تاريخ النشر2018 20 January ساعة 10:58
رقم : 306740

عن تنظيم التنوع الثقافي والعرقي في الأنظمة الليبرالية

تنا-بيروت
ما السبيل إلى إيجاد أنموذج للاندماج السياسي يضمن تمثيلاً عادلاً للتنوع العرقي والثقافي داخل دولة أو أمة على قاعدة التقارب والشراكة وليس ذوبان الفوارق الثقافية والعرقية والدينية؟
عن تنظيم التنوع الثقافي والعرقي في الأنظمة الليبرالية
كتب الباحث سايد مطر كتاباً عن الفيلسوف الكندي تشارلز تايلر بعنوان «مسائل التعدد والاختلاف في الأنظمة الليبرالية الغربية: مدخل إلى دراسة تشارلز تايلر». وتايلر فيلسوف عيّنته حكومة مقاطعة كيبيك الكندية مع عالم الاجتماع جيرار بوشار عام 2007 رئيسين للجنة الاستشارية الخاصة بممارسات التكيّف المتصلة بالاختلافات الثقافية.

ويكمن مسعى تايلر في البحث عن المنابع الأنثروبولوجية والأخلاقية للهوية الحديثة، وفي بلورتها واعتمادها قاعدة أساسية وضرورية ينهل منها الفكر السياسي وتستند إليها النقاشات العامة. وهو يعتبر أن أزمة الهوية الحديثة وعُسرها، والمسائل المتعلقة بإشكالية «الشرعية السياسية» التي أثارتها الحداثة، نشأت كلها نتيجة «الشرخ» الناشب في الفكر السياسي بين الحديث والقديم، وهو شرخ أفضى إلى إقصاء هذا الفكر عن الاستناد إلى تصورات الخير وتعابيرها الجوهرية، فامتد هذا الشرخ أيضاً إلى فصل المجتمع المدني عن الدولة، مروراً باعتماد التمييز بين الأخلاقي والسياسي، وصولاً إلى نشوء الدائرة الخاصة بالتوازي مع الدائرة العمومية.

ومن المعلوم أن المنظومة الليبرالية الكلاسيكية تشدد على ضرورة هذا الفصل بين الخاص والعام، باعتباره يدعم شرعية الحيادية السياسية للدولة إزاء التعقيدات اللاعقلانية التي تتميز بها «العقائد الشاملة» الدينية والفلسفية والأخلاقية. وتجلى هذا الفصل لاحقاً في فصل الواقعة الاجتماعية عن المعيار (Norme) في نطاق التواجه بين العلوم الإنسانية والنظرية المعيارية في العلوم السياسية.

يرى تايلر أن الشعور بالعسر في الغرب يتولد نتيجة انجراف المجتمعات الغربية المعاصرة إلى الأخذ بمخلفات الحداثة في فردانيتها الأداتية، على حساب روح الجماعة وقيمها التقليدية. فالعقل الأداتي هو نوع من العقلانية المنعتقة من روابط الغائية الطبيعية والثقافية، وهي روابط ما برحت ضرورية، من أجل تحقيق الذات والقدرات الإنسانية الكامنة. وقد نشأ نهج العقلانية الأداتية مع بروز المؤسسات الاقتصادية الصناعية الحديثة وأسواق التبادل التي نتجت منها.

يؤكد تايلر على ضرورة الاعتراف السياسي بالاختلافات الثقافية والعرقية، استنادًا إلى ما لهذه الاختلافات من أهمية بالغة على الصعيدين العملي والسياسي. ومن ثَمّ تجري محاولة التحقّق من توافق الاعتراف والليبرالية السياسية التي اعتادت تقليديًّا الحيادَ إزاء هذه المسائل الشائكة والنسبية والمعقَّدة. والاعتراف السياسي بالثقافة ضروري، فهو اعتراف يعرّف الثقافة كمنبع أصيل لتعيين المعايير الأخلاقية ويلهم التوجّهات السياسية الخليقة ببناء المدينة الإنسانية خير بناء. وأصبحت المجتمعات الغربية اليوم مجتمعات تتعدد فيها الثقافات والأفكار الفلسفية الأخلاقية والسياسية، ويسودها الاختلاف حتى التناقض والتنازع، فتحولت إلى مجتمعات «متعددة الثقافات» بفعل تنقل الأفراد الحر في ما بينها، وتنامي موجات الهجرة إليها. وقد حتّمت هذه التغيرات النظر في تداعياتها على هذه المجتمعات وتأثيرها البالغ في استقرارها الاجتماعي والسياسي.

لماذا يصرّ تايلر على ضرورة الاعتراف السياسي والقانوني بالاختلافات العرقية الثقافية والدينية، ألا تكفي المساواة الديموقراطية في الحريات وأمام القانون في الذود عن حق التمايز والاعتناق الحر لأنماط عيش فريدة يختارها الفرد (أو الجماعة) ويعرّف بها هويته الأخلاقية والوجودية؟ أم أنه يجب على هذه الدول أن تبدّل عقيدتها السياسية وتغّير نظرتها القانونية الكلاسيكية بموازاة هذه التغيرات حتى تواكبها؟

يقول الباحث سايد مطر إن قوام هذه الأسئلة هو الاستفسار عن دور ممكن لليبرالية السياسية إزاء مسألة الاعتراف. وهي الليبرالية التي ما برحت تقليدياً تعتنق «الحياد» إزاء المسائل العرقية والثقافية، بوصفها مسائل لا تعدو كونها خاصة ولا طاقة للدولة على النظر في شأنها. فقد كان التصور الليبرالي التقليدي يرى في الحياد السياسي ضرورة قصوى للنهوض بالاستقرار الاجتماعي، وإحدى الركائز النهائية التي تؤسس «الشرعية السياسية»، وذلك لسببين رئيسين هما: حماية الحريات المدنية من تدخل الدولة في مسائل كحرية الضمير والدين والاجتماع، ومنعها من أن تكون طرفاً ببت بطلانها أو أحقيتها. والثاني يُعزى إلى حماية الدولة نفسها من الجماعات العرقية والدينية، نائية بنفسها عن الحكم في تصورات الخير المختلفة التي ربما تعمد فئة إلى فرضها في الحيز العمومي على فئة أو جماعة أخرى.

أما تايلر، فيرفض مثل هذا الحياد الذي لا يعني إلا الابتعاد من الاعتراف بالمسائل التي تشغل بمقدار أكبر بالَ الإنسان وتحكم انهمامه الحياتي وتساؤلاته الوجودية. ويعتبر أن على الدولة أن تنظر إلى هذه المسائل الجوهرية، فلا تحصر وظيفتها في النظر في مسائل الاقتصاد والخدمات والتبادلات النفعية الصرفة فحسب، ما يضمن للأقليات مضماراً أوسع من الاعتراف يجيز لها التعبير عن تمايزاتها الثقافية والدينية في الحيز العمومي، فالادعاء بأن المعايير العمومية حيادية هو ادعاء زائف لأن هذه المعايير تنبثق في كثير من الأحيان من هوية الأكثرية التاريخية وانتمائها الثقافي. فالأعياد الرسمية وأيام العطل المعمول بها في المجتمعات الغربية، على سبيل المثال، توافق على وجه الحصر أعياد الديانة المسيحية.

والاعتراف السياسي بالثقافة ضروري – بحسب تايلر – فهو اعتراف يعرّف الثقافة كمنبع أصيل لتعيين المعايير الأخلاقية ويلهم التوجّهات السياسية الخليقة ببناء المدينة الإنسانية خير بناء.

وأصبحت المجتمعات الغربية اليوم مجتمعات تتعدد فيها الثقافات والأفكار الفلسفية الأخلاقية والسياسية، يسودها الاختلاف حتى التناقض والتنازع، فتحولت إلى مجتمعات "متعددة الثقافات" بفعل تنقل الأفراد الحر في ما بينها، وتنامي موجات الهجرة إليها. وقد حتّمت هذه التغيرات النظر في تداعياتها على هذه المجتمعات وتأثيرها البالغ في استقرارها الاجتماعي والسياسي.

لماذا يصرّ تايلر على ضرورة الاعتراف السياسي والقانوني بالاختلافات العرقية الثقافية والدينية، خصوصاً أن تنامي هذه الاختلافات من حيث تمايزها هو مدعاة قلق على وحدة المجتمع وتماسكه؟ ألا تكفل المعايير العامة، من حقوق وواجبات أساسية، في هذه الدول الديموقراطية الغربية، مثل هذه الاختلافات وتصونها في الدساتير وترعاها في الممارسات؟

وبتعبير آخر: ألا تكفي المساواة الديموقراطية في الحريات وأمام القانون في الذود عن حق التمايز والاعتناق الحر لأنماط عيش فريدة يختارها الفرد(أو الجماعة) ويعرّف بها هويته الأخلاقية والوجودية؟ أم أنه يجب على هذه الدول أن تبدّل في عقيدتها السياسية وتغّير في نظرتها القانونية الكلاسيكية بموازاة هذه التغيرات حتى تواكبها؟

يقول الباحث سايد مطر إن قوام هذه الأسئلة هو الاستفسار عن دور ممكن لليبرالية السياسية إزاء مسألة الاعتراف. وهي الليبرالية التي ما برحت تقليدياً تعتنق "الحياد" إزاء المسائل العرقية والثقافية، بوصفها مسائل لا تعدو كونها خاصة ولا طاقة للدولة على النظر في شأنها.

فقد كان التصور الليبرالي التقليدي يرى في الحياد السياسي ضرورة قصوى للنهوض بالاستقرار الاجتماعي، وإحدى الركائز النهائية التي تؤسس "الشرعية السياسية"، وذلك لسببين رئيسين هما: حماية الحريات المدنية من تدخل الدولة في مسائل كحرية الضمير والدين والاجتماع، ومنعها من أن تكون طرفاً ببت بطلانها أو أحقيتها. والثاني يُعزى إلى حماية الدولة نفسها من الجماعات العرقية والدينية، نائية بنفسها عن الحكم في تصورات الخير المختلفة التي ربما تعمد فئة إلى فرضها في الحيز العمومي على فئة أو جماعة أخرى.

أما تايلر والفلاسفة الجماعتيون فيرفضون مثل هذا الحياد الذي لا يعني إلا الابتعاد عن الاعتراف بالمسائل التي تشغل بمقدار أكثر بال الإنسان وتحكم انهمامه الحياتي وتساؤلاته الوجودية. ويعتبرون أن على الدولة أن تنظر إلى هذه المسائل الجوهرية، فلا تحصر وظيفتها في النظر في مسائل الاقتصاد والخدمات والتبادلات النفعية الصرفة فحسب، ما يضمن للأقليات مضماراً أوسع من الاعتراف يجيز لها التعبير عن تمايزاتها الثقافية والدينية في الحيز العمومي.

ويرى تايلر أن الادعاء بأن المعايير العمومية حيادية هو ادعاء زائف لأن هذه المعايير تنبثق في كثير من الأحيان من هوية الأكثرية التاريخية وانتمائها الثقافي. فالأعياد الرسمية وأيام العطل المعمول بها في المجتمعات الغربية، على سبيل المثال، توافق على وجه الحصر أعياد الديانة المسيحية.

وحدة المجتمع في المشاركة المنوعة والاندماجز تايلور
يرى تايلر إيجابية الاعتراف السياسي بالتنوع الثقافي والتعدد العرقي، بناءً على أنّه محفّز يشجّع الأقليات على المشاركة السياسية في شؤون المدينة الإنسانية والاندماج في النسيج الاجتماعي. ويكون هذا الاندماج محكومًا بالتنوع؛ لأنّ التمايزات الثقافية تظهر في الحيز العامّ آخذةً بالتلاقي، ساعيةً للتشارك، مستنهضةً للتفاعل فالتقابس. ويركّز المؤلف في هذا الفصل على الدور المحوري الذي تمثّله المشاركة السياسية في تواصل جميع المكوّنات المنوعة، خصوصًا الأقليات والجماعات العرقية، ودمجها في الأكثرية حتى تحقيق وحدة المجتمع وتماسكه.

يعتبر تايلر أن أفراد المجتمع يفصحون عن هويتهم ويطورونها في كنف مؤسسات وبيئات وأعراف وعادات مشتركة. إذ يصوّر الأفراد أنفسهم على أنهم أعضاء ينتمون إلى جماعة سياسية معيّنة، جماعة تستمد تماسكها ووحدتها بفضل وجود مؤسسات تتفاعل فيها الحياة العمومية وبفضل ممارسات تنمو فيها الحياة الاجتماعية نمواً أصيلاً فريداً. وبهذا المعنى، يعود إلى الأفراد أن يفسّروا أنفسهم ويفهموا ذواتهم بمقتضى المسؤولية البنيوية التي يضطلعون بها في داخل المجتمع الذي ينتمون إليه. هذه الممارسة في فهم الذات، "مع ما تنطوي عليه من بُعد معياري هي، بالنسبة إلى تايلر، حاضرة  أصلاً في الوقت نفسه في تكوين الهوية المشتركة وتؤثر في الأعمال والتوجهات المنبثقة عنها".

ما السبيل إذاً إلى إيجاد أنموذج للاندماج السياسي يضمن تمثيلاً عادلاً للتنوع العرقي والثقافي، باعتبار أن هذا التنوع هو تنوع يحتشد في الحلبة السياسية ويتنازع في داخلها؟ وفي ذلك بالتحديد تكمن المفارقة الخاصة بفكرة الأمة، بحسب ما يقول ميشال تريشتنكو، التي تتركز وظيفتها على توحيد قوى متضاربة متصارعة.  فهي "مفارقة تقوم، من جهة، على تصورات غير عقلانية وذاتية بدت متعارضة مع عقلانية الدولة الحديثة. في حين أن قوة الأمة، من جهة ثانية، تُعقد على بسط مشروعيتها التي تنبثق منها كل سلطة سياسية، وعلى وجه خاص سلطة الدولة. فهذا هو الوجه الأسود والوجه الأبيض لفكرة الأمة".
من هنا كان تشديد تايلر على تأسيس وحدة قومية تفيد الاندماج وتستمد جذورها من عاملين متمايزين متكاملين لا يتنافيان: التقارب والشراكة. فتراه يؤكد ضرورة الحصول على تقارب في حده الأدنى بين تعدد الثقافات، لا يكون كاملاً بغية اجتناب الوقوع في معاثر التجانس المُقصية الاختلافات، كما كان سائداً إبان حكم "اليعقوبية" الخاص بالتقليد الجمهوري الفرنسي.

وحقيقة الأمر، أن التقارب لا يُفهم إلا على نحو التشارك في ضُمّة ضرورية من الحقوق(حقوق الفرد الأساسية بالنسبة إلى تايلر). إلا أن هذا التقارب لا يستنهض العناصر المكوّنة لوحدة التداول ويستنفدها بالكامل. وبهذا المعنى، يؤكد تايلر خطأ الفكرة التي تقول إن وحدة التداول لا تقوم إلا بقيام عناصر مشتركة جامعة، وذلك أن "الخطاب المثالي الشامل لا يفسح المجال للنقاش ولإمكان التعديل".

إن تايلر لا يرفض الحريات والحقوق الفردية الحديثة، بل يؤكد بشدة أن معاني هذه الحريات لا تُفهم إلا في انسلاكها في سياق التقليد والثقافة والتاريخ. أي أن يضطلع المرء بمقوّمات البنية الأنثروبولوجية الثقافية الخاصة بالهوية الديمقراطية. فما من فصل هنا، بالنسبة إلى تايلر ورفاقه الفلاسفة الجماعتيين، بين مسألة الحق أو الحقوق وتصورات الخير الثقافية. فالهوية الفردية تجمعهما وتصهرهما أنطولوجياً، إذ لا معنى للحرية الإنسانية، خلافاً للتقليد الليبرالي المحايد، حين تتعالى فتنعتق من الروابط التاريخية. هذا بالنسبة إلى الثقافة الواحدة المتجانسة.

أما عندما يتعلق الأمر بمجتمعات فقدت تجانسها فانقلبت متعددة الثقافات، تتزايد أهمية المشاركة السياسية الفاعلة في تحقيق اندماج المكوّنات المختلفة، الأمر الذي يعزز فكرة "ابتكار" هوية مشتركة قوامها التفاعل بين الاختلافات الثقافية والعرقية. ويعرّف تايلر هذا النوع من الاندماج بأنه "تعددية منشئة للاندماج" وقوامها المشاركة والتبادل والدفاع عن الحقوق دفاع المساواة المنصفة.
https://taghribnews.com/vdcjxmetyuqeyaz.3ffu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز