تاريخ النشر2010 22 August ساعة 11:39
رقم : 24017

رمضان و التراث الشعبي في سوريا

انفردت مدينة دمشق بتقاليد اجتماعية مميزة عن مثيلاتها من الحواضر الإسلامية ، ولما كانت تلك التقاليد لا تتعارض بمجملها مع تعاليم الإسلام الحنيف فإنهم كانوا يعتبرونها جزءاً من تراث شهر رمضان،ورمضان من دونها يفقد بهجته في نفوسهم ،
رمضان و التراث الشعبي في سوريا

وكالة أنباء التقریب (تنا):
في لقاء لمراسل وكالة أنباء التقریب  (تنا ) مع الأستاذ الباحث منير كيال المختص بشؤون التراث الشعبي (له حوالي ٢٠ مؤلف حول التراث الشعبي والأمثال الشعبية وما شاكلها أكثرها مطبوع وبعضها تحت الطبع) حول الحياة الاجتماعية في دمشق أفادنا بالتالي:
اجتمعت لشهر رمضان من الخصائص ما لم تجتمع لغيره من أشهر السنة مجتمعة ، ولم نعرف شهراً وصفوه بالمبارك والكريم غير شهر رمضان ، وله بين الشهور طابعاً أسمى وأدباً أمثل ومكانة أجل وأسمى ـ وكان شهر رمضان شهراً مقدساً عند العرب قبل الإسلام .
وقد انفردت مدينة دمشق بتقاليد اجتماعية مميزة عن مثيلاتها من الحواضر الإسلامية ، ولما كانت تلك التقاليد لا تتعارض بمجملها مع تعاليم الإسلام الحنيف فإنهم كانوا يعتبرونها جزءاً من تراث شهر رمضان،ورمضان من دونها يفقد بهجته في نفوسهم ، ومن ذلك ما كانوا يطلقون عليه اسم (تكريزة رمضان) وهي عادة قديمة جرى عليها العامة ، كانوا قبل حلول شهر رمضان بيوم أو يومين يقومون بنزهات أسرية على شكل جماعات من الصحب إلى مناطق الغوطة الشرقية أو إلى مناطق الربوة والمقسم والشادروان والفياض ... مما يروي ولعهم بالخضرة والظلال وأفانين الجمال .. فنجد جماعة افترشت جانباً من مكان مطل على مناظر الخضرة والماء ، وجماعة اتخذت مسطبة على ضفة النهر، وأخرى اتخذت مكاناً بالفيضية المجاورة لنهر وافترشت الأرض بين الأشجار وعمدت إلى حجب نفسها عن أعين الغرباء والحشريين بحواجز قماشية شدت بين شجرتين أو أكثر بحيث لا تحجب الرؤية من التمتع بالنسيم العليل والماء المنساب بين الأشجار.
وفي حين تنهمك النسوة في إعداد الطعام من أنواع المقالي أو الشواء ونحوه، يكون الرجال والشباب بين اللعب و...، وقد ينفرد البعض للمساهمة مع النسوة في إعداد الطعام .. على حين يتلحق بعضهم حول شاب يقدم وصلة غنائية تراثية مع الميجنا والعتابا وبعض المنولوجات الشعبية ، ويذهب البعض إلى تفسير هذه الظاهرة على أنها وداع لما لذ وطاب ... وفسحة يعيش المرء بعدها بعيداً عن ملاذ الحياة الدنيا ... وقد يستمر المرء مع روحانية رمضان .
وكان من الأمور الهامة التي اعتاد الناس، رصدها أمر إثبات مولد هلال الشهر، هذا يلتزم بأسس علمية ففي آخر ليلة من شهر شعبان ، يجلس القضاة والعلماء والوجهاء في المسجد الأموي خلال الساعات التي يتوقع فيها ظهور هلال رمضان لإعلان الصيام وكان بكل مدينة في سوريا مجلس مماثل على إتصال دائم بمجلس مدينة دمشق الذي أصبح ينعقد في المحكمة الشرعية وحتى ساعة متأخرة من الليل بانتظار من يثبت مولد هذا الهلال، فإن كان الإثبات فإن القاضي يتأكد من الشهود عن حقيقة مولد الهلال من حيث ( موقعه وشكله وحجمه واتجاهه ومكان المشاهدة ووقتها) فإن توافق ذلك مع الميقات والشكل الفلكي للهلال يجري التشاور في المجلس ويعم ذلك الإتفاق وبالتالي تنار المساجد ويخرج المسحرون للبشارة ، وينفض الوجهاء كل إلى حيه ليبادر المنادون بقرع الطبول وإعلان الصيام ويكون الاهتمام بإعداد المساجد لاستقبال المدرسين والوعاظ وجماهير الناس قبل حلول شهر رمضان بمدة كافية لاتمام ما من شأنه أن تكون المساجد على أحسن ما يرام من دهان وتنظيف وفرش سجاد قد لا نجده في سائر أيام الحول.
وفي هذا الشهر كانت تشيع في النفوس روح التسامح والمحبة ، كما تغلق أماكن العبث ، وتنسد جميع السبل أمام ضعاف النفوس، فلا يخرج أحد عن الأخلاق العامة والتقاليد المرعية ، ولا يكاد المرء يعرف أبناء الديانات الأخرى لمراعاتهم مشاعر المسلمين في صيامهم...
وكان أهل البر والخير يوقفون جانباً من أموالهم لتقديم البر للفقراء وطلبة العلم الذين يحجون إلى دمشق للتفقه في أمور الدين وتعاليمه.
وكان العلماء أكثر الناس احتفاءً بشهر رمضان .. فما أن تعلن مراسم إثبات مولد هلال الشهر ، حتى كان العلماء ومشايخ الطرائق الصوفية والوجهاء يتوافدون إلى دار نقيب السادة الأشراف مباركين و مهنئين بحلول الشهر الفضيل .. كما يزور ممثل رئيس البلاد السيد نقيب السادة الأشراف.. فضلاً عن قيام وفود من أبناء الديانات الأخرى بهذه الزيارة للمباركة والتهنئة بحلول شهر رمضان.
ويكون إحتفاء الأسرة كبيراً بهذا الشهر ، يومها ( وأقصد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم) كانت الأسرة الكبيرة تجتمع على مائدتها الأب والجد والأولاد والأحفاد وجميعهم يلتف حول مائدة واحدة ويأكلون طبخة واحدة بمحبة وإيثار ما بعده إيثار.
ولعل من أطرف ما كان من أشكال هذا الإحتفاء بشهر رمضان ، أن الأسرة تحتفل بصيام أصغر الأبناء أو البنات للمرة الأولى .. فقد طافت جدتي وأنا على أكتافها أنحاء دارنا في محلة كيوان ، وقد كانت لا تستطيع أن تجلس( تعدل) ظهرها حتى بمساعدة عكازها .
ويصاحب مزاولة الناس لأعمالهم اليومية مسحة من التذكر والاعتبار ، على حين تسود الناس صلات اجتماعية فريدة من نوعها .
ففي مساء أيام الأسبوع الأول من الشهر يتزاور أفراد الأسرة للتهاني والتبريك ويشمل ذلك أصول وفروع الأسرة فعند إعلان مولد الهلال يتوافد أفراد الأسرة إلى مجلس كبيرها أو عميدها ويقبلون يده مهنئين ومباركين ...
وفي بداية الأسبوع الثاني من شهر رمضان يأتي دور النساء في المباركة وتقديم التهاني ...بحيث تلغى مواعيد الاستقبال المألوفة ويصبح لشهر رمضان خاصية خاصة عندهن ، فيتبادلن التهاني والمباركة عصر كل يوم ويدور حديثهن حول مآدب الطعام وطرق إعداده ، قد يتساعدون في ذلك ، كما أنهن يتهادين (يتساكبن) أطباق الطعام فتكون المائدة ..ويعتقدون أن في ذلك ثواب...
كما يقمن ليلة إثبات الهلال بزيارة الأسر المنكوبة بوفاة عزيز عليها من باب المواساة سواء كان ذلك لدى الأهل أو الجوار ... وذلك حتى يشعر أهل الفقيد بالسلوى والمؤانسة .. لأن إعلان هلال رمضان يكون لأهل الفقيد بمنزلة تجدد الآلآم والأحزان ، كما يقوم الرجال بهذا التقليد أيضاً وبخاصة إذا كان الفقيد قريب النسب إليهم ، ويذهب معظم النسوة وبخاصة المسنات منهن إلى البرية (المقابر) لزيارة موتاهن عصر اليوم الأول من شهر رمضان ويأخذن معهن النواشف من الطعام كالكبة والصفيحة والعجة وبعض الحلوى وأحياناً بعض التين أو الزبيب والحلاوة لتوزيعها على الفقراء عن روح موتاهن طالبات لهم الرحمة والغفران .
وكثيراً ما يكلفن الصبية والقراء بقراء سورة (يس)أو سورة (الرحمن) من القرآن الكريم ووهب ثواب هذه التلاوة إلى روح من كانت بسببه.
وقد يندبن ويلطمن بكثير من التفجع المبالغ فيه لأن من عادة النسوة المبالغة في مثل هذه الأمور ، ومن العيب عدم إظهار ذلك.
ومن المألوف إكثار أغصان الآس والورد في (مطعمة القبر) وهي المكان المخصص لذلك ، كما قد يضعن صورة الفقيد في مكان بارز من شاهد القبر وهي موشاة بالسواد.
وإذا كان من حق عميد الأسرة قيام جميع أفراد الأسرة بالمباركة له بحلول شهر رمضان فإن عليه أن يولم لهم إفطار ويكون إفطار اليوم الثاني لدى من يلي العميد مكانه وتستمر هذه الحال حتى ولو استنفذت إفطار معظم أيام شهر رمضان ، وبالتالي لا ينسى عميد الأسرة دعوة فروع الأسرة إلى مائدة إفطاره وكذلك الأصحاب والجوار والفقراء.
ولعل من الخصائص المميزة لشهر رمضان أن الناس يستعدون لاستقباله قبل حلوله بأسابيع ، فالأكلات الطيبة لرمضان والمونة (ادخار الطعام) لرمضان وتستعد الأسواق لتلبية حاجات الناس بشكل منقطع النظير ، فيدب فيها النشاط وتمتلئ بالسلع من رز وسكر وسمن وطحين وفستق حلبي ونقوع و قمر الدين...
ومعظم ليالي رمضان يقضيها الخاصة في الصلاة والتهجد والأذكار حتى يحين وقت الأمساك ، ومنهم من يلتزم صلاة التراويح بتلاوة من القرآن الكريم حتى يتم ختم القرآن في الشهر ، وبعد السحور تعقد بعض الأذكار في المساجد والجوامع.
وكان إذا أتم شهر رمضان ثلاثين يوماً يلتقي مشايخ الطرائق الصوفية مع مريديهم عصر ذلك اليوم في المسجد الأموي ، ويكون لكل جماعة طريقة مكان مألوف يجتمع فيه المريدون ، فالسعدية أمام المحراب الحنفي والتغلبية أمام مقام سيدنا يحيى ، وهكذا تنجمع الطرائق الرفاعية والقادرية والهاشمية والتلمسانية والأحمدية والمولوية والشاذلية.
إضافة إلى آل سلطان واليافي والعيطة والخطيب و ...
ثم يلتقون ويقومون بتلاوة الاوراد والأذكار والتهليل والتكبير والمدائح النبوية والتوديع لشهر رمضان ... ويشاركهم في ذلك عامة الناس المتواجدين بطبيعة الحال في الجامع.
وكانت ليلة القدر ليلة مميزة ويشارك فيها غالب الطرائق الصوفية وتحيى هذه الليلة في مقر الطريقة السعية في حي القيمرية ويحضر إحياء هذه الليلة نقيب السادة الأشراف والمفتي العام والعديد من العلماء والأئمة ... كما يحضرها وزير الأوقاف ومحافظ دمشق وقائد الشرطة وعدد لا يحصى من الناس ... ويجري في هذه الليلة تلاوة ختم للقرآن الكريم ، وتقدم التهاليل والتسابيح والأوراد والمدائح والموشحات الدينية في وداع الشهر , ويختتم الاحتفال بالتبرك بزيارة (رؤية) الشعرة النبوية وهي هدية من سلطة الدولة العثمانية.
أما ليالي شهر رمضان لدى العامة : فقد كان لها نكهتها وروعتها ، ففي هذا الشهر تعود السهرات الدمشقية، ويجتمع الأقارب فيتبادلون النكات ورواية أخبار السلف وقفشاتهم ، وقد يتخلل تلك السهرات المزاح البرئ والأحاجي والمساجلة بالأقوال والأمثال والأزجال والحكايات ، ومن هذه السهرات ماكان يقوم على التحدث عن الآخرين بما يعرف ب( المقلاية) إشارة إلى تقليب أوضاع الآخرين بكل ما هو سبي ، فما أن يذكر اسم الشخص حتى تلصق به مساوئ وتنفى عنه محاسن ويقلب في تلك المقلاة ذات اليمين وذات الشمال فلا يترك إلا شلفطاً.
وقد تتعرض إحدى النسوة أو تتصدى لتقليد ومحاكاة سلوك وتعامل أحد الجوار أو الأقارب في سكناته وحركاته وما يؤخذ عليه من قول ، وبالطبع فإن ذلك التقليد لا يكتمل إلا إذا كانت المرأة التي تقوم به قد ارتدت ثياباً أقرب إلى ثياب ذلك الرجل المستهدف في التقليد.
ومن لم يتيسر له من الرجال حضور تلك السهرات فيكون مآله إلى المقهى لسماع الحكواتي أو لحضور بابة أو فصل من فصول مسرح الظل لدى الكركوزاتي.
والحكواتي: قصاص شعبي كان يقوم مقام وسائل الإعلام المقروة أو المسموعة أو المرئية التي نراها في هذه الأيام...ذلك أنه من ثلاثينيات القرن المنصرم وحتى الأربعينيات منه كان عدد الذين يمتلكون جهاز المذياع يعدون على الأصابع في حي كحي الشاغور بدمشق مثلاً .... وعند ظهور التلفاز كان الساهرون ينتقلون من حارة إلى حارة للاستمتاع بمشاهدة ما يعرض على شاشة التلفاز، حتى إن بعض من النساء كن يتجبن أمام المذيع بالتلفاز.
وكان الحكواتي يتخذ مكانه على سدة مرتفعة في صدر المقهى بحيث يراه الحضور لاستمتاع برواية ما يقدم من قصص الزير سالم وعنترة العبسي والملك سيف بن ذي يزن والهلالي ، وكل ذلك مشفوعة بالحركة والتعبير وكما هو معروف ، إن قص السير والأخبار كان معروفاً منذ القدم ، فقد كان المسلمون يلتقون في المساجد للاستماع إلى أخبار الفتوح والمغازي التي كانت تقوم بين المسلمين وخصومهم ... وما يرافق ذلك من بطولات خارقة ثم انتقلت هذه الظاهرة إلى خارج المسجد وأصبحت في الساحات ثم استقرت في المقاهي.
وأخيراً أذكر لكم( مسحر رمضان)فقد كان له شأن على صعيد الحياة الاجتماعية ، فالصائم في سحوره كان يأنس إلى المسحر الذي يوقظه على ذكر الله وإلى طاعة الله لأداء فريضة الصيام ، وهو رفيق الأطفال في إفطارهم ويؤثرونه على أنفسهم ومن المسلم به أن الهدف من التسحير إنما تنظيم إمساك المسلمين وإفطارهم في البلد الواحد.
وكان يسحر مدينة دمشق قبل أن يمتد عمرانها ويشهق بنيانها مسحر واحد يصعد على مكان مرتفع ومعه طبل كبير يقرع عليه ويصيح بأعلى صوته :
ياسامعين ذكر النبي عالمصطفى صلو
لولا النبي ما انبنى جامع ولا صلوا
اجت الغزالة للنبي وقالت يا نبي ولادي
صارلن من تلت أيام لاماء ولازادي
ثم تطورت الحياة ، وتلك هي سنة الكون فخرجت دمشق من سورها وامتد عمرانها أفقياً وعمودياً وتزايد عدد المسحرين تبعاً لذلك ، وقسمت أحياء المدينة إلى مطافات ، لكل منها مسحر خاص لا يتعداه إلى مطاف غيره ، وتوارث المسحرون هذه المطافات وكان لهم نقيب وشاويش لكي حي ، وتشرف هذه المشيخة على تنظيم تسحير المدينة ومراعاة أصولها وآدابها والحرص على مواعيدها.
فإذا انتصف الليل وخيم الهدوء على دمشق ساد السكون ، وغدت المدينة بين أحضان الكرى ، تبدأ مراسلات المؤذنين بين مساجد دمشق الكبرى بالتسابيح والتوسلات والمدائح النبوية ... وينطلق نداء حبيب يقرع القلوب والأسماع في الهزيع الآخر من الليل:
يانايم وحد الدايم
يانايم وحد الله
لا اله إلا الله
وتنطلق الدقات على طبول صغيرة بسحر وإغراء تشق سكون الليل وتوقظ القوم إلى ذكر الله ، وتذكر ما عليهم حيال البؤساء والفقراء.
ونظراً للألفة التي كانت بين المسحر وأهل المطاف الذي يقوم على تسحيرهم فقد نشأت محبة كبيرة بين الأطفال والمسحر ... فكان أن أصبح المسحر يطوف بعد الإفطار ويتعايش مع الأطفال في محبة وبراءة فينشدهم ويغني ما يحبون إكراماً لصيامهم ،
على ما كان من اشتطاط بعضهم على المسحر كقولهم:
ومما كان يقدمه المسحر للأطفال في فترة ما بعد الإفطار مقطوعات :....
وكان يختم كل مقطوعة مما يغنيه للأطفال بقوله :
( كل سنة وأنتم سالمين ، وأولادكم سالمين ، أحياكم الله إلى كل عام).
ناصر الحكيمي \ دمشق


https://taghribnews.com/vdcfexd0.w6djyaikiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز