تاريخ النشر2022 10 May ساعة 15:41
رقم : 549030
المجمع العالمي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة - الشؤون الدولية

حديث التقريب : ثقافتنا ووحدتنا الحضارية

تنا- خاص
الحديث عن الثقافة الإسلامية في إيران، بعد أن نشأت فيها دول وإمارات مستقلة عن الخلافة العبّاسية له أهميته الفائقة. فهذه الثقافة قد انتعشت أدبيًا وعلميًا بشكل واسع مما يدل على العمق الإنساني لهذه الثقافة في الوجدان الشعبي.
حديث التقريب : ثقافتنا ووحدتنا الحضارية
حديث التقريب
ثقافتنا ووحدتنا الحضارية
 
 
الحديث عن الثقافة الإسلامية في إيران، بعد أن نشأت فيها دول وإمارات مستقلة عن الخلافة العبّاسية له أهميته الفائقة. فهذه الثقافة قد انتعشت أدبيًا وعلميًا بشكل واسع مما يدل على العمق الإنساني لهذه الثقافة في الوجدان الشعبي. فنجد دائرة الثقافة الإسلامية تتّخذ حواضر عديدة في إصفهان، والري، وغزنة، وبخارى، وشيراز، وهذا الانتعاش يدلّ بوضوح أن هذه الثقافة أصبحت لا تنفك عن هوية الإيرانيين وشعورهم القومي والثقافي والديني. حتى الدول التي اهتمت أكثر من غيرها بالجانب القومي الفارسي واللغة الفارسية والآداب الفارسية مثل الدولة السامانية في خراسان الكبرى وعاصمتها بخارى كانت تموج بالنشاط الثقافي الإسلامي العربي. يقول الثعالبي عن حاضرة السامانيين: «كانت بخارى في الدولة السامانية مثابة المجد وكعبة الملك ومجمع أفراد الزمان ومطلع نجوم أدباء الأرض وموسم فضلاء الدهر».
ويستعرض الثعالبي في بخارى صورًا من مجالس أدبية ثقافية كانت تتعاطى الشعر العربي وعلوم اللغة العربية وآدابها. ونيشابور من بلدان الدولة السامانية كانت منارًا للثقافة العربية الإسلامية بمجالاتها العلمية والأدبية والثقافية. ولقد طلبتُ من أحد طلابي في قسم الدكتوراه أن يكتب رسالة في الشعر العربي بنيشابور، فتردّد ظانًا بأن المادة الموجودة لا ترتفع إلى مستوى كتابة رسالة عنها، فوجّهته إلى بعض المصادر، فجاء بعد مدّة ليقول: إن «زوزن» وحدها، وهي من قرى نيشابور، صالحة لأن تكتب فيها رسالة دكتوراه.
أما الدولة البويهية فكان عصرها بحق عصرًا ذهبيًا للثقافة العربية الإسلامية بشخصية عضد الدولة وبوزيريها عميد الملك والصاحب بن عباد وبمكتباتها ومجالسها الأدبية وشعرائها وأدبائها وعلمائها، يقول الثعالبي عن مجلس الصاحب بن عباد: «احتفّ به من نجوم الأرض وأفراد العصر، وأبناء الفضل وفرسان الشعر، من يُربي عددهم على شعراء الرشيد ولا يقصّرون عنهم في الأخذ برقاب القوافي ومِلْكِ رقِّ المعاني..».
«وانبرى ثلاثة إيرانيين ليواصلوا عمل أبي الفرج الإصفهاني في وضع تراجم للشعراء والأدباء هم الثعالبي في يتيمة الدهر والباخُرزي في دمية القصر والعماد الأصفهاني في خريدة القصر، وفي هذه الكتب الثلاثة أسماء مئات الشعراء والأدبا ولم يقتصر الأمر على الحواضر بل شاركتها مثل بلاد الجبل وجرجان وطبرستان وخوارزم وأهواز ونيشابور وهراة».
والملفت للنظر أن الساحة الثقافية الإيرانية رغم استقلالها سياسيًا كانت متواصلة مع العالم العربي بشكل مدهش. ويكفي أن نذكر ـ على سبيل المثال ـ أنّ اهتمام إيران بشعر المتنبي لم يكن يقلّ عن اهتمام العالم العربي به والغريب أن المتنبي كان يُنشد الشعر في حلب ومصر والعراق فتصل قصائده بسرعة إلى إيران، وترددها الألسنة.
هذا على صعيد الأدب وهو صعيد ـ كما ذكرنا ـ يعبّر عن عمق التجربة الشعورية المشتركة للأمة. أمّا على الصعيد العلمي، فنرى ما يمكن أن نصفه انفجارًا علميًا في السعة والعمق. ونسجّل باختصار الملاحظات التالية على الجانب العلمي من الثقافة الإسلامية في إيران:
1ـ اقترنت الحركة الثقافية منذ العصر العبّاسي بحكّام مثقفين وعلماء يشجعون أهل الأدب والعلم، ويعقدون مجالس البحث والمناظرة، ويؤسسون المكتبات، فهناك علاقة جدلية بين هؤلاء الحكام وتطور الحالة الثقافية، الحالة تتطلب وجود هؤلاء، وهؤلاء يدفعون بعجلة التطور الثقافي.
وفي هذا العصر نرى بين الحكام في إيران أسماء ثقافية خالدة أمثال عضد الدولة وابن العميد والصاحب بن عبّاد ونظام الملك، ومن لم يكن منهم صاحب علم وثقافة حرص على أن يكون بلاطه مرتعًا للعلم والعلماء مثل محمود الغزنوي الذي أصرّ على طلب البيروني وابن سينا وأبي سهل المسيحي والطبيب ابن الخمّار والرياضي أبي نصر بن العرّاق، وكانوا جميعًا يعيشون في رعاية حاكم خوارزم فلبّى الطَلَب ابنُ العرّاق وابن الخمّار والبيروني، ورفضها أبو سهل، وكذلك ابن سينا الذي اتجه نحو قابوس بن وشمگير صاحب طبرستان وجرجان.
والغريب في هذا العصر أن الثقافة الإسلامية حوّلت العشائر الدموية المتوحّشة التي غزت إيران وحكمتها إلى حكام وأناس محبين للثقافة والمثقفين أو قلْ على الأقل يرون أن استمرار وجودهم يتطلب دعمًا وإسنادًا من أهل العلم والأدب في البلاد.
السلاجقة على سبيل المثال قبائل من أتراك الغُزِّ والخزر لم يكن لهم من الثقافة حظ، لكنهم حين استولوا على إيران استوزروا العلماء والمثقفين، والمشهور منهم ـ كما ذكرنا ـ نظام الملك الذي اقترنت مدارس النظامية في بغداد وإصفهان وطوس وبلخ وهراة ونيشابور باسمه، ووفّروا للعلماء والأدباء جوًا جعل من عصر السلاجقة عصرًا علميًا أدبيًا باهرًا.
والمغول ـ مع كل وحشيتهم وفظاظتهم ـ هضمتهم الثقافة الإسلامية بعد حين من استيلائهم على إيران، وأصبحوا من رموز الحركة الثقافية. فهذا غازان (693 – 703) «أتاح لدولة الإيلخانيين في إيران والعراق عصرًا ذهبيًا، إذ اعتنق الإسلام وعمل على نشره بين المغول نشرًا واسعًا، وعُني بأن تصبح تبريز عاصمته من أجمل المدن الإسلامية، وقد بنى فيها رباطًا وبيمارستانًا ومدارس دينية ومرصدًا كبيرًا، ومكتبة فخمة، وأقام لأصحاب العلوم والفنون ضاحية مؤلفة من ثلاثين ألف بيت لعلماء الدين والفقهاء والمحدثين والقرّاء والأساتذة والطلاب».
ومن جوه حكّام المغول التيموريين حسين با يقرا (874-903هـ) وفي عهده أصبحت سمرقند مركزًا مهمًا من مراكز الثقافة الإسلامية.
وبعد القضاء على التيموريين فرّ آخر حكامهم سنة 906هـ إلى الهند وأسس هناك دولة المغول العظام، وهذه الدولة من مراتع الثقافة العربية الإسلامية وتحتاج إلى دراسة مستقلة.
2- ومن مظاهر الجانب العلمي في الثقافة العربية الإسلامية في هذا العصر بإيران تنوّع جوانب المعرفة تنوعًا غطّى احتياجات المجتمع المادية والمعنوية.
فالثقافة الفقهية لم تكن وقفًا على الفقهاء بل شارك فيها عامّة الناس، وهكذا الحديث النبوي فقد شاعت رواية الحديث والتثّبت فيه وظهرت محدّثات شهيرات مثل كريمة المروزية وقرأ عليها الخطيب البغدادي صحيح البخاري، وعائشة البوشنجية، وفاطمة الدقاق وعنها أخذ الحديث بنيشابور كثيرون.
برز في إيران خلال هذا العصر عالمان كبيران هما ابن سينا والبيروني، وكان لهما دور كبير في تطوير العلوم ودفعهم حبهم لاكتشاف المجهول أن يرموا ببصرهم إلى أقطار السموات محاولين اقتحام مجاهيلها. ويذكر الدومييلي في كتاب العلم عند العرب أسماء عشرات الفلكيين الإيرانيين الذين نقّحوا وصحّحوا كتب الفلك اليونانية وأضافوا إليها وطوّروا علم الهيئة والنجوم على نحو ما نراه عند أبي الفتح الأصفهاني، وأبي الحسين الصوفي، وعمر الخيام، ونصير الدين الطوسي، وقطب الدين الشيرازي وغيرهم كثير.
ونرى في هذا العصر الرياضيين والكيمياويين والجغرافيين والمتخصّصين في العلوم الطبيّة والطبيعة. ولذلك اتسعت العلوم وتطلبت المكتبة العربية إلى فهارس فتصدّى لهذه الغاية مَنْ قسَّمَ المؤلفات إلى علومها المختلفة على نحو ما نعرفه في كتاب الفهرست لابن النديم.
كما أن اتساع العلوم تطلّب ضبط مصطلحاتها على نحو ما تفعله المجامع العلمية اليوم، وممّا وصلنا من كتب في هذا العمل العلمي مفاتيح العلوم للخوارزمي، وكتاب التعريفات للشريف الجرجاني.
والملاحظ في هذا التنوع الثقافي أنه كان متوازنًا منسجمًا يهتم بالطب كاهتمامه باللغة، ويهتمّ بالكيمياء كاهتمامه بالنحو، ويهتم بالفلك كاهتمامه بالشعر، ليس فيه إفراط ولا تفريط، وما أبعد هذه الحالة الثقافية عن حالات يُصاب بها بعض مثقفينا المنفعلين الذين إذا انفتحوا على علم من علوم الغرب يتنكرون للغتهم وثقافتهم وآدابهم.
حركة اللغة والنحو والبلاغة والنقد في هذا العصر ازدهرت بإيران لتعبّر أكثر مما مضى عن ارتباطها بالهوية الثقافية  الإسلامية. أكثر معاجم اللغة العربية الهامة ألفت أو نشرت في إيران خلال هذا العصر. مثل معاجم الخليل، وابن دُريد، والأزهري، والجوهري، والهروي، والزوزني، والراغب الإصفهاني، وحمزة الإصفهاني، وأبي هلال العسكري، والميداني.
وظهر في إيران شرّاح مشهورون لداوين الشعراء مثل الواحدي، والزوزني، والتبريزي، كما ظهر النحويون الكبار أمثال ابن درستويه الفارسي، وأبي علي الفارسي، والزمخشري، والرضي الاسترابادي.
ويعتبر عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية هامة في البلاغة لاتزال حتى اليوم موضع اهتمام النقّاد والبلاغيين، والسكاكي في مفتاح العلوم قدّم مشروعًا لتعليم البلاغة لايزال متداولاً حتى اليوم، وعليه شروح كثيرة.
ويطول الحديث لو تقصينا مجالات النشاط الثقافي في هذا العصر، وهذا الذي ذكرناه يبين جانبًا من هذا التنوع والشمول والتعادل والتوازن في علوم هذا العصر وثقافته.
3- النضج العلمي من مظاهر الثقافة الإسلامية في إيران خلال هذا العصر. لقد غلبت على العصر العبّاسي حركة الترجمة، غير أن هذه الحركة أوشكت أن تتوقف في هذا العصر، بدأ العلماء في التفكير العميق وتقديم الجديد من الأفكار والنظريات في حقول المعرفة. فابن سينا قدّم الجديد في علم الطب مما جعل كتاب القانون عماد الغربيين في دراساتهم الطبية بجامعاتهم حتى القرون القريبة، وقد ترجموه وطبعوه عشرات المرات في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وفي الفلسفة خطا خطوة عظيمة حين وفّق بين آراء أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية الحديثة والإسلام وكأنه أراد أن يقدم المشروع الإنساني العام لنظرة الإنسان إلى الكون والحياة، مازجًا بين الجانب العقلي والروح العرفانية أو الصوفية.
والبيروني أيضًا صاحب عقلية جبّارة يقف في كتابه تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة على آراء الهنود واليونان والفرس ويقارن بينها وبين آراء الإسلام مقارنة دقيقة عميقة ويبين وجوه التوافق بينها، وكأنه يبحث عن المشترك الحضاري والاختلاف الثقافي بين شعوب العالم.
 
 
 
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية


/110
 
 
https://taghribnews.com/vdcaeonmw49nyw1.zkk4.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز