تاريخ النشر2018 12 August ساعة 10:22
رقم : 350232

الإمامة المبكرة

تنا
هذه الظاهرة التي ظهرت لأوّل مرّةٍ في حياة الأئمّة في الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام)، لو درسنا بحساب الاحتمالات، لوجدنا أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقّانية هذا الخطّ الذي كان يمثّله الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام)، إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الإمامة الواقعية في شخصٍ لا يزيد عمره عن سبع سنين، ويتولّى زعامة هذه الطائفة في كلّ المجالات الروحية والفكرية والفقهية والدينية؟
الشهيد السيد محمد باقر الصدر
الشهيد السيد محمد باقر الصدر
المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض)
نجتمع بمناسبة وفاة الإمام التاسع (عليه الصلاة والسلام)، الإمام الجواد، الذي قدّر الله سبحانه وتعالى أن يكون نفس وجود هذا الإمام على خطّ حياة أهل البيت (عليهم ‌السلام)، دليلاً وبرهاناً على صحّة العقيدة التي نؤمن بها نحن بالنسبة إلى أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، لأنّ الظاهرة التي وجدت مع هذا الإمام، وهي ظاهرة تولّي الشخص للإمامة وهو بعد في سنّ الطفولة، على أساس أنّ التأريخ يتّفق ويجمع على أنّ الإمام الجواد (عليه‌ السلام) توفّي أبوه وعمره لا يزيد عن سبع سنين. ومعنى هذ، أنّه تولّى زعامة الطائفة الشيعية روحياً ودينياً، وعلمياً وفكرياً، وهو لا يزيد عن سبع سنين.

افتراضات لتفسير الظاهرة
هذه الظاهرة التي ظهرت لأوّل مرّةٍ في حياة الأئمّة في الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام)، لو درسنا بحساب الاحتمالات، لوجدنا أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقّانية هذا الخطّ الذي كان يمثّله الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام)، إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الإمامة الواقعية في شخصٍ لا يزيد عمره عن سبع سنين، ويتولّى زعامة هذه الطائفة في كلّ المجالات الروحية والفكرية والفقهية والدينية؟

في هذا الموضوع، لا مجال لافتراض أنّ الطائفة لم يتكشّف لديها بوضوح هذا الصبي؛ لأنّ زعامة الإمام في أهل البيت (عليهم السلام)، لم تكن زعامةً محوطةً بالشرطة، والجيش، وأبّهة المُلك، والسلطان الذي يحجب بين الزعيم ورعيّته، ولم تكن زعامة دعوةٍ سرّيةٍ من قبيل الدعوات الصوفية أو الفاطمية التي تحجب بين رأس الدّعوة وبين قواعد هذه الدعوة، لكي يفترض أنّ هذا الرأس كان محجوباً عن رعيّته مع إيمان الرعيّة به.

إمام أهل البيت (عليهم‌ السلام) كان مكشوفاً أمام الطائفة، وكانت الطائفة بكلّ طبقاتها تتفاعل معه مباشرةً في مسائلها الدينية، وفي قضاياها الروحية والأخلاقية، والإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام) نفسه أصرّ على المأمون حينما استقدمه إلى بغداد، في أن يسمح له بالرجوع إلى المدينة، وسمح له بالرجوع إلى المدينة، ورجع إلى المدينة، وقضى بقيّة عمره أو أكثر عمره في المدينة.

إذاً، قد قضى الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام) أكثر عمره، أو كلّ عمره، وهو على المسرح، وهو مكشوف أمام المسلمين، أمام مختلف طبقات المسلمين، بمن فيهم الشيعة المؤمنون بزعامته وإمامته، فافتراض أنّه لم يكن الإمام الجواد (عليه ‌السلام) مكشوفاً أمام المسلمين وأمام طائفته بالخصوص، خلاف طبيعة العلاقة التي أنشئت منذ البداية بين أئمّة أهل البيت (عليهم‌ السلام) وقواعدهم الشعبية في المسلمين، وخصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك أنَّ الإمام الجواد (عليه‌ السلام) قد سلّطت عليه أضواء خاصّة من قبل الخليفة المأمون في القصّة التي تعرفونها.

يبقى افتراض آخر، وهو افتراض أنّ المستوى العلمي والفكري للطائفة وقتئذٍ كان يَعبُر عليه هذا الموضوع، كان بالإمكان على المستوى الفكري والعقلي والروحيّ للطائفة أن تصدّق بإمامة طفلٍ وهو ليس بإمام! هذا أيضاً ممّا يكذّبه الواقع التأريخي لهذه الطائفة، وما وصلت إليه من مستوى علميّ وفقهي، فإنّ هذه الطائفة قد خلّفها الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما ‌السلام)، وفيها أكبر مدرسةٍ للفكر الإسلامي في العالم الإسلامي على الإطلاق. 

المدرسة التي كانت تتكوّن من الجيلين المتعاقبين: جيل تلامذة الإمام الصادق والكاظم (عليهما ‌السلام)، وجيل تلامذة تلامذة الإمام الصادق والكاظم (عليهما ‌السلام)، هذان الجيلان كانا على رأس هذه الطائفة في ميادين الفقه والتفسير والكلام والحديث والأخلاق، وكل جوانب المعرفة الإسلامية.

إذاً، فليس من الممكن أن نفترض أنّ المستوى الفكري والعلمي لهذه الطائفة كان يَعْبُر عليه مثل هذا، لا يمكن أن يعبُر على طائفةٍ فيها هذه المدرسة التي كانت هي قبلة الفكر الإسلامي في كلّ ميادين المعرفة، أن يعبر عليها مثل هذا التصوّر، وتتصوّر أنّ شخصاً طفلاً هو إمام وهو ليس بإمام.

إن أمكن لشخصٍ أن يتصوّر أنّ رجلاً عالماً كبيراً محيطاً مطّلعاً بلغ الخمسين أو الستّين، يستطيع أن يقنع مجموعةً من الناس بإمامته وهو ليس بإمام، لأنّه يتّصف بدرجةٍ كبيرةٍ من العلم والمعرفة والذكاء والاطّلاع، فليس بالإمكان أن نفترض ذلك في شخصٍ لم يبلغ العاشرة من عمره. وكيف يستطيع أن يقنع بإمامته كذباً طائفةً وهو مكشوف أمامها؟ وهذه الطائفة تشتمل على مدرسةٍ فكريةٍ من أضخم المدارس الفكرية التي وجدت في العالم الإسلامي يومئذٍ، مدرسة كان يوجد بعض قطاعها في الكوفة، وبعض قطاعها في قم، وبعض قطاعاتها في المدينة، هذه المدرسة التي كانت موزّعةً في حواضر العالم الإسلامي، والتي كانت كلّها على صلةٍ مباشرةٍ بالإمام الجواد (عليه‌ السلام) تستفتيه وتسأله، وتنقل إليه الأموال من مختلف الأطراف من شيعته، مثل هذه المدرسة لا يمكن أن نتصوَّر فيها أن تغفل عن حقيقة طفل لا يكون إماماً.

يبقى افتراض آخر، وهو: أنَّ الطائفة لم يكن عندها مفهوم الإمام والإمامة، كانت تتصوّر أنّ الإمامة مجرّد تسلسلٍ نسبيٍّ ووراثيٍّ ولم تكن تعرف ما هو الإمام؟ وما هي قيمة الإمام؟ وما هي شروط الإمام؟ هذا الافتراض أيضاً يكذّبه واقع التراث المتواتر المستفيض من أمير المؤمنين إلى الإمام الرضا (عليهما الصلاة والسلام) عن شروط الإمام، ومحصول الإمام، وعلامات الإمام.

التشيّع قام بصورةٍ أساسيّةٍ على المفهوم الإلهي المعمّق للإمامة، هذا هو أوضح وأبده وأوّل مفهومٍ من مفاهيم التشيّع، وهو: أنَّ الإمام إنسان فذّ فريد في معارفه وأخلاقه وقوله وعمله، هذا هو المفهوم الأساسي للتشيّع الذي بشّرت به آلاف النصوص من عهد أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) إلى عهد الإمام الرضا (عليه الصلاة والسلام)، كلّ الخصوصيات وكلّ التفاصيل أصبحت بالتدريج واضحةً في ارتكاز الطائفة وذهنيّتها، حتّى بعض التفاصيل الثانوية.

يقول الراوي في مناسبة قصّة الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام):
دخلت المدينة بعد وفاة الرضا أسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا (عليه ‌السلام)، فقيل: إنّ الخليفة في قريةٍ قريبةٍ من المدينة، فخرجت إلى تلك القرية، ودخلت داخل القرية، وكانّ فيها بيت للإمام موسى بن جعفر (عليهما‌ السلام) انتقل بالوراثة إلى أولاده وأحفاده، يقول: فرأيت البيت غاصّاً بالناس، ورأيت أحد إخوة الإمام الرضا (عليه ‌السلام) جالساً يتصّدر المجلس، إلاّ إنّ الناس يقولون فيما بينهم: إنّ هذا ليس هو الإمام بعد الإمام الرضا؛ لأنّنا سمعنا من الأئمّة (عليهم ‌السلام)، أنّ الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين. 

كلّ التفاصيل وكلّ الخصوصيات النسبية والمعنوية كانت واضحةً ومحدّدةً عندهم. إذاً، فهذا الافتراض أيضاً يكذّبه واقع التراث المتواتر الثابت عن الأئمّة السابقين (عليهم الصلاة والسلام).

يبقى افتراض أخير، وهو أن يكون هذا تبانياً على الزور والباطل من قبل هذه الطائفة، وهذا أيضاً ممّا لا يكذّبه إيماننا الشخصيّ فقط بورع هذه الطائفة وقدسيّتها، وإنّما يكذّبه - إضافةً إلى إيماننا الشخصي بذلك - الظرف الموضوعي لهذه الطائفة، إذ لم يكن التشيّع في يومٍ من الأيام في حياة هذه الطائفة طريقاً إلى الأمجاد، إلى المال، إلى الجاه، إلى السلطان، إلى المقامات العالية...

التشيّع طيلة هذه المدّة كان طريقاً إلى التعذيب، إلى السجون، إلى الحرمان، إلى الويل، إلى الدمار، كان طريقاً إلى أن يعيش الإنسان حياة الخوف والذلّ والتقيّة في كلّ حركاته وسكناته، لم يكن التشيّع في يومٍ من الأيام طريقاً إلى مالٍ، أو جاهٍ، أو ثراءٍ، حتّى يكون هذا التباني من قبل هذه الطائفة على ذلك في سبيل مطمع. لماذا يتبانى عقلاء هذه الطائفة ووجهاؤها وعلماؤها على إمامةٍ باطلةٍ، مع أنّ تباينهم على هذه الإمامة الباطلة يكلّفهم كثيراً من ألوان الحرمان؟ ولو أنّ هؤلاء الوجهاء والعلماء والأعلام تركوا هذه الطريقة واتّبعوا الطريق الرسمي المكشوف وقتئذٍ، المتّبع من قبل سائر المسلمين، لكانوا في طليعة سائر المسلمين. فالظروف الموضوعية للطائفة، كانت بنفسها تشهد على أنّ هذا التباني على إمامةٍ، يكلّفهم الاعتقاد بها ألوان العذاب، وألوان الحرمان لا يمكن أن يكون ناشئاً إلاّ عن اعتقادٍ حقٍّ بهذه الإمامة.
إذاً، فكلّ هذه الافتراضات الأخرى لا يمكن أن تكون مقبولةً عند أيّ إنسانٍ يطّلع على تأريخ الطائفة، وتأريخ الإسلام وقتئذٍ، وعلى الظروف الموضوعية التي تكتنف إمامة الجواد (عليه ‌السلام)، ولا يبقى إلا الفرض الوحيد المطابق للواقع، وهو: أن يكون الإمام الجواد إماماً حقّاً.

*محاضرة ألقيت في ٢٩ من ذي القعدة الحرام، سنة ١٣٨٨ هـ
https://taghribnews.com/vdcex78xwjh8nwi.dbbj.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز