تاريخ النشر2018 25 October ساعة 12:33
رقم : 371832

الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية؟

تنا-بيروت
أحدثت التكنولوجيا الحديثة تغييراً كبيراً في شكل الطرق التي يتم بها الحديث عن الذات عبر الإنترنت، فسمحت بظهور ما يُطلق عليه "الذاتية عبر الشبكة".
الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية؟
في هذا الكتاب "الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟"، يعمل الباحث الفرنسي المتخصّص في اجتماعيات الإعلام، ريمي ريفيل، على تحليل وتفكيك ما يسمى باسم "الثورة الرقمية"، تلك التي أحدثت تغييراً هائلاً في العالم المعاصر، بحيث لم تقتصر آثارها على الصناعات وطرق الإنتاج فحسب، بل امتدت كذلك إلى المنظور المعرفي الإنساني بشكل عام.

ويطرح ريفيل العديد من التساؤلات، من قبيل مزايا انتشار المعلومة وتأثير التكنولوجيات الحديثة على تصرفاتنا الشخصية والجماعية، وتقييم كيفية التصرف والتفكير والمعرفة.

 الثورة الرقمية... هل هي الثورة المعرفية الثالثة؟

في بداية الكتاب، يؤكد ريفيل على أن الثورة الرقمية التي يمر بها العالم المعاصر، هي ثورة مرتبطة بتنمية التكنولوجيا والإعلام والتواصل، وهي الثورة العالمية الثالثة على المستوى المعرفي، بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الآلة البخارية وسكة الحديد، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول.

ويبرز المؤلف وجهة نظر المؤرخ الفرنسي بيار كارون، التي تذهب إلى أن تلك الثورات الثلاث مختلفة جداً بصورة مبدئية، لكن لديها سمات مشتركة. ففي كل مرة نلاحظ ظهور شبكات موسعة (سكة الحديد، الكهرباء، والإنترنت)، مع ظهور شخصيات مبتكرة مثل جيمس وات وآلته البخارية، توماس أديسون وإمبراطوريته الصناعية، وبيل غيتس مع ميكروسوفت، فتلك التطورات التكنولوجية قامت بخلخلة طرق الإنتاج وطرق الاستهلاك واقترنت بظهور تصوّرات تعزز ميلاد الإنسانية الجديدة.

لماذا هي ثورة جديدة؟

يشرح المؤلف السبب الذي دعاه إلى وصف الثورة الرقمية المعاصرة، بكونها ثورة معرفية جديدة، حيث يؤكد على أن مجتمعاتنا الحديثة اليوم تعتبر في حالة خضوع لازدواجية معايير وهيكلة شاملة وعميقة للرأسمالية من جهة، وازدهار ما يسمى "المجتمع المعلوماتي" من جهة أخرى. بمعنى أن هناك عالماً أصبحت فيه عوامل الإبداع والمعالجة وانتقال المعلومة بشكل سلس، هي عوامل تشكيلية محددة للمصادر الرئيسية للسلطة والإنتاجية، وبمثل هذا السياق فإن تكنولوجيا الإعلام والتواصل، وبطريقة استعمالها في الشبكة وبمرونة تكيّفها وإعادة تنظيمها، تسهم في إبراز نمط جديد للحياة في المجتمع، وهو الأمر الذي يخلق ويشكّل ثورة معرفية جديدة بجميع المقاييس.

بمراجعة تاريخ وسائل الإعلام المسماة "كلاسيكية" أو تقليدية، فإننا سنجد سلسلة من الاختراعات التقنية (كالصحافة المطبوعة، والراديو، والسينما، والتلفاز)، والتي أثبتت مساهمتها في ظهور طرق جديدة في استهلاك المضامين الإعلامية، وخصوصاً في الميدان السمعي البصري.

يؤكد المؤلف أن ابتكار تلك الآلات الإلكترونية من أجل معالجة المعطيات (الحواسيب)، كان مخصصاً أصلاً للبحث العسكري، وأن دخولها في المجال المدني قد أصبح أكثر فاعلية بمرور الزمن لتدخل تدريجياً خلال الأعوام 1960 و1970 إلى المؤسسات والإدارات والمقاولات الكبرى، وهو ما نتج عنه شيئاً فشيئاً ما يسمّى "بالإعلام الرقمي" أو "التكنولوجيا الرقمية".

يؤكد ريفيل أن القطاع السمعي البصري قد تأثر بشكل كبير بالتقنيات الرقمية الحديثة، فالتلفاز على سبيل المثال، هو أحد الأجهزة التي تغيّرت كثيراً، فاليوم، أصبح للتلفاز ثلاثة أشكال (من حيث حجم الإرسال) وهي، التلفاز الرقمي بباقات عبر الكابل أو القمر الاصطناعي، والتلفاز الرقمي الأرضي والتلفاز على الويب.

 ما الإنترنت؟

يذكر الكاتب أن التمثيلات التي انبثقت عن التكنولوجيا الرقمية، يمكن فهمها جزئياً من خلال تحليل بعض مكوّنتها الأساسية، أي الشبكة العنكبوتية أو ببساطة الإنترنت. والسبب في ذلك يتمثل في كون الأخيرة تمرر في الواقع التصوّر المرتكز على الخطابات الأكثر تجانساً، وهذا التصوّر يأخذ أبعاداً خيالية، بل وحتى أسطورية.

ففي اعتقاد المستخدمين التقليدين، يتعين على الإنترنت أن توفر خلق مجتمع أكثر حرية وتفتحاً، وتكون المعرفة متاحة لأكبر عدد ممكن من الأفراد، وأن تكون الأشكال التشاركية هي الأصل، بحيث يستطيع الأفراد اختراق الحواجز المؤسساتية والتنظيمية بفضل ربط شبكي موسع، كما أنهم يشككون في الهرم السياسي، ويأملون في العيش بطريقة ديموقراطية.

استعمال التكنولوجيا الجديدة

ويذكر الباحث أنه إذا أردنا فهم التأثير الحالي للتكنولوجيا الرقمية في الأفراد وفي المجتمع المعاصر، فإنه يتعين علينا دراسة التأثيرات المتبادلة ما بين التكنولوجيا والمجتمع، لأن كليهما وحدتان غير مستقلتين؛ فهما في حالة تفاعل مستمر ودائماً في حالة تشابك والواحد منهما يقود إلى الآخر.

هنا يلفت ريفيل النظر إلى وقوع حالة من حالات التماهي والاندماج ما بين القارئ والكاتب، أو المتلقي والمصدر، حيث تتميز التكنولوجيا الرقمية بتلك الخصوصية التي تجعل من المستخدمين في الوقت نفسه مستفيدين ومنتجين للمحتويات الإعلامية، منها على سبيل المثال (تأليف الموسيقى، وإنشاء مدوّنات، وتصوير فيديوهات). ومن هنا فيتعين على الباحثين "دراسة أنواع الحوارات المتبادلة وأنماط الخطابات والاستعمالات الشخصية أو الجماعية للويب عبر المجموعات الممارسة وروابط الألفة بين المبحرين ومجموعة المستخدمين على الخط الذين يتبادلون النصائح والمعرفة والملفات الرقمية والفيديوهات …إلخ".

 السوق الرقمية

ولكوننا مستخدمين للإنترنت أصبحنا أكثر ارتباطاً بشكل متزايد بالواقع والشبكات الاجتماعية التي يجري عبرها تبادل الآراء والتعليقات والملفات وأمور أخرى مهمة، مثل (أفلام، وكتب، وموسيقى، وألعاب)، حيث أصبحت جميع تلك المنتجات الرقمية، رهن إشارتنا بمجرد ضغطة على الزر، وهو الأمر الذي يبرز تجلّي الرقمي إذن كسوق مفتوح قابل للعرض والطلب.

ويرى ريفيل أن من الضروري حالياً الأخذ بعين الاعتبار ما يسمى بالتقارب بين عالمين مهمين قائمين، وهما عالم الصناعة الثقافية من جهة وعالم التواصل الرقمي المعلوماتي من جهة ثانية، حيث أسهم ازدهار الإنترنت –بشكل كبير– في تغيير شكل المؤلفات ومحتوياتها. كما أسهم في انتشار المعلومات، ومن ثم فإنه ومع انتشار الشبكات الرقمية، سنكون قد دخلنا بالفعل في "اقتصاد المعلومة عبر الشبكة"، وهو الاسم الذي يختاره المؤلف لوصف هذا الاقتصاد الجديد.

وبحسب ريفيل، فإن هذا الشكل الجديد من الاقتصاد، سيأتي ليزيح الأشكال السابقة للإنتاج الصناعي الإعلامي والثقافة، حيث يتميز بنزعته المميّزة للفردية والاستقلالية والابداع البشري والربط بين مجموعات هائلة من البشر في شتى أنحاء العالم.

 الانتشار والأصالة

يرى ريفيل أن هناك بعض الآثار السلبية التي ترتبت على انتشار الثقافة الرقمية، وأهم تلك الآثار هو وقوع التعارض ما بين أصالة الفكرة من جهة ودرجة انتشارها من جهة أخرى.

وبحسب تعبيره: "اليوم جرى تعويض ذلك الدور الكبير لوسائل الإعلام التقليدية بتقنية تصنيف أفضل المبيعات التي تبثها المواقع التسويقية من بعد وبالتعليقات المتوالية، كإعلان أو رأي عبر الويب، لقد أصبحت وسائل الإعلام التقليدية، ووسائل الإعلام الرقمية، عناصر الدفع الرئيسية للشهرة: فتعطي شرعية أكثر أو أقل لبعض المبدعين، وذلك بفضل صدى ترتيبهم، في الواقع فإن المرتبة المتحصل عليها من طرف أحد الفنانين أو الكتاب تتقوى بشكل آلي، وذلك في حدود كون اهتمام الجمهور يتجه نحو الرابحين تحت تأثير كرة الثلج... فالنجاح الإعلامي الناتج عن الدعاية عبر الشبكات الاجتماعية يضاعف –بشكل كبير- من سمعة البائع".

ويرى المؤلف أنه في تلك السوق الرقمية يُستهدف أكبر عدد ممكن من الناس، وذلك بالتوجه نحو كل فرد على حدة، وفق رغباته التي جرى تحديدها عن طريق أجهزة تقنية متعددة، وبطرق دقيقة لتحديد العادات، وعن طريق تلك المعطيات يجرى تحديد الجمهور وفق النوع والصنف، بمعنى "إلى أي نوع وصنف من المستهلكين للعرض والطلب في مدة محددة، وتنمية الرابط المناسب مع المستهلك، مع تقييم تطلعاته وتوجيه ورغباته.. أما الهدف فهو جعله يدخل في بناء العرض، وأن يثير من جهته رداً عبر الضغط على الزر، وذلك خلال لحظة التسجيل أو الشراء. فكل الاستراتيجيات المعتمدة عن طريق المواقع والمنابر الإعلامية، إضافة إلى الروابط الإعلامية ترتكز على الفكرة التي مفادها أن الطلبات المتعددة للمتصفح تشكّل رغبات الاستهلاك، وهكذا يجري بربط الإعلان والرغبة المعبّر عنها بالكلمات – المفتاحية".

ويلاحظ ريفيل هنا أن خبراء التسويق يحاولون دائماً استباق رغبات الزبائن، وبشكل ما تسهيل مساراتها الاستهلاكية وتوجيههم نحو مشترياتهم، فهم يعملون على إعادة تشكيل تفضيلات العملاء، من دون أن يدري أولئك العملاء أنهم موجهون، من دون وعي أو تخطيط مسبق، إلى ذلك المنتج الذي يقدمون على شرائه.

 
التسويق الرقمي

يلاحظ ريفيل أن التسويق الرقمي قد اعتمد على تقنيات تختلف إلى حد كبير عن مثيلتها القديمة التي عرفها العالم قبل الثورة الرقمية. فقد بدأ مستهلكو المنتجات الثقافية يولون أهمية متزايدة للتوصيات الصادرة عن الأصدقاء بدلاً من الخبراء في الميدان أو النقاد المحترفين؛ حيث يتصفح المستهلكون المواقع، ويقارنون الأثمان، ويدلون بآرائهم حول ذلك العرض أو المؤلف. "وبفضل المؤانسة والمحادثات تتداول المضامين وتستوضح، ومن ثم يجري التعرف عليها". ويضرب ريفيل مثالاً على ما يذهب إليه، عندما يستشهد برواية "شيفرة دافنشي" للكاتب دان براون، حيث قام ناشروها بتوزيع عشرات الآلاف من نسخها مسبقاً إلى قادة الرأي على موقع أمازون، وبذلك تم عمل دعاية هائلة لها، مما مهد لنجاحها الساحق على مستوى المبيعات فيما بعد.

ثقافة المعلومة في الوقت الراهن

بدخولها الميدان العمومي وسط سنوات التسعينيات من القرن الماضي، خلال عقدين، غيرت الإنترنت –بعمق-معالم وسائل الإعلام التقليدية، ومن ثم فإنها خلخلت الممارسات المهنية للصحافيين أنفسهم، وغيّرت جزئياً الطريقة التي يجري بها إخبار الجمهور؛ فكانت سبباً في إعادة توزيع الأدوار بين المنتجين والمستهلكين لمواد الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، في تغيير تدريجي لطرق اعتماد المعلومات وممارسات القراءة.

من هنا، فإن المؤلف يقرر أن المنطق الاقتصادي والمالي اليوم، والذي قد تقوى بشكل كبير في السنوات الأخيرة، قد أدى إلى إحداث آثار كبيرة في شروط عمل الصحافيين، بسبب سلطة الإعلام والمعلنين المتزايدة. فالبحث المحموم عن السبق الصحافي، والإخراج الإعلامي المنتظم، وصدارة المباشر، وازدهار الإعلام المتواصل وسيادة السرعة، كلها دلائل على تغيير الوتيرة والمضمون في إنتاج المعلومة لدى هيئات التحرير.

ويلاحظ المؤلف أن الفيسبوك قد فرض نفسه تدريجياً، وخصوصاً لدى الشباب، كإحدى الطرق المُثلى للوصول إلى المواقع الإخبارية والإلكترونية، "فالجمهور العام –في الواقع –أصبح في مقدوره أن يقترح بنفسه أخباره الخاصة وتعليقاته ويضعها على الخط؛ فالأشخاص بمشاهدتهم لحدث ما "كارثة طبيعية، أو عملية إرهابية، أو احتفالات بكل أنواعها" يستطيعون التقاط صور وفيديوهات بواسطة الهواتف الذاكية وإرسالها مباشرة إلى الشبكات الاجتماعية، أو توجيهها لى المؤسسات الإعلامية الكبرى، وبعض الهواة يتقدمون أو ينافسون بشكل ما المتخصصين في الإعلام من دون أخد الوقت لفرز المعلومة أو اختيارها".

ويستشهد المؤلف بموقع أومينيوز، بكونه المثال الأكثر شهرة للمواقع التشاركية، وقد أنشئ في العام 2000 في كوريا الجنوبية، وهو ينطلق من مبدأ أن كل مواطن يعتبر صحافياً محتملاً، حيث يجري تحرير الجريدة الإلكترونية من طرف كل من المهنيين الذين يحررون نحو 20 في المئة من المقالات، والهواة الذين يقومون بتحرير ما يقرب من 80 في المئة منها.

ويلاحظ ريفيل أن سيادة نمط الصحافة الرقمية قد لعب دوراً مهماً في اعطاء أهمية متزايدة لمتطلبات التسويق والبعد الصناعي لمهنة الصحافة، بحيث تم الدفع بالصحافيين إلى معالجة موضوعات دون غيرها، وفق تطلعات الجمهور، ومن ثم إعطاء الأولوية للموضوعات المثيرة، وبذلك تقوم صحافة تسويقية، وفق الطلب أكثر من العرض.

وبحسب البيانات الموثقة التي يستند إليها الباحث في كتابه، فإن الاعلام الرقمي قد ساهم بشكل ملحوظ في ميل الباحثين والقراء إلى المعلومة السهلة والخفيفة، والبعد عن المصادر الصعبة أو تلك التي تتطلب مجهوداً كبيراً لمناقشتها وتحليلها، وذلك أن أغلب المستخدمين للإنترنت (57 في المئة منهم) يتوجهون أولاً نحو الصفحات الأكثر شهرة، مثل غوغل وياهو والفيس بوك وتويتر، وأن نسبة لا يستهان بها (23 في المئة)" تزور مواقع الإعلام التقليدي، ونسبة 6 في المئة فقط هي التي تستعمل التجارة الإلكترونية.

ومن واقع تلك الإحصائيات، فإن المؤلف يقرر بأن البحث عن المعلومات على شبكة الإنترنت يبدو ضئيلاً جداً وغير مُخصص؛ ويندرج في إطار التيار الإعلامي السائد والموجز والواقعي. "فالبحث عن الأخبار التفاعلية يبقي حتى الآن إقطاعاً للبعض، وهناك أبحاث في الولايات  المتحدة تركت صدى كبيراً، تبين أنه برغم وفرة المواقع الإخبارية على الإنترنت التي تبدو للوهلة الأولى أنها تعزز فيض العرض، إلا أن أغلب المتابعين يقعون في أسر مجموعة قليلة جداً من المصادر الإخبارية، لأن مستخدمي الإنترنت يختارون عادة أربعة أو خمسة مواقع يفضلونها ويتصفحونها باستمرار".
https://taghribnews.com/vdcdsf0sxyt05j6.422y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز