تاريخ النشر2019 13 January ساعة 12:18
رقم : 392796

مشاريع دينيّة بلا دين

تنا
في غمرة الرياح الهوجاء التي اجتاحت بسمومها اللافحة واندفاعاتها المجنونة عالمنا الإسلامي، أفاق المسلمون على الواقع الجديد، يتطلّعون إلى نتائجه، ويفكرون في أسبابه، ويتابعون خطاه، وهو ينشر مفاهيمه ويبشّر بقيمه، ويفسح الطريق إلى تعاليمه، لتدخل في حياة النّاس وتأخذ عليهم أحاسيسهم وأفكارهم. ولم يكن هذا الواقع إلا الصورة الحيّة للحضارة المادية، التي تسلّقت الأسوار لتغزو تاريخنا، وتدمّر كلّ قيم الروح في حنايانا.
مشاريع دينيّة بلا دين
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله

وكانت مفاجأة.. أن تنهار الأسوار أمام هجماته الكاسحة، وتتهاوى القيم أمام ضرباته صريعة.

وبدأ التيّار يجرف كلّ ما أمامه من مفاهيم وقيم.

وأخذ المسلمون يتطلّعون ـ بأمل ـ إلى فجر يوم جديد، يستعيدون فيه كيانهم، وينطلقون معه إلى أهدافهم الكبرى، وقيمهم الشامخة.

وبدأت المحاولة تتّخذ لنفسها أشكالاً متعدّدة ومظاهر متنوّعة.. ومضى العاملون في الطريق، يستنطقون التجربة إثر التجربة، ويستلهمون المحاولة بعد المحاولة.. وتعثرت الخطى في البداية، وانحرفت في منتصف الطريق. وابتعدت عن أهدافها.. بعيداً بعيداً.. في ما قبل النهاية.

ومازالت الأسوار تتهاوى أمام اندفاعات التيار.

بين الشكل والمضمون
وعاشت التجربة في حياتنا، كما عشنا الارتجال في الأهداف والوسائل، وكانت "الصورة" هي كلّ شيء في حساب أكثر العاملين.

"الصورة".. كما هي متمثّلة في واقع الانحراف دون تغيير أو تبديل.. وكانت فكرة "المدرسة" هي منطلق العمل في تجاربنا.. وبداية الطريق نحو الغاية. فالتثقيف العلمي، إذا امتزج بالتوجيه الديني، وانطلق في اتجاهه، أمكن للحياة أن تسير معه في دروب القيم.

تلك هي وجهة النظر في الفكرة التي تقول: "لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال".

ولكن كيف تكون "المدرسة" محتوى ومناهج؟ أو بالأحرى، كيف يمكن لنا أن نحفظ للناشئة عقيدتها ودينها ونبلغ بها هذه الأهداف في هدوء واطمئنان؟..

هل هناك مناهج دينية، ومخططات تربوية، تستهدف إيجاد الانسجام بين الخطى والأهداف.

كان ذلك كلّه سابقاً لأوانه في نظر بعض العاملين من أصحاب المشاريع، فالمهمّ ـ في البداية ـ أن يقوم المشروع بناية شاهقة تتحدّى ناطحات السحاب، وأن يجمع ـ بعد ذلك ـ أكبر عدد ممكن من الطلاب، ليستطيع أن يحتفظ لنفسه بالدخل المناسب الذي يدرّ عليه الأموال اللازمة له في استمرار وجوده، وأن تكون الهيئة التعليميّة التي تشرف على وضع المناهج وتطبيقها من الأكفاء الذين يحسنون الارتفاع بالمستوى العلمي للمدرسة، وليس من المهم أن يكونوا ملحدين أو منحلّين أو غير ذلك.

وأخيراً، لا بُدَّ من أستاذ (يُعلِّم) الدِّين، ولا مانع من أن يكون (أمّياً) في ثقافته الدينية. فالمهم أن يحفظ الطلاب ويستظهروا بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبويّة، وبعض الأحكام الشرعية.. وهذا كلّ شيء.. فليس في الإمكان أبدع مما كان.

وهكذا يتحوّل المشروع إلى غاية بعد أن كان وسيلة.. وتعود الغاية من إقامة المشروع مجرّد درس متواضع لا يقدم ولا يؤخر.

تلك هي بعض الصورة في ما لدينا من "مشاريع دينية"، وذلك هو جزء من الواقع الحي الذي تهرب فيه الغاية، ويبتعد فيه الهدف، عندما ينحني العاملون للتيار في استسلام وإذعان، ويندفعون معه بمشاريعهم التي انطلقت من أجل أن توقف اندفاع التيار، أو تخفّف سرعته.

ومرة ثانية، تفرض الحقيقة نفسها علينا في حساب الأهداف والوسائل، ويبقى الارتجال هو السبب الأعمق في نتائج المشكلة.

وربَّما نستطيع أن نعتبر أنَّ الاندفاع العاطفي، والروح الحماسي، هما المنطلق للخطى في أغلب الأحيان.

كان الميدان خالياً ينتظر الفارس الذي لم يكن بوسعه إلاَّ أن يتصرّف.. وتصرف بحماسة الفروسيّة، من دون أن ينتبه إلى العقبات التي تعترضه في الطريق، وبالأحرى، من دون أن يدرس طبيعة الميدان الذي يريد الاندفاع فيه. وكان من الطبيعي جداً أن يكبو الجواد، ويتعثّر أمام الصخور الناتئة والهُوَى العميقة التي تملأ الميدان.

الإرث الشخصي
ربَّما نستطيع، في محاولة ثانية، لفهم القضيّة، أن نجد في "الفردية" عاملاً مهمّاً في المشكلة، فقد وجدنا بعض المشاريع تمثّل، في ما تمثّل، في أكثر الأحيان، فرداً أو أفراداً معدودين، يتولّون بدورهم مهمّة قيادة "المشروع"، ومباشرة كلّ ما يتعلّق به من الأعمال والتصرفات، في الوقت الذي لا يملك هذا الفرد وهؤلاء الأفراد، الطاقات الحيّة التي تستوعب كلّ جهاته ونواحيه، الأمر الذي يجعل القضية عرضةً للتسيّب والفوضى والارتباك، ويمهّد لاعتبار القضية إرثاً شخصياً يتوارثه الأبناء والأحفاد، بما تهيّئه لهم الفردية من السيطرة والإشراف التامّ على المشروع.

وقد لا نعدم في كثير من الأحيان الصوت الذي يقول: إنَّ من العدالة والإنصاف والوفاء لجهود القائمين على هذه المشاريع، أن نجعل لأبنائهم وأقربائهم (حصّة معيّنة) في الإشراف والإنتاج، كأنَّ القضية تعيش في مستوى الاعتبارات الشخصيّة التي تجعل لكلّ عمل ثمناً ماديّاً. وهكذا رأينا كيف تهاوى كثير من هذه المشاريع على مذبح شهوات الأبناء والأحفاد.

التجيير المرفوض
وقد نجد ـ في محاولة ثالثة ـ أنَّ المشكلة قد تتمثَّل في فقدان الوعي الرسالي لطبيعـة المهمة وواقع الرسالة، مما يوجب حدوث كثير من الالتباسات في كثير من القضايا.. فقد يستسلم أصحاب المشروع إلى صورة ساذجة من صور الاندفاع الدينـي التي ينفذ منها الكثيرون من أعداء الدِّين إلى مخططاتهم القريبة والبعيدة، مستغلين في ذلك سذاجة المشرفين، وجهلهم بالواقع الحياتي الذي يعتمد سياسة اللّفّ والدوران والالتفاف حول الشعارات البراقة أساساً للعمل في كلّ المجالات.

ومن هنا، قد يلفت نظرك ـ وأنت ترصد خطوات هذه المعاهد والمشاريع ـ سيطرة الاتجاه الإلحادي، في بعض الجوانب، على مناهج التعليم وخطواته، والانحراف في البعض الآخر، والاهتزاز في كثير من الأحيان، نتيجة بعض التصرّفات الخاصّة للمستغلين من أعداء الدِّين، دون أن يلتفت القائمون على المشروع لذلك، بسبب بعض البراقع واللافتات الخادعة التي تكاد تكشف عما تحتها، لو كانت هناك عين يقظة نفاذة تحاول النفاذ إلى ما وراء الستار.

الحياد المزعوم
وقد نجد بعض المشرفين على هذه المعاهد، ممن يملكون الثقافة الإسلامية الناضجة، والوعي الفكري المنفتح، ولكنَّهم يحاولون أن لا يكونوا عاطفيين في الاتجاه الإسلامي للتربية، وإنما يعتبرون "الموضوعية" أساساً للعمل الهادئ الناجح.

ولكنَّ "العاطفة" في مفهومهم قد تختلف عنها في مفهومها العام، فهم يحاولون الابتعاد تماماً عن كلّ عوامل الإثارة للمشاعر الدينية، فهي ـ في نظرهم ـ لا تنسجم مع المستوى الثقافي للمعهد، والصفة العملية الهادئة الرصينة التي يحملها.

وهم يتجنّبون ـ كثيراً ـ تشجيع الاتجاهات الإسلامية التي تنطلق بها أفكار بعض الطلاب، حذراً من أن يسيء ذلك إلى هذا أو ذاك ممن ينتمي إلى الحزب الفلاني، والعقيدة الفلانيّة، لأنَّ المعهد يجب أن يكون "موضوعياً" لا يعطف على فئة دون فئة، ولا يشجّع اتجاهاً على اتجاه، حفاظاً على صفة الحياد التي تقتضيها طبيعة "الموضوعيّة"، كأنَّ القضية قضية "معهد" يجب أن ينجح، لا قضيّة فكرة يجب أن تسود وتتركّز.

وربَّما يحملهم هذا الشعور بالاتهام، أو بالأحرى "عقدة الموضوعيّة"، إلى أن يجاملوا الاتجاهات غير الإسلامية، في مقابل الاتجاهات الإسلاميّة، ليثبتوا أنهم "غير عاطفيّين".

أمّا إذا حاولت أن تسألهم عن "الهدف الإسلامي" الذي انطلق المعهد على أساسه، فإنَّك واجد حتماً منهجاً طويلاً عريضاً يدرس فيه الطلاب علوم الإسلام والثقافة الإسلامية، تماماً كما يدرسها أيّ معهد متخصّص بالدراسات الإسلامية في أميركا أو لندن.

التربية الواعية
إنَّ الاتجاه "العاطفي" ـ في ما نفهم ـ هو الانطلاق في العمل على أساس غير مخطَّط وغير مدروس، أمّا الانطلاق في العمل على خطّة مدروسة واضحة المعالم، هادفة واعية، تستخدم طبيعة الإثارة في بعض الأحيان من أجل إيجاد الأجواء الملائمة التي يتنفس فيها الطلاب روحانية الدِّين، ليستطيعوا أن يهضموا الثقافة الإسلامية في أجواء إسلامية، فقد يعطيهم الكثير الكثير من المعاني التي لا يستطيعون فهمها ولا الإحساس بها بعيداً عن هذه الأجواء.

إنَّ الثقافة الإسلامية لا تكفي لإيجاد جيل مسلم يلهب الإسلام روحه كما يلهب عقله، ويثير الدِّين ضميره كما يثير فكره، بل هي ـ لو خلت من الأجواء الدّينية ـ مجرَّد معلومات جافّة لا تزيد على أن تملأ ذهن الطالب وفكره، بالنظريات الفلسفية أو الأخلاقية أو التشريعية، من دون أن تلامس حياته، لأنَّ الانسجام الحياتي مع أيّ فكرة، لا يتحقّق إلاَّ بالتربية السلوكية الواعية التي ترقب الخطى كما ترقب الخطط، وتبحث عن الوسائل كما تبحث عن الأهداف.

وأخيراً، نحن هنا أمام الحقيقة المؤلمة وجهاً لوجه؛ إنَّ مشاريعنا الدّينية بدأت تهرب منا رويداً رويداً.. في عملية التفاف سريعة، لتعود بعد ذلك منطلقاً للاتجاهات اللادينيّة التي تحارب قواعدنا الدينية في الداخل.

فماذا نفعل؟ ربَّما يكون من بين الحلول التي تواجهنا في البداية، أن نبدأ القضية في عملية ثورة إصلاح وترميم، لأنَّ ذلك هو السبيل الذي يجعل الحلّ في مستوى المشكلة..

وليست الثورة ـ هنا ـ إلاَّ التعبير الحيّ عن المحاولة الواعية، للانطلاق من الجذور التي عشّش فيها المرض والأعماق التي استنقع فيها الداء.

*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".
https://taghribnews.com/vdcf10dmvw6d1ea.kiiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز