تاريخ النشر2010 10 November ساعة 15:34
رقم : 30768
من أجل استراتيجيا للتقريب بين المذاهب الإسلامية

المواسعة والمسامحة: آليتان في تدبير الخلاف(1)

ادريس هاني*
إن الدعوة إلى التقريب كما يفهمها العقلاء تلميحا وليس تصريحا فحسب، هي دعوة إلى إرساء شكل من أشكال تدبير التنوع المذهبي لا محو المذاهب
إدريس هاني
إدريس هاني
وكالة أنباء التقریب (تنا)
من قال بأن الدعوة إلى الوحدة والتقريب هي دعوة إلى عدم اتباع المذاهب أو نفي التميز بها؟! إن الدعوة إلى التقريب كما يفهمها العقلاء تلميحا وليس تصريحا فحسب، هي دعوة إلى إرساء شكل من أشكال تدبير التنوع المذهبي لا محو المذاهب. لأن كل اختلاف في الرأي واجتهاد في النظر ينتج مع مرور الزمان وتواتر الجهد، مذهبا. فإذا خرج التمذهب عن حدّه وشطّ، كان لا بد من تذكيره بأنه اجتهاد داخل الإسلام وليس خارجه. 

فثمة مسؤولية على أصحاب المذاهب تجاه إخوانهم من المذاهب الأخرى بموجب الأخوة الإسلامية والمشترك الإسلامية ووحدة المصير التي لن يملك أحد منهم أن يخلعها مهما استشرى الخلاف. إنها حكاية المذاهب وتنوعها التي نحن لسنا بدعا فيها عن باقي الخلائق. وإن شئت فقل: إن المذاهبية كإطار علمي تختلف عن المذهبية كنزعة. وإن تفهمنا وجود نزعات مذهبية فلتهذب بالمشترك الإسلامي والأخوة الإسلامية. ولا يعني هذا أن يكون داعية التقريب لا مذهبيا أو فوق المذاهب لا يدين بها كما يعتقد البعض. فذلك ادعاء من لا علم له بالعقائد والمذاهب والأديان. ولا تعني الدعوة إلى التقريب ترجيح مذهب على آخر، فالدعوة إلى التقريب ليست دليلا ولا برهانا بل هي دعوة مناطها المصلحة ومستندها المشترك بين المذاهب الإسلامية بما أنها إسلامية.
 
ولا تعني دعوة التقريب أن أصحاب المذاهب سيسمحون بأساليب الاختزال التي تمارس في حق كل منها لغاية إظهار جودة المذاهب الأثيرة. وتدرك دعوة التقريب أن مهمتها غير مهمة الاستدلال والترجيح. وكثيرا ما يسعى البعض أن يبتز أصحاب المذاهب المختلفة بأن يجعل ثمن التقريب بأن لا يدافع المذهب المذكور عن آرائه وأن لا يظهر أدلته، بينما تطلق العنان لنفسها في تمجيد الذّات بنارجيسية طافحة وهجاء المختلف بكراهية سوداء. وكل هذه من أمراض العالم الإسلامي التاريخية ومن نزعات طفالتنا التي لا زالت عقبة أمام وعينا الجمعي. ذلك العقل الذي لا يزال يعتقد أنه بمقدورنا أن نعود إلى صفاء العقيدة من دون مذاهب بالضوضاء والثرثرة والتهريج. 

فالخلاف دبّ منذ التحق الرسول(ص) بالرفيق الأعلى. فإذا اختلف الصحابة فلا نكون أشطر منهم لكي لا نختلف في القرن الواحد والعشرين في تأويل رسالة منزلة قبل أربعة عشر قرنا. هنا يكون المدار على الدليل لا على الادعاء. فذلك حق منذ عمّ الخلاف، لكنه حق لا يحجب حق الوحدة والتقريب منذ عمّت الفرقة. إن للتقريب مقاما وللمناظرة والاستدلال مقاما، فلا نخلط بين المقامين. ومن هنا لا حرج عن السنّي أن يحتجّ على رجحان مذهبه كما لا حرج على الشيعي أن يدافع عن رجحان مذهبه بدليل. وكل مذهب يسعى ليؤكد على أن مستنده هو مصادر الإسلام التي يلتقي عليها الجميع.  

 وعلى الشيعة أكثر من غيرهم أن يعرضوا فكرهم على أساس الأدلة والمصادر ويدفعوا عنهم كل الشبهات التي ألصقها بهم خصومهم طيلة أزمنة الانحطاط، لأنهم من أكثر الفرق التي استسهل الخصوم التجديف ضدها وحبك الخرافات حولها. فهي الفرقة التي بدعت وضللت وكفرت ولعنت وسبت وافتري عليها خلال كل هذه القرون. وقد صنع القمع بها ما لم يصنعه بأي فئة أخرى. ومع ذلك وجب إكبار وإجلال هذه الفرقة الكريمة التي لا زالت تمد يدها للمسلمين وهي قادرة على أن تصبح دركيا للقوى الغربية عن جدارة واستحقاق. فلو كان هدفها غير مصلحة المسلمين وسمعة الإسلام والأخوة الإسلامية لوضعت اليد في يد أمريكا وإسرائيل ومنحت صك استعباد
المنطقة بين عشية وضحاها. بل لقد جعلت نفسها في خدمة المسلمين ونسيت جراحها في عصر قوتها وازدهارها حتى وإن اتسع صدرها لأضعف الأمة يجرحون في رموزها ويدوسون كرامتها، فتلك من أبرز الأمارات على الإحسان؛ فهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان. 

في مناشئ الخلاف
لا يخفى على الباحث في التاريخ الإسلامي، أن الأمة قبل ورود الخلاف، ونظرا لحداثة العهد بالرسالة، كانت أمة واحدة، يغلب اتفاقها على اختلافها، وتماسكها على تفرقها. أو كما جاء وصفها في الذكر الحكيم : 
" وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"
"كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".
ثم كان الخلاف بعد التوحد، ما يعني أن الخلاف طارئ تاريخي جديد، تراكمت عوامله وتداعياته يوما بعد يوم، إلى أن أصبح يغتدي من تخلفنا وعصبيتنا وتقصيرنا في العمل الجاد في سبيل رأب الصدع، وتقريب المسافة بين المذاهب الإسلامية وانسياقنا وراء نزعاتنا الجزيئية، كل يجر القرص إلى ناره، وقلما غلب التفكير في مصير الأمة، والتعصب لقضاياها. وقد يبدو للكثير ممن يصعب عليهم استيعاب هذا التردي والتمزق الذي تعانيه الأمة الإسلامية اليوم، أن الدعوة إلى إعادة لم الشمل، لن تكون إلا دعوة طوباوية وخرافية، بلحاظ التصعيد الذي نعانيه اليوم عنفا وغلبا، وكذلك الارتفاع المسرف في منسوب الصراع والتوتر بين المسلمين. 

غير أن مقتضى الدعوة إلى لم الشمل والتقريب بين المسلمين في إطار الأخوة الإسلامية، هو أن ننظر بعين موضوعية وأن نقرأ الأحداث والوقائع تاريخيا وراهنا، بعيدا عن نزعاتنا وعصبياتنا الطائفية والمذاهبية. بل إن المطلوب ، هو تصميم وإرادة كبيران، على رفع تحديات التمزق والفرقة؛ وكلاهما يشكل العدو الأكبر للمسلمين. وأن لا نسمح بأن يحجب عنا هذا الوضع الفظيع، ذلك البصيص من النور المنبعث من الأفق الممتد، الذي لا يزال حقيقا بأمة محمد (ص). 

إن مناشئ الخلاف في التاريخ الإسلامي لم تكن كلها سلبية، ولا كانت غايات المختلفين حينئذ تتقصد رجّ الصرح الإسلامي، أو الإخلال بالنظام العام. بل يتعين على الناظر المحقق أن يفرز بين مناشئ الخلاف الضار ومناشئ الخلاف النافع. فثمة على كل حال، اختلافات تقتضيها الضرورات العلمية وإكراهات الإنسداد واختلاف المباني الاجتهادية. إنها بهذا المعنى مناشئ طبيعية، استطاع المسلمون من خلالها إنشاء مدارس متنوعة في شتى العلوم الإسلامية، مجسدين بذلك وجها من وجوه مقتضى ما جاء في الحديث الشريف: "اختلاف أمتي رحمة". فبهذا المعنى يكون الاختلاف العلمي رحمة، بما يستدعيه من مواسعات علمية وتنوعات في الآراء الاجتهادية إغناء للفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية. 
وأما مناشئ الاختلاف الضار المذموم الذي عملت فيه شتى العوامل الثقافية والبيئية والنماطية والسياسية، فذلك هو محور إشكالية رسالة التقريب، كما نبحثها ويبحثها كل أنصار التقريب. 

ما الذي جعل الاختلاف المذهبي طائفية عمياء
إن الذي جعل الخلاف يبرح دائرة المتطلبات الموضوعية للعلم ليرتد إلى منزلقات طائفية هوجاء، هو جملة من العوامل وليس عاملا واحدا. وقد يكون من السهولة بمكان أن يعلق الإنسان أسباب التناحر الطائفي على العامل السياسي وحده دون أن يستدعي جملة العوامل الأخرى. وهذا في حد ذاته قراءة واحدية لتاريخ الاختلاف، مجانبة للموضوعية على الرغم من أن السياسة كان لها دائما الدور الغالب في حسم مسألة الصراع الطائفي القائمة على تعدد المقاربات، للظاهرة التاريخية والدينية والثقافية عموما. 

نعم إن العامل السياسي هو علة العلل في عملية التأثير السلبي ذاك. غير أن هناك عوامل أخرى قد تكون ثانوية أو أولية، لا تقل أهمية عن العامل السياسي. فلا ننسى أن النمط الثقافي والتاريخي في تلك الحقب، كان قائما على ثقافة العنف والتحكم. فثقافة الاختلاف السعيد شكلت مطلب المجتمعات في مراتب تحضرها وتكاملت مع نضج الإنسان الثقافي والاجتماعي والحضاري. وبما أن المسلمين الذين خاضوا في التناحر الطائفي حينئذ
لم يفعلوها إلا بعد أن جمدوا تعاطيهم مع التعاليم الدينية الحاثة على التسامح وقيم الصلح والأخوة الإسلامية، فإن خروجا عن مقتضى التعاليم الإسلامية سيجعلهم أكثر استنجادا بالنمط الثقافي والاجتماعي التاريخي القائم على العصبية والغلب واللاتسامح والعنف. 

فوراء كل شرخ طوائفي كان هناك شعور يقل أو يزيد من العنصرية أو العشائرية أو غيرها من الدعوات التي اعتبرها الإسلام دعاوى جاهلية. فالعوامل قد تكون سياسية وقد تكون راجعة إلى نمطية التفكير في الزمان وفي المكان وبحسب النموذج المعرفي،وقد تكون أسبابا عصبية عشائرية، ثقافية أو اقتصادية، أو كل هذا معا أو بعضه. وواجب التقريب قاض بتحليل كل هذه العوامل، لفهمها ومن ثم تفهمها، وبعد ذلك البحث في مشاريع حلول لها، إما تخفيفا من وطأتها أو تخلصا مما لا يضر بأصول مذهب قام عنده الدليل على حجيته. 

فهنا يحضر مفهوم القطع، بالمعنى الأصولي وليس بالمعنى المنطقي، من أن القطع حجة على القاطع من أي طريق كان هذا القطع. إن الناظر في مثل هذه المناشئ يدرك أن فراغا كبيرا لا يزال يربض فوق هذه الأحداث، وأن مقاطع ومنعطفات وفواصل من تاريخنا، لا زالت في انتظار المؤرخ الأكثر اقتدارا على التحليل. إن واحدة من عوائق التقريب هو هذا الخوف المخيم على العقول متى ما تعلق الأمر بالتاريخ. وكأن التاريخ علم نهائي يكتب لمرة واحدة. 

فالأمم المتقدمة والتحولات التي شهدتها الصناعة التأريخية أكدت على أن كل جيل هو مطالب بأن يكتب تاريخه مجددا. فلا مجال للخوف من التاريخ، ما دام أن أي تجدد في قراءته، إنما هو حماية واستدامة لمصداقية الحقيقة الإسلامية التي رافقت كل أطواره في حال من المد والجزر، لم يخف حقيقة الجوهر، ولا وحدة المقاصد المعتملة في ضمير الأمة. فالكل كان طالب نجاة، والشيعة كالسنة يطلبون النجاة فيما يتعبدون به. فالاختلاف بهذا المعنى ليس نزهة أو لعبة أو هزلا، مادام المتعبد بهذا المذهب أو ذاك، إنما يتقصد طلب النجاة. وإن حضور الحقائق في هذا الذهن لا يعني حضورها بحجم الوضوح وكثافة اليقين نفسه في ذلك الذهن كما يرى أهل الرأي. 

من هنا جاءت أهمية الحوار وأهمية الأخلاق في الحوار. فالعلم المجرد من اللياقة الأدبية والأخلاقية، ثمار شهية مقدمة في أطباق منفرة، كما أن حوارا أخلاقيا بلا علم هو بمثابة ثمار فاسدة مقدمة في أطباق مغرية. والحق، أن يتزاوج العلم والأخلاق، وهما تمام الحكمة، لينتجا المطلوب. إن انفتاحا على تاريخنا وإعادة تأمله على أسس علمية دقيقة وروح حوارية بناءة وفي مناخ تسامحي، من شأنه أن يخفف من عقدة التاريخ، وإحراجاته، التي هي في الواقع إحراجاتنا نحن من لم يتحمل مسؤولية مواصلة كتابة التاريخ. 

الأدوار السياسية والعلمية التي ساهمت في التقريب
إن هذا الوضع التشرذمي البائس، لا يحجب عنا جملة من المبادرات قديما وحديثا، قام بها سياسيون أو علماء في اتجاه التقريب بين المذاهب الإسلامية. وهي تدابير متنوعة في كياستها ومذاقاتها. ولعل في مقدمة تلك المبادرات التي لا زالت شاهدة على عظمة ذلك الحس التقريبي الذي اعتمل بقوة في نفس كبير مراجع التقليد في زمانه؛ السيد البروجردي الذي أمر السيد القمي بتأسيس دار التقريب في مصر، حيث اجتمع حولها خيرة العلماء من السنة والشيعة، وطوروا رؤى وتقاليد وثقافة تقريبية، كانت من أهم ما أنجزه المسلمون في القرن الماضي من الميلاد. وقد نهض السيد القمي بمهمة إدارة وتنسيق هذا المشروع، ما هدأت به نفوس المسلمين وما كان من شأنه لو تواصل بالقوة نفسها والإصرار نفسه أن يزيد في ثمرات التقارب وتجسيد الأخوة الإسلامية.

إن أهم ما نهضت به دار التقريب، إطلاق العنان للأبحاث الجادة في سبيل تعارف أوسع، فمنحت العلماء فرصة للتلاقي والحوار. وحينئذ بدأت أكثر التخاريف الطائفية المتبادلة تشهد تراجعا لصالح التفهم والتفاهم. أدرك العلماء المنضوون تحت دار التقريب أن هذه الأمة لها جامع يجمعها، هو اعتقادها في الأصول الكبرى للاعتقاد الإسلامي، فالله واحد، وما الإخلاف بين الفرقاء في موضوع الصفات، سوى سعيا منهم للتنزيه. ومع تقدير حصول الخطا في بعضهم دون الآخر من الناحية الكلامية أو الفلسفية، لا يفسد في الود قضية.

إنما كان للسياسة الدور الأكبر في كل أشكال التناحر الدموي الناشئ من الخلافات الكلامية التي هي في نهاية المطاف اختلافات في الصفات لا في الله. وبناء عليه أجمع المسلمون على وحدة القرآن وحفظه، لم يشد على هذا ذلك مسلم. وما كان بلغنا من قول بعض ممن ينسبون للشيعة بوقوع التحريف أثبتت رسالة التقريب خطأ ما كان يشاع وينتشر
بسبب المناخ الطائفي الفاسد. بل مذهب الإمامية على أن القرآن المعتمد عندهم هو هذا الكتاب الواقع بين الدفتين وبه يتعبد كافة المسلمين. ذكر ذلك كل أعلامهم المعروفين كالإمام الحلي، والصدوق. ويقول الشيخ المفيد في الأوائل :" وقد قال جماعة من أهل الإمامية أنه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين من تأويل.." [١]. كما ان الشيخ الكليني في مفتتح كتاب الكافي، جعل عرض ما جمعه من أخبار وفرز صحيحها من غيره، بناء على قول الرسول الأكرم ( ص ) " ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوا به، وإن خالفه فاضربوا به عرض الحائط". فكيف إذ ذاك يدعوا للعرض على كتاب الله وهو يؤمن بالنقيصة فيه. هذا مع أن ما جاء في باب فضل القرآن وفضل حفظه وقراءته والرجوع إليه من نفس الكافي، يعزز عظمة الكتاب واستمراريته محفوظا وموحدا بين المسلمين. 

يقول السيد تقي الحكيم في الأصول العامة، وهو من أنصار ورجالات دار التقريب بين المذاهب: " مجرد رواية أحاديث النقص وعدم التعقيب عليها، لا يدل على وثوقه بصدورها، ولعل روايتها في النوادر من كتابه دليل تشكيكه بصدورها وكأنه أشار بذلك لما ورد في المرفوعة من قوله: ودع الشاذ والنادر. على أنه التزم في أول كتابه الأخذ بالروايات العلاجية، وهي التي تتعرض لأحكام الخبرين المتعارضين من اعتبار ترجيح أهمهما على الآخر بعرضه على كتاب الله وسنة نبيه، فما وافق الكتاب أخذ به.أما الإجماع الشيعي وهو كالإجماع السني في حفظ القرآن وعدم نقيصته"[٢]. 

وأما من الناحية الثانية، فإن ورود ما تراءى شاذا في مثل هذه المجاميع، إن ثبت حقا مخالفته لمعلوم من الدين بالضرورة واستعصى حمله على ما يتحمله من معاني أخرى أو تعذر الجمع العرفي كما لا يخفى، فإن الشيعة هم أولى بتعديل ما لا يصح. وقد بلغت جرأة الشيعة على كتاب الكافي وهو من أهم مصادرهم الروائية، ما جعل أمثال البهبودي يكتب مختصرا منه يتخلص من كل ما تراءى في حكم غير الصحيح. ومثل هذا التصرف والأخذ والرد جاري به العمل في دوائر الاجتهاد الشيعي. إذ يقول صاحب الكافي نفسه في مقدمة الكافي: "فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله: اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه"[٣] ؛ إن التعاطي بأدوات الجرح والتعديل، وتقنيات الجمع العرفي عند التعارض، عملية دائمة في دوائر الاجتهاد الإمامي، فلا يشكل لهم رد الرواية الضعيفة مع ثبوت مدرك ضعفها أو دليل عدم الصحة أي حرج مع إسناد ذلك بدليل من القواعد الرجالية، لأن مدار الاعتبار ها هنا هو الدليل.
 
لا يأخذ الإمامية أحكامهم مباشرة من هذه المظان، بما فيها تلك المظان المرتبة ترتيبا فقهيا، مثل كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي. فهذا الكتاب هو نفسه تحول إلى مصدر من المصادر التي يدور عليها اجتهاد الفقيه. نعني أن مدار اجتهاد الامامية اليوم لم يعد هو المظان الإخبارية المبثوثة في الأصول الروائية المشهورة والمعتبرة، بل أصبح من تلك المظان التي تؤخذ بعين الاعتبار والاستئناس في موارد الاجتهاد كتب مثل الوسائل للحر العاملي أو الحدائق للبحراني، بعد أن كانت هي نفسها مستنبطة من تلك المظان. ما يعني أن الاجتهاد ماض، فما كان غاية المجتهد اليوم غدا يوما ما مظنة المجتهدين. فالمقلد يتلقى الأحكام من المجتهد المعاصر الحي. وليس في هؤلاء من يؤمن بقطعية الصدور بخصوص الكتب الأربعة التي هي الأصول الروائية الكبرى. فالشيعة ينظرون إليها ككتب معتبرة وليست صحيحية. فهي، كما يقول السيد أبو القاسم الخوئي : ليست قطعية الصدور[٤]. معبرا بذلك عن هذا الخط العقلاني الذي أسسه الوحيد البهبهاني ولمع مع الشيخ الأنصاري في رسائله التي رد فيها كلام الاخباري القائل بقطعية الأصول الروائية.
 
ومثل ذلك أظهرت دار التقريب من خلال كل الأدبيات التي تجلت في إصداراتها من كتب أو مجلة رسالة التقريب، بأن لهذه الأمة نبيا واحدا، ونبوة محمد ص متفق عليها بلا منازع. وكذلك موضوع العدل، وإن اختلفت تفاصيل الرؤية الكلامية والفلسفية، حول ما إذا كان فعل الله
مقيدا بالعدل، أم أن العدل ما كان مقيدا بفعل البارئ تعالى. ولا خلاف في أصل العدالة. والأمر ذاته بالنسبة للمعاد، ولا وجود بين المسلمين لناكر المعاد. بل حتى أولئك الذين اتهموا بنكران المعاد من الفلاسفة كابن سينا أو ملا صدرا ،لم يكونوا كذلك ،وهي شبهة لا رصيد لها من الواقع، بل دونها خرط القتاد، فإن القارئ لمتونهم المطلع على مقالاتهم، يدرك عمق اعتقادهم بالمعاد ماديا وروحيا، فملا صدرا يقف موقفا صارما من ناكري المعاد الجسماني كما كرر ذلك في أعماله الكبرى كالأسفار ومفاتيح الغيب، والمبدأ والمعاد... وأما ابن سينا فقد اعتبر أن اعتقاده بالمعاد، كما في الشفا، تسليما بما جاء به الوحي، وإن بدا أمرا مستحيلا من الناحية الفلسفية. وقد جارى في ذلك موقف الفارابي كما سار على نهجه في ذلك عموم الفلاسفة قبل أن يأتي رائد الحكمة المتعالية ليعيد بناء القول الفلسفي للمعاد على أسس بحثية فلسفية برهانية قاطعة..وتظل مسألة الإمامة كأصل خامس عند الإمامية بخلاف السنة الذين اعتبروها من الفروع. وفي هذا نقاش وتفاصيل نوقشت عبر التاريخ الإسلامي. غير أن ما أظهرته رسالة التقريب، أن وجوب الاعتقاد بالإمامة، لا يلزم المخالف. بهذا المعنى هم يفرقون بين ما هو من ضرورات المذهب وما هو من ضرورات عموم الإسلام. ونظير هذا النوع من المراعاة لمقطوعات المذاهب الأخرى، ما جاء أيضا في مجال الفروع. ومثاله ما جاء في باب قضاء الصلاة، حيث ذكر المصنفون أمثال صاحب الروضة البهية، الشهيد الثاني وصاحب العروة الوثقى السيد محمد كاظم الطباطبائي عدم وجوب القضاء على من أصبح إماميا وصلى على أحكام وشرائط المختلف في الطهارة والأركان على الاختلاف الاجتهادي المعروف. بل، إن السني لو أصبح إماميا، وكان قد أخل بالصلاة على الشرائط والأحكام الاجتهادية السنية، يجب عليه القضاء، حتى لو طابق ذلك أحكام وشرائط الصلاة عند الإمامية. يقول السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي في العروة الوثقى: "يجب على المخالف قضاء ما فات منه أو أتى به على وجه يخالف مذهبه، بل وإن كان على وفق مذهبنا أيضا على الأحوط، وأما إذا أتى به على وفق مذهبه فلا قضاء عليه.." [٥]. على أن اختلاف الصلاة هنا ليس اختلافا في الركوعات أو السجودات أو القراءات وما دون ذلك، بل هو اختلاف في بعض الأحكام الفروعية التفصيلية، سواء ما بين السنة والشيعة أو بين أئمة المذاهب الأربعة، كتفاصيل القضاء كما في حال السفر لمن لم يصل الرباعية في محلها، ثم سافر ؛ فهل يقضي قصرا أم يتم، فهذا يتوقف على: هل المعتبر هو الإنشاء بالأمر أم الامتثال، وكذلك في حساب السجدتين ، هل الركنية مجزئة بالواحدة أو بالاثنين معا وما شابه ذلك من ضروب الاختلاف في ماهيات الأركان، خلاف يحدث بين السنة والسنة، وبين الشيعة والشيعة، وهو مجال للاختلاف العلمي والأدلة الشرعية.

وقد بات من روائع ما استطاعت دار التقريب أن تنزع إليه تحت ضغط الغيارى على الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب من السنة والشيعة، أن أنجبت الأزهر من فرسان الفقه والفتوى ،من جسدوا أروع معنى الشجاعة في هذا الاتجاه، لينتصر للوحدة والتقريب، انتصارا عمليا من موقع الفتوى وزعامة الأزهر، ومن هؤلاء الشيخ عبد المجيد سليم رئيس لجنة الإفتاء في جامعة الأزهر، حيث كان من أبرز المتصدين للعمل من أجل إيقاف نزيف الفرقة والتشرذم بين المسلمين. وقد عبر عن ذلك الواقع المزري،قائلا:"ولكن المسلمين لم يلبثوا أن انحرفوا عن هذه السبيل، واتخذوا من خلافاتهم عصبيات جامدة لا تعرف التفاهم، ولا تنزل على حكم البرهان والعقل، فكانوا باختلافهم المذهبي كالمختلفين في الدين". و حيث أنه أدرك أن هذه الأمة لن تصلح إلا إذا تخلصت من هذه الفرقة، ارتأى أهمية إشراك كل المذاهب الإسلامية والانفتاح عليها، وقد عبر عن هذه الحقيقة بشجاعة ناذرة :"ولقد أدركنا في الأزهر على أيام طلب العلم، عهد الإنقسام والتعصب للمذاهب، ولكن الله أراد أن نحيا حتى زوال هذا العهد، وتطهر الأزهر من أوبائه وأوضاره، فاصبحنا نرى الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي، إخوانا متصافين وجهتهم الحق وشرعتهم اللدليل، بل أصبحنا نرى بين العلماء
من يخالف مذهبه الذي درج عليه، في أحكامه لقيام الدليل عنده على خلافه، وقد جريت طول مدة قيامي بالإفتاء في الحكومة والأزهر وهي أكثر من عشرين عاما على تلقي المذاهب الإسلامية ولو من غير الأربعة المشهورة بالقبول، مادام دليلها عندي واضحا، وبرهانها لدي راجحا، مع أنني حنفي المذهب(...) وعلى هذه الطريق تسير " لجنة الفتوى بالأزهر " التي أتشرف برياستها. وهي تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة."[٦] 

وعلى المنحى نفسه جاءت كل البيانات والخطابات التي صدرت من أعضاء جمعية التقريب والمتعاطفين مع المشروع، كالشيخ محمد أبو زهرة وكيل كلية الحقوق بجامعة القاهرة و الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء والسيد تقي الحكيم وأمثالهم. وقد جاءت فتوى فتوى الشيخ شلتوت التي كان لها وقع كبير في نفوس أنصار الوحدة والتقريب، فنال بها منزلة في تاريخ التقريب بين المذاهب ما لا يخفى على أهله، وذلك حينما بلغ بالموقف التقريبي منتهاه، برأيه الفتوائي الذي يعتبر فيه المذهب الجعفري، من مذاهب أهل السنة التي يجزي التعبد بها.
 
ويظهر من فتوى شلتوت ما يؤكد استيعابه لمشكلة المذاهب وحقيقتها. فلمّا أدرك أن مذهب السنة ليس مذهبا منسجما وإنما هو إطار وليس مذهبا لأنه يشمل مذاهب كثيرة مختلفة في ما بينها. ثم نظر في المذهب الجعفري فرأى فيه مقومات أي مذهب إسلامي آخر من حيث الأصول الثلاثة ومن حيث الأحكام. والشيخ شلتوت ليس من عوام الناس ولا أنه كان مكرها على قول ذلك في ذلك الزمان، وإنما هي نباهة العلماء وإرادة الوحدة والتقريب والإحساس العارم بالمسؤولية. 

وبعد ذلك كان للجمهورية الإسلامية دور كبير ولا يزال أمامها أدوار أكبر تلعبها في هذا المجال، حيث كان "أسبوع الوحدة" تجسيدا عمليا، يستحق أن يسمى ب"عيد الوحدة والتقريب"، والجهود التي يقوم بها المجمع العالمي للوحدة الإسلامية. فهو يترجم طموحا نبيلا كان ولا يزال واحدا من أهم أهداف الثورة الإسلامية في إيران. 

وكما أن الطرف السني مطالب بتفهم الطرف الشيعي في مختلف ما تعبد به لوجود الدليل، وعدم اعتبار كل التهم التي راجت في عصور الانحطاط، كذلك على الطرف الشيعي أن يدرك، بأن قتلة الحسين ليسوا هم أهل السنة. وإن أهل السنة اليوم لو خيروا أن يتبعوا عليا أو معاوية اليوم، لاتبعوا عليا. وإن ما حدث في كربلاء أمر مرفوض. ومنهم من قتل حبا في أهل البيت. 

فهاهو ذا المحدث النسائي، الذي مات من شدة الرفس والضرب الذي تعرض له لما كتب كتابه الشهير : خصائص الإمام علي بن أبي طالب، في الشام. ومع أنه من أهل الصحاح السنية المشهورة، إلا أنه اعتبر ممن تشيعوا بالحديث. فالنسائي بهذا المعنى شيعي أهل السنة، بل هو شهيد السنة والشيعة. ولا ننسى أيضا موقف بن حنبل الذي روى الكثير عن فضائل أهل البيت، بل لا ننسى أن بن حنبل هو أول من أدخل التربيع إلى السنة، فهو أول من اعتبر علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين بعد أن جرت العادة قبل ذلك على اعتبار الثلاثة فقط. وهو راوي حديث "كل نسب وحسب ينقضي يوم القيامة إلا حسبي ونسبي"، وهو راوي حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه" وغيرها مما لا يصح أن يرويه ناصبي يكن عداءا وكراهية لآل البيت. ولذا تعين إعادة النظر في العناوين، حيث اليوم، غالبية المسلمين لا يختلفون حول أهمية أهل البيت، وبما أن أصل التشيع ما هو إلا محبة أهل البيت، فإن الحب لا يقاس بمقياس واحد، فثمة من يحب قليلا وثمة من يحب كثيرا. فالاختلاف درجي وليس جوهري. بهذا المعنى يكون أهل السنة بما يكنون من محبة لأهل البيت على درجة من التشيع، والشيعة بما يتبنونه من سنة الرسول ص، هم من أهل السنة. فالموقف التقريبي يرفض هذا الاختصاص ويعيد طرح التساؤل على مثل هذه العناوين ذات الخلفية التاريخية. 
****
[١] أنظر المفيد، أوائل المقالات ص٩٢ ، دار الكتاب الاسلامي.
[٢] الأصول العامة للفقه المقارن ، ط٣ص١١٠ دار الأندلس /بيروت
[٣] الكافي، ج١ص٨، الناشر دار الكتب الاسلامية/تاريخ انتشار:تابستان ١٣٦٢ه
[٤] انظر معجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج ١ص٢٣٥ منشورات مدينة العلم ، ايران ط ٣-١٤٠٣ه.
[٥] العروة الوثقى، ج١ ص٥٧٥ ،ط٤ انتشارات دار التفسير/اسماعيليان قم –خيابان ارم
[٦] بيان للمسلمين، نقلا عن مجلة رسالة الإسلام التي كانت تصدر عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة ،انظر مجلة الكلمة العدد ٥ السنة الأولى خريف ١٩٩٤م/١٤١٥ ه . 

 *كاتب مغربي
المصدر : صحيفة هسبريس المغربية

https://taghribnews.com/vdcfcedm.w6dxvaikiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز