تاريخ النشر2012 23 June ساعة 16:47
رقم : 99340
صحيفة الأخبار

إيلي كوهين اللبناني" قصة جاسوس إسرائيلي عاش في بيروت"

تنا - بيروت
إيلي كوهين اللبناني" قصة جاسوس إسرائيلي عاش في بيروت"
فصول التجسس الإسرائيلي في لبنان لم تكن وليدة تحول الجنوب اللبناني إلى جبهة مقاومة للاحتلال في بداية السبعينيات. تعود القصة إلى عقود قبل ذلك، وتحديداً إلى الأعوام الأولى التي أعقبت قيام « دولة إسرائيل»، حين قررت استخباراتها زرع جواسيس وراء الحدود الشمالية، كان من طلائعهم «مصطفى طالب».

بداية عام ١٩٦٢، اختفى مصطفى طالب، رجل الأعمال اللبناني من أصل جزائري. أبلغ أصدقاءه أنه عائد إلى الجزائر ليعيش مع أهله هناك، بعدما تحرر وطنه الأم من الاحتلال الفرنسي. لا أحد من هؤلاء الأصدقاء، ومن بينهم شخصيات لبنانية عامة، ورجال أعمال وتجار، سمع عنه بعد ذلك. لا أحد منهم عرف أن طالب كان جاسوساً إسرائيلياً يعمل في الوحدة ١٣١ التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية، والخاصة بتشغيل العملاء في الدول المعادية، وأن إختفاءه لم يكن سوى ترجمة لقرار من الوحدة بوقف نشاطه التجسسي، وإعادته إلى إسرائيل.

في ١٤ كانون ثاني ١٩٦٢، هبط طالب، أو مسعود بوتون، بحسب هويته الإسرائيلية الأصلية، في مطار اللد، منهياً مهمةً إستمرت سبعة أعوام من العمل التجسسي، تنقّل خلالها بين بيروت ودمشق، بدأها عام ١٩٥٦ حين تبلغ قرار الوحدة بـ «زرعه» في لبنان. 

سبعة أعوام يروي قصتها كتاب «من القدس إلى دمشق، ذهاباً وإياباً»، الذي صدر الأسبوع الماضي في إسرائيل، بقلم، ضابط الشاباك السابق، مراسل الشؤون الفلسطينية في صحيفة «يديعوت
أحرونوت»، روني شاكيد، الذي جالس بوتون أياماً طويلة قبل وفاته العام الماضي، وأخذ منه تفاصيل سيرته التجسسية. 

الكتاب الذي ألف بالدرجة الأولى من أجل تطهير اسم بوتون واستعادة حقوقه المعنوية التي سُلبت منه جراء خلاف بينه وبين مشغليه في قيادة الوحدة، الذين قرروا طرده منها من دون أي تعويضات، يسلط الضوء على محطات أساسية من عمل «مصطفى طالب»، رجل الأعمال الجزائري، الذي قدم إلى بيروت مطلع عام ١٩٥٦، واستوطن فيها ناسجاً شبكة من العلاقات الاجتماعية، التي استخدمها في استقاء المعلومات الاستخبارية التي أودعها تقاريره، التي كان يرسلها عبر جهاز خاص إلى تل أبيب. 

ولد بوتون في القدس العتيقة عام ١٩٢٤. وحين بلغ سن الحادية عشرة انتقل مع عائلته إلى القسم الغربي من المدينة، وفي سن الخامسة عشرة التحق بمنظمة «إيتسل»، موزعاً للبلاغات والبيانات. اعتقل مرتين: الأولى لمشاركته في تفجير محطة القطارات في القدس، والثانية كانت اعتقالاً إدارياً في الأيام الأخيرة للانتداب البريطاني لفلسطين. بعد ساعات من إعلان دولة إسرائيل، أُطلق سراحه، حيث انضم إلى قوات منظمة «إيتسل»، التي خاضت معارك ضد الفلسطينيين في القدس، أفضت إلى احتلال الجزء الغربي منها. 

بعد انتهاء «حرب الاستقلال» الإسرائيلية أرسل بوتون من قبل الوكالة اليهودية إلى دول شمال أفريقيا، للمساعدة على جلب اليهود إلى إسرائيل. كان يتقن العربية منذ صغره. وعندما عاد إلى إسرائيل عام ١٩٥٤، جرى استدعاؤه إلى الوحدة ١٣١، التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية، التي كان تعمل في مجال تجنيد وتدريب وتوفير الساتر للعملاء، وإرسالهم إلى الدول المعادية، وزرعهم هناك من أجل جمع المعلومات وإنشاء قاعدة عمل يستفاد منها في أوقات الحرب. 

خضغ
بوتون لمسار تأهيل تضمن تدريبات على إطلاق النار، إعداد العبوات المتفجرة، الملاحة، التعقب والتملص من التعقب، التصوير وإرسال رسائل مشفرة، كما جرى تخصيص فصل كامل من دورة التدريب للثقافة والعادات والتقاليد العربية، إضافةً إلى الجانب الديني. في بداية عام ١٩٥٥، غادر بوتون إسرائيل إلى مهمته الجديدة. 

بحسب الكتاب، لم تعدّ الوحدة ١٣١ ساتراً لبوتون، و«كان عليه أن يخيط واحداً بنفسه». بدايةً أُرسل إلى أوروبا، ومن هناك سافر إلى الجزائر. بوتون، الذي يصفه الكاتب بأنه يتمتع ببراعة في العمل الميداني وبحواس سليمة وبالكثير من الاتقاد الذهني، نجح سريعاً في ترتيب اسم جديد له: مصطفى طالب. وبعد ستة أشهر من وصوله إلى الجزائر، تمكن من استصدار بطاقة هوية جزائرية أصلية. 

أسس بوتون نفسه كرجل أعمال. وفي صيف عام ١٩٥٦ عاد إلى إسرائيل في إجازة، حيث التقى قادته، الذين أبلغوه أنه اختير للذهاب إلى سوريا ولبنان. محطته الأولى كانت في روما، حيث زار القنصلية اللبنانية من أجل الحصول على فيزا رجل أعمال. 

وفي روما تعرف على سورمري، شابة إيطالية ستتحول لاحقاً إلى زوجته الثانية، التي لم تكن تعلم أن لطالب زوجة في إسرائيل اسمها إيستر، وولدين هما إيهود ونعامي. وفي روما أيضاً، تصاحب بوتون مع موظف في القنصلية اللبنانية، كما بنى سلسلة من العلاقات التجارية وسافر أيضاً إلى ليبيا. 

في أيار ١٩٥٧، غادر بوتون إيطاليا في اتجاه لبنان. استأجر غرفة في أحد فنادق ساحة البرج، وشرع في إجراءات قانونية للحصول على جنسية لبنانية. بعد أسابيع قليلة بدأ يحصل على اقتراحات عمل من أنواع مختلفة، كتجارة السمك، حيث امتلك سفينة صيد فيها براد يتسع لثمانية أطنان من السمك، إضافةً إلى وسائل اتصال متطورة، كانت الغاية
منها استخدامها في العمليات الخاصة عند الضرورة، فضلاً عن ذلك، عمل بوتون في استيراد محركات للجرارات الزراعية من بريطانيا، النجارة، مصنع للترابة، النسيج، توزيع الأفلام، استيراد الأثاث المنزلي من إيطاليا، وغير ذلك. 

كما أنه تمكن من إبرام عقد يزود بموجبه مطار بيروت الدولي ببعض التجهيزات التقنية. على خلفية العقد، طلب بوتون الحصول على مخططات المطار العمرانية بذريعة أنه يريد مواءمة التجهيزات مع الخصوصيات الهندسية لهذه المخططات. وبعدما حصل على مبتغاه، أرسل المخططات إلى وحدته في تل أبيب، التي استفادت منها في التخطيط للعملية التي نفذتها وحدات خاصة إسرائيلية في مطار بيروت عام ١٩٦٨، ودمرت فيها الطائرات على أرض المدارج. وخصص بوتون جزءاً من جهوده الاستخبارية للتعرف على موردي النفط السعودي والعراقي. 

بعد نحو عام، انضمت سورمري إليه، وسكنا معاً في شقة مرفهة في شارع بدارو. كان بوتون آنذاك في خضم الإجراءات القانونية للحصول على جنسية لبنانية. إبتدع خطة لامعة استند إليها في تقديم طلب الجنسية، وهي أنه في الأصل من مواليد لبنان، وأن عائلته هاجرت من البلد عندما كان عمره عاماً واحداً. نجح في الحصول على وثائق تخص عائلة جنوبية كانت هذه قصتها. العائلة كانت من آل طالب، وبرر بوتون تغيير الاسم إلى طاليه بالقول إن الجزائريين لقبوا والده بهذا اللقب لأنه كان قصير القامة. 

وفي سياق إجراءات الحصول على الجنسية، استعان بوتون بعدد من الموظفين الكبار في الدوائر الرسمية اللبنانية، من وزارة الداخلية تحديداً، ممن كان قد تعرف عليهم من خلال أعماله التجارية. عام ١٩٥٩ جرى الاعتراف بمصطفى طالب، كمواطن لبناني. 

في حينه، كانت أعمال بوتون التجارية قد بدأت تمتد باتجاه سوريا. في دمشق سكن في حي أبو رمانة، مستغلاً جنسيته اللبنانية لنسج شبكة علاقات، وللدخول في عالم صناعة
الترابة. تجول في كافة أرجاء سوريا، وكان دائماً بصحبة رجال أعمال: في حماة تحمس للسد الجديد الذي بناه السوريون مستعينين بمهندسين بلغاريين، وفي حلب أعجب بأسواق المدينة، وخلال كل أسفاره كان يركز على المنشآت والقواعد العسكرية، ليحفظ التفاصيل المتعلقة بها، ويعمل لاحقاً على تسجيلها وإرسالها في تقارير إلى إسرائيل. 

وعملية إرسال التقارير كانت تجري من خلال جهاز خاص كان مخبأً في «ضرفة» خزانة ثيابه الموجودة في غرفة النوم ببيته البيروتي. ولكي تجري عملية الإرسال على نحو سليم احتاج بوتون إلى هوائي طويل نصبه على سطح منزله، بذريعة أن زوجته، سورمري، تريد أن تستمع إلى الإذاعة الإيطالية. 

كان بوتون يمتلك مكتباً فخماً يزوره يومياً رجال أعمال سعوا إلى مشاركته في تجارته. وكان هذا المكتب القاعدة الأهم لنسج شبكة علاقاته، التي حولته إلى شخصية «من أهل الدار» في المنطقة الحرة في مطار بيروت، كما في بقية الموانئ اللبنانية، في طرابلس وجونية وصور وصيدا. وهذه العلاقات أوصلته أيضاً إلى حضور أحد اجتماعات وزراء الخارجية العرب في بيروت عام ١٩٥٩، حيث صافح الوزراء وتحادث معهم عن قرب. حتى إن صورته ظهرت، بحسب الكتاب، في إحدى الصحف اللبنانية التي غطت الاجتماع آنذاك. 

في هذه الأثناء، عمل بوتون، بتكليف من مشغليه، على بلورة هوية شخصية ودعمها بوثائق ثبوتية لأحد أفراد الوحدة، ممن كان مقرراً إرساله للعمل في سوريا. الجاسوس الجديد، الذي سيحمل اسم أمين كامل ثابت، لم يكن أحداً آخر سوى إيلي كوهين، الذي خلف بوتون
بعد عودته إلى إسرائيل، واكتُشف أمره لاحقاً من قبل الاستخبارات السورية وأعدم شنقاً في ساحة المرجة عام ١٩٦٥. 

كان بوتون يزور إسرائيل مرة سنوياً لمدة عشرة أيام، كان يقضي معظمها في التدريب والتوجيه وتفريغ التقارير والمعلومات مع مشغليه. وباستثاء زوجته الإسرائيلية التي كانت تعرف حقيقة طبيعة عمله، فإن بقية أفراد عائلته كانوا يعتقدون أنه سافر في بعثة من قبل الجيش إلى باريس للدراسة، وأنه يعمل مساعداً للملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية هناك. 

ووفقاً للكتاب، فإن بداية نهاية السيرة التجسسية لبوتون كانت بفعل إصراره على الحصول على إجازة عائلية سنوية في سويسرا. قيادة الوحدة وافقت على تنظيم إجازة لمرة واحدة له، ورفضت الموافقة على أن تكون هذه الإجازة دورية. احتج بوتون، وحاول الضغط على رؤسائه من خلال التلويح بإنهاء مهمته، والعودة إلى إسرائيل. المحاولة تحولت سريعاً إلى أزمة ثقة مع قيادة الوحدة، التي أبلغته بتصفية أعماله والعودة فوراً إلى إسرائيل. حاول بوتون تبرير موقفه والتراجع عنه، لكن ذلك لم يجدِ. نفذ بوتون الأوامر وقام بتصفية أعماله، وانفصل سريعاً عن أصدقائه ورجال الأعمال الذين كان على علاقة بهم. 

في إسرائيل حاول تغيير قرار تجميده. وصل حتى رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، مائير كوهين، الذي حسم أمر فصله من الجيش بحجة أنه أخل ببنود التعاقد، ولم يحصل على أي تعويضات نهاية خدمة. 

بعد عامين غادر إسرائيل مع عائلته إلى فرنسا نتيجة الوضع المعيشي الضيق الذي ألم به. وفي ستراسبورغ عمل في غسل الأواني في إحدى مؤسسات الجالية اليهودية. بعد ذلك عمل سائقاً وبائعاً متجولاً. وبقي هناك حتى توفي في أيار من العام الماضي، ودفن في مقبرة الجالية اليهودية.

صحيفة الأخبار- محمد بدير

https://taghribnews.com/vdcgzw9y.ak9yt4r,ra.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز