بقراءة سورة من القرآن مثلاً؟!
 
قد يقدّم المبلّغ أحياناً بعض الأعمال البسيطة على أنّها تساوي أو تزيد على الجهاد في سبيل الله مثلاً، فكيف يمكن أن نصدّق بأنّ الإنسان يستطيع أن يحصل على ثواب ذاك المجاهد الذي ناضل مخلصاً لله عشرين أو ثلاثين سنة بعيداً عن أهله وعياله متحمّلاً المشاق والضنك، بمجرّد أن يقرأ سورةً من القرآن الكريم أو أن يفعل أحد الأعمال البسيطة جدّاً؟! عندما نروّج بين الناس مثل هذه الثقافة التي لا تحافظ على خصوصيّات الأعمال بنسبة الجهد والعطاء وخلوص النيّة والعناء الذي يكون فيها، فنحن في حقيقة الأمر نقول للناس: انتقوا الأعمال البسيطة ولا حاجة أن تُتعب نفسك بالأعمال الجادّة في وقت التحدّي، إنّ بإمكانك أن تعمل عملاً بسيطاً وتأخذ أجر ذلك العمل الجادّ، وهذا نوع من التزهيد بالأعمال الجادّة كالجهاد والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، ومجاهدة النفس، والقرآن الكريم ينادي بأعلى صوته: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: ۲۱۴)، ويقول: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: ۱۴۲).
 
لا أريد أن أنكر وجود مثل هذه النصوص في التراث الإسلامي عموماً، لكن أعتقد من الضروري أن نعيد النظر فيها على مستوى الصدور والمضمون والفهم والتفسير، آخذين بعين الاعتبار منطق "فقه الأولويات"، وكذلك النصوص القرآنيّة التي أعتبرها محوراً للدراسات الإسلاميّة، لنصل إلى صورة لا تقنط الناس من رحمة الله من جهة، ولا تؤمنهم من مكره وعذابه من جهة ثانية، كما لا تزهّدهم بالأعمال الصالحة ثالثة.
 
رابعاً: الخطاب الديني وإشكاليّة غياب المرجعيّة القرآنيّة
الجملة الثالثة التي أتوقّف عندها قليلاً مع هذه الرواية، تؤسّس لمرجعيّة القرآن الكريم، حيث قالت: «ألا أُخبركم بالفقيه حقّ الفقيه‏:.. ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره».
 
إنّ تعبير «رغب عن» في اللغة العربيّة يعني: زهد به، لكن ما هو المقصود هنا؟ هل يوجد فقيه مسلم يترك القرآن زهداً؟ لا يوجد فقيه مسلم فيما نعلم يقول: إنّني أترك القرآن زهداً به، لكن قد نتعامل مع القرآن بطريقة توحي وكأنّنا تركناه وزهدنا به؛ إذ نذهب خلف مرجعيّات أخرى في الخطاب الديني وننسى القرآن الكريم، ولا نستحضره أبداً إلا للتبرّك و..، فنجد خطباً كثيرة هنا وهناك مليئة بالقصص والحكايات ونصوص العلماء.. لكنّها فارغة أو شبه فارغة من آية قرآنيّة واحدة، وهذا ليس إلا تزهيداً بكتاب الله المنزَل لهداية الناس جميعاً، وهي ظاهرة شائعة اليوم في خطابنا الديني عموماً.
 
لا إشكال في استحضار الحديث الشريف أو نصوص العلماء، بل هو مطلوب، شرط أن لا يُزهد بكتاب الله في التربيّة التبليغيّة، فعندما نريد أن نخرج إلى الناس داعيين إلى الله، يجب أن يكون القرآن حاضراً بقوّة في خطابنا الديني، هذا معنى «ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره»، فلا يُقصد منه أن يقف المبلغ أمام الجمهور ليقول: أنا لا أؤمن بالقرآن، حيث لا يوجد مثل هذا المبلّغ الديني المسلم، بل المقصود أنّ ممارساته ـ من حيث شعر أو لم يشعر ـ تؤدّي إلى الزهد بكتاب الله تبارك وتعالى، وعدم تكريسه مرجعاً في حياة المسلمين، وإنّما فقط ـ كما كان يقول الإمام الخميني ـ يُقرأ في المقابر وعلى الأموات وما شابه ذلك، ويصبح أقرب إلى "البروتوكول" والأعراف الاجتماعيّة.
 
إنّ استحضارنا للقرآن الكريم في إطار العمل التبليغي أمرٌ ضروري جداً، خاصّةً في هذه الظروف التي تتّهم فيها بعض الجهات بأنّها لا تؤمن بالقرآن أو لا تحترمه، فيجب أن ننفي هذا المفهوم، ونكرّس مرجعيّة القرآن في خطابنا الديني عموماً، فلا أتكلّم الآن عن مرجعيّة القرآن في الاجتهاد، فهو بحث آخر، إنّما المقصود مرجعيّة القرآن في الخطاب الديني عموماً حتى يصبح في وعي الناس جزءاً أساسياً من استشهاداتنا، بحيث يتربّى المسلمون على مثل هذه الثقافة، وهي ثقافة استحضار النصّ القرآني.
 
الخلاصة
على المبلّغ والداعي إلى الله سبحانه أن يتبّع ثلاث استراتيجيّات:
 
1 ـ لا يقنط الناس من رحمة الله، عبر تقديم صورة مجتزءة عن الله سبحانه أو فرض تكاليف زائدة غير ثابتة في الشريعة.
 
2 ـ لا يؤمن الناس من عذاب الله ولا يرخّص لهم في معاصيه من خلال تلمّس الرخص بغية تحصيل أكبر عدد من الجمهور أو تزهيد الناس بالعمل الصالح عبر جعل الانتماء معياراً للخلاص أو عدم المحافظة على خصوصيّات الأعمال ورتبها.
 
3 ـ لا يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ليجعل مرجعيّات أخرى مكان القرآن الكريم في الخطاب الديني عموماً.
 
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا جميعاً للتعامل بطريقةٍ تجذب الناس إلى الدين دون أن تضحّي به، وتروّج له دون أن تخسر الناس، وتجعل من ثلاثيّة: "الكتاب والسنّة والعقل" أساساً وشعاراً وملاذاً نلجأ إليه في أمورنا.
https://taghribnews.com/vdcdkk0k5yt0996.422y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز