تاريخ النشر2012 12 November ساعة 15:05
رقم : 114827
الدّينُ لعقٌ على ألسنتهم

المباهلة الإعلامية ووصولها الى مرحلة المهزلة

خاص تنا - مكتب بيروت
بسم الله الرحمن الرحيم؛ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران: ٦١)؛ صدق الله العلي العظيم
المباهلة الإعلامية ووصولها الى مرحلة المهزلة

شاعت في الآونة الأخيرة ظاهرة "المباهلة" بين "المشايخ المسلمين" على القنوات المُستجِدّة الفضائية، والتي من المفترض أنّها تُعنى بالأمور الإسلامية التوعويّة؛ نشر تعاليمه الحقّة؛ وتعريف الجمهور الآخر على هذا الدّين الحنيف وعلى نبيّه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. وإذ ببعضها يستضيف "رجال دين" حديثي العهد ليباهلوا بعضهم على أمور تكون إمّا سطحيّة في العقيدة الإسلامية يُشكّ في صحّة فهمهم لها، وإما تاريخيّة مرويّة لم يشهدها أحدٌ منهم في الأصل!


وقبل الحديث عن أهليّة هؤلاء الأشخاص في القيام بهكذا فعل، وعن الجدوى من فعل المباهلة على القنوات الفضائية، لا بد لنا من إطلالةٍ على المفهوم الديني واللغوي للمباهلة، بالإضافة الى الحادثة الشّهيرة التي حصلت في الرابع والعشرين من ذي الحجة للسنة التاسعة للهجرة في المدينة المنورة بين رسول الله (ص) وأساقفة نجران، الذين أصرّوا على الإدّعاء بألوهية النبي عيسى (ع) وعدم الإعتراف بعبوديته لله تعالى ونبوّة محمد (ص)، وخصوصاً أنهم كانوا يعلمون تماماً بما وعد الله النبي إبراهيم (ع) في ذرّية إبنه إسماعيل (ع) من "النبوَّة".

حادثة المباهلة:
والمباهلة في اللغة هي من البَهْل أي اللعن، والمباهلة هي الملاعنة، والملاعنة هي الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وأن يقال لعنك الله، أي طردك من رحمته. 

وفي حادثة المباهلة يكون الابتهال والتّضرع من أجل طرد الآخر من رحمة الله عزّ وجل، تماماً كما حدث مع نبينا الأكرم (ص) حيث أنه بعدما أرسل كتاباً إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى الإسلام أورد فيه: (أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، أدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتُم فقد أذنتم بحرب، والسلام)؛ ذُعروا ذعراً شديداً وأخبروا رجلاً منهم ذا لُبّ ورأي يدعى "شرحبيل بن وداعة" فقال: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرّية إسماعيل من النبوَّة، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل، وليس لي في النبوَّة رأي. ثمّ أرسلوا الى آخر منهم أجابهم بالمثل، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا بـ: شرحبيل، وعبد الله ابنه،
وحبار بن قنص الى رسول الله (ص) لاستقصاء الأمر، فسألهم وسألوه، وأبقوا على إصرارهم بالكذب وإخفاء حقيقة النبي عيسى (ع).. واستمرّت المحاججة في اقناعهم على أنه نبي خلقه الله تعالى من غير أب وهو القادر على ما يشاء،.. الى أنّهم عاوَدُوا السؤال: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله (ص): إنَّهُ عَبدُ الله! 

بعدها نزلت الآية: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران: ٦١).
وبأمرٍ من الله العليم دعاهم المصطفى (ص) إلى اجتماع حاشد يضمّ أعزِّ الملاصقين من الجانبين ليبتهل الجميع إلى الله تعالى، في دعاء قاطع، أن يُنزل لعنته على الكاذبين.
فخرج رسول الله (ص) وقد احتضن الحسين (ع) وأخذ بيد الحسن (ع)، وفاطمة (ع) تمشي خلفه، والإمام علي (ع) خلفها، وهو يقول: إذا دَعوتُ فأمِّنوا.
فلما رأى أحد الأساقفة ذلك صاح قائلاً: يا معشر النّصارى! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً عن مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولم يبق على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة. 

فارتأى الجمع منهم على أن لا يباهلوا بل أن يقرّ الرسول (ص) على دينه ويثبتوا على دينهم. فأجابهم: فإِذَا أبَيْتُم المباهلة فأسلِموا، يَكُن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم. فأبوا ذلك. فقال (ص): فإنِّي أناجزكم. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك، فصالحنا على أن لا تغزونا ولا تخفينا، ولا تردّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك في كل عام ألفي حلّة، ألف في صفر وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد.
فصالحهم على ذلك وقال: والذي نَفسِي بِيَده، إنّ الهلاك قد تَدَلَّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لَمُسِخوا قِرَدة وخنازير، ولاضطَرَم عليهم الوادي ناراً، ولاستأْصَلَ الله نجران وأهله حتّى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلُّهم حتّى يهلكوا. (إقبال الأعمال ٢/٣٥٠).

وتكون عادةً صفة المباهلة أن يشبك المتباهل أصابعه في أصابع الآخر قائلاً: اللّهم ربّ السماوات السّبع، والأرضيين السّبع، ورب العرش العظيم، إن كان فلان جحد الحق وكفر به فأنزل عليه حسباناً من السماء وعذاباً أليماً (مجمع البحرين ١/ ٢٥٨).

حقيقة ما جرى في حادثة المباهلة:
هذا ما جرى وقتها بين خير خلق الله سبحانه وتعالى، "محمد"
الذي على رغم أنه "بشرٌ" إنّما هو "يُوحى إليه"، وبين الأساقفة الكبار الذين أخفَوا الحقيقة على جميع النّصارى بمجيء نبيّ من بعد عيسى (ع)، والذين ساهموا في تشويه قيمة نبوّته عليه السلام أمام ادعائهم بألوهيته.. أي بين طرفين وإن لم يتساوَوا في التّقوى عند الله تعالى تساوَوا في القدر عند البشر، فمحمّد صلوات الله عليه هو زعيم المسلمين الأوّل، على غرار الأساقفة الذين كانوا يترأسون الكنيسة آذاك، والحوار بين طرفين كهذين وبموضوعٍ كذاك ووصول المحاججة الى نتيجة كتلك، يستدعي التدخل الإلهي بجدارة، حتى وصل الأمر الى نزول آية تدعو الى المباهلة، الأمر الذي وإن لم يحمل الكثير من المعاني حمل أهمّ مشهدٍ شهده تاريخ السّيرة النّبوية الشريفة، حيث تقابل عظام الأساقفة وقتها بعُدّتهم الفكريّة وعدِيدهم الملحوظ، أمام خمسةٍ من مسلمي ذلك العصر يتضمنون طفلين وامرأة مع علي ابن أبي طالب (ع) بصحبة الرّسول الأعظم محمد (ص)، والأعظم من ذلك كان استسلامهم ورجوعهم عن فعل المباهلة.

المباهلة الإعلامية:
من هنا نعود الى القنوات الفاضلة التي تبثّ خلال برامجها مواجهةً لرجلين يسبقُ اسم كلّ واحدٍ منهم كلمة "شيخ" في قصد المباهلة على مواضيع لم نجدها في المعترك الإسلامي إلا في خانات الفتن والتّفريق والتّشويه للمعتقدات الدينية، ويصاحبهما تشويقٌ يصنعه مقدّم البرنامج "العتيد" الذي لا تخلو نيّته من صنع السّكوب الإعلامي، أيضاً، الأمر الذي يمكن ملاحظته في القنوات "المزعومة" إسلامية.
وأيّ إسلامٍ هُو ذا الذي ينحدر بالأمّة الى مستوى أن يباهل أي شخصٍ _يعتبر نفسه على حق_ الآخر _الذي لا يقلّ عنه درجةً باعتبارنفسه محقاً_؟ وأيّ هدفٍ ترمو إليه هذه القنوات من الناحية الإسلامية التبليغية؟ وما هو الموضوع العظيم الذي أودى بهم الى المباهلة أمام الجماهير التي ما عادت تفقه من الدين إلا اسمه؟ 

المباهلة التي جرت في المدينة المنورة حصلت بتكليفٍ إلهيٍ مباشر، في أمرٍ بغاية الأهمية على المستوى الديني الرسالي، وبين طرفين لم يُعدا بالسهلين آنذاك. فلتفقه أولاً القنوات الإسلامية المحرضة ذلك، ولتربط ثانياً جأش ضيوفها "المشايخ" من الوصول الى مرحلة المباهلة التلفزيونية التي تحولت الى "مهزلة" على المواقع الإلكترونية، والتي أهانت ما أهانت من ديننا الحنيف الذي لا يرضى الله سبحانه وتعالى أن نشوهه ونحوله الى "لعقٍ على الألسن"، ولنتقّ الله في ديننا.


إعداد: زينب رضا
https://taghribnews.com/vdcci0qsm2bqs48.caa2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز

بتول
رائع زينب وفقك الله للمزيد..
feedback
United States