تاريخ النشر2010 12 December ساعة 09:43
رقم : 33690
علي جمعة

نماذج التعايش مع الآخر ‏(٢)

‏نموذج مكة قبل البعثة‏
جاءت سيرة النبي (ص) بأربعة نماذج للتعايش مع الآخر وهي كافية لجميع الأحوال والأزمان‏,‏ وتمثل تلك النماذج منهجا ونبراسا للمسلمين في علاقتهم مع الآخر‏,‏ ليكونوا في مقدمة الأمم في الدعوة إلى السلام والتعايش السلمي مع مختلف الأمم والطوائف‏,‏ وذلك بالتزامهم بثوابت الإسلام ومبادئه التي تدعو إلى الخير والبر والتعاون مع الآخر في إطار من الاحترام المتبادل‏.‏
نماذج التعايش مع الآخر ‏(٢)
وكالة أنباء التقریب (تنا)
أول نماذج التعايش ‏(نموذج مكة قبل البعثة‏),‏ حيث عاش رسول الله (ص) في بيئة يغلب على سكانها عبادة الأوثان‏,‏ وممارسة الرذيلة من بغاء وشرب خمر وارتكاب للفواحش‏,‏ وامتد ذلك إلى أن القوي كان يطغى على الضعيف ويأكل حقه‏,‏ حتى إن السيد كان يقهر من تحت يده من عبيد وإماء ولا يحترم إنسانيتهم‏,‏ وكان العربي يتعالى على العجمي‏,‏ وكان الأبيض يفخر على الأسود‏,‏ ويصف حالهم جعفر بن أبي طالب حين خطب أمام النجاشي فقال‏: ‏أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية‏,‏ نعبد الأصنام‏,‏ ونأكل الميتة‏,‏ ونأتي الفواحش‏,‏ ونقطع الأرحام‏,‏ ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف ‏(‏مسند أحمد ٤/٢٨٦).‏
وفي هذه البيئة غير السوية عاش رسول الله (ص) مع قومه متآلفا معهم‏,‏ يقوم بدور اجتماعي فعال‏,‏ ويتعاون في أمور البر والخير‏.‏
ومن مظاهر ذلك تحالفه (ص) مع قبائل من قريش تعاهدوا على نصرة المظلوم قبل البعثة‏, ‏حيث تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان‏;‏ لشرفه وسنه‏,‏ فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه‏,‏ وكانوا على من ظلمه‏,‏ حتى ترد عليه مظلمته‏,‏ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول‏.‏
وفي هذا يقول رسول الله (ص)‏: ‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم‏,‏ ولو أدعى به في الإسلام لأجبت ‏(السيرة النبوية لابن هشام ١/١٣٣).‏
وقد تمسك النبي (ص) بهذا الحلف أيما تمسك‏,‏ وكان يعمل بمقتضاه حتى بعدما عادته قريش وضيقت عليه هو وأصحابه‏,‏ فيروى أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص جمالا‏,‏ فماطله بأثمانها‏,‏ فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل‏;‏ استهزاء برسول الله‏,‏ لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل‏, ‏وذلك بعد أن وقف على ناديهم فقال‏: ‏يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام‏,‏ فإني غريب وابن سبيل‏,‏ وقد غلبني على حقي؟ فقالوا له‏:‏ أترى ذلك الرجل يعنون رسول الله اذهب إليه فهو يعينك عليه‏,‏ فجاء إلى رسول الله (ص) فذكر له حاله مع أبي جهل‏,‏ فخرج مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه‏,‏ فقال‏:‏ من هذا؟ قال‏:‏ محمد‏.‏ فخرج إليه وقد انتقع لونه أي تغير من الرهبة فقال له‏:‏ أعط هذا حقه‏.‏ قال‏:‏ نعم‏,‏ لا تبرح حتى أعطيه الذي له‏.‏ فدفعه إليه‏,‏ ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال‏:‏ جزاه الله خيرا‏,‏ فقد والله أخذ لي بحقي‏ .(‏السيرة الحلبية‏ ١/٥٠٧).‏
ومن مظاهر تعاونه (ص) مع قومه قبل البعثة مساعدته إياهم في حقن دمائهم‏, ‏ورفع التنازع بينهم‏,‏ ودفع شر مستطير كان سيحيق بهم‏,‏ وذلك‏: ‏أنه في السنة الخامسة والثلاثين بنت قريش الكعبة وتقاسمتها أرباعا‏,‏ فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود تنازعت القبائل أيها يضعه موضعه حتى كادوا يقتتلون‏,‏ ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل عليهم من بني هاشم‏, ‏فكان (ص) هو أول داخل‏, ‏فقالوا‏:‏ هذا محمد‏,‏ هذا الصادق الأمين‏,‏ رضينا به‏,‏ فحكموه‏,‏ فبسط (ص) رداءه ووضع الحجر فيه‏,‏ وأمر أربعة من رؤساء القبائل الأربع أن يأخذوا بأرباع الثوب‏,‏ فرفعوه إلى موضعه‏,‏ فتناوله (ص) بيده المباركة‏,‏ فوضعه في موضعه ‏(سيرة ابن إسحاق ص‏١١٩).‏
وعلى مستوى أسرته (ص) نراه يرد الجميل لعمه أبي طالب الذي رباه‏,‏ فيأخذ منه عليا رضي الله عنه ليربيه‏,‏ حين أصيبت قريش بأزمة اقتصادية شديدة‏,‏ وكان أبو طالب ذا عيال‏.‏
بتلك الأمثلة وغيرها ينبغي على المسلمين أن يقتدوا في تعاملهم مع الآخر‏,‏ حيث يضعون نصب أعينهم هدي الرسول (ص) في التعامل مع غير المسلمين وحرصه على التمسك بالأخلاق والمبادئ الإسلامية القويمة التي تحث على الوفاء والصدق والأمانة‏,‏ فقد كان (ص) يعرف في مكة قبل البعثة بأنه الصادق الأمين‏;‏ ولم يعرف عنه أبدا أنه خان أمانة أو نقض عهدا أو كذب يوما‏.‏ وهذا ما أدركته السيدة خديجة رضي الله عنها حين واسته بقولها‏: ‏أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا‏,‏ إنك لتصل الرحم‏,‏ وتصدق الحديث‏,‏ وتحمل الكل‏,‏ وتكسب المعدوم‏,‏ وتقري الضيف‏,‏ وتعين على نوائب الحق ‏(البخاري ٦/١٧٣).‏
إن نموذج التعايش في مكة مع الآخر قبل البعثة‏ -‏وكان المقام فيه ‏(مقام التعايش والوفاء والتعاون على البر والخير‏)-‏ يدفع المسلمين الذين يعيشون في مثل تلك الظروف‏-‏في أي زمان أو مكان‏-‏ إلى التمسك بعقيدتهم وعدم التفريط في ثوابت وأصول الإسلام مع الالتزام بمكارم الأخلاق التي تؤسس وترسخ تلك العلاقة مع الآخر بما يضمن السلم والاستقرار الاجتماعي‏,‏ ويكشف عن حقيقة الإسلام وسماحته أمام العالمين‏.‏

موقع : العلامة علي جمعة

https://taghribnews.com/vdccxeq1.2bq1o8aca2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز