تاريخ النشر2018 7 August ساعة 09:20
رقم : 348685

سبل التقارب بين الأديان

تنا
الحبّ هو طاقة الوصل بين الإنسان وبين كلّ الموجودات، فالإنسان في وجوده منفصلٌ عن كلّ شيءٍ، وبالتالي، كان لا بدَّ له من سبب يصله بالإنسان الآخر، وبالموجودات الأخرى، وحتى بالموجودات التي تدخل بالنّسبة إليه في حيّز الغيب، ولا سيّما الربّ والإله والمعبود.
سبل التقارب بين الأديان
السيد جعفر فضل الله
لماذا المحبّة جزءٌ لا يتجزّأ من الأديان كلّها؟ وقد ورد عندنا في بعض الأحاديث: "وهل الدّين إلا الحبّ؟!".

المطلوب التأصيل الفكريّ لذلك؛ لأنَّ إثبات أمر في صلب الدّين، لا بدَّ له من مبرّر علمي، ومن دونه، لا تكتسب النسبة مشروعيّة ولا استمراريّة ولا ثباتًا في حركة المتديّنين.

الحبّ هو طاقة الوصل بين الإنسان وبين كلّ الموجودات، فالإنسان في وجوده منفصلٌ عن كلّ شيءٍ، وبالتالي، كان لا بدَّ له من سبب يصله بالإنسان الآخر، وبالموجودات الأخرى، وحتى بالموجودات التي تدخل بالنّسبة إليه في حيّز الغيب، ولا سيّما الربّ والإله والمعبود.

في الحياة الاجتماعية، لا يسعى الإنسان للزواج من دون "المودة"، ولا يصبح وجوده الاجتماعي فعالًا من دون "الولاية"، وهي لونٌ من ألوان المودّة كذلك، ولا يتبع الإنسان الأنبياء من دون تلك المودة، حتى إنّ الرسالات طلبت أن تكون المودّة أجرًا لها: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودّة في القربى}.

كما اعتُبرت المودّة أساسًا لتمايز المجتمعات، فقال تعالى: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...}. وبذلك، كان التديّن الفعّال والحقيقيّ، هو أن يكون الإنسان "أشدّ حبًّا لله".

ومن وجهة نظر تحليليّة، فإنَّ الحبَّ يُدخل الآخر في قلب الأنا والذّات، فلا يعود مفصولًا عنه، ويتحوَّل جلب المنافع إلى الآخر، ودفع المفاسد والأضرار عنه، جلبًا للمنفعة للذات، ودفعًا للضّرر عنها.

استنادًا إلى ذلك، يصبح الحبّ أو المودّة مقياسًا لمدى التماسك والتلاحم الاجتماعي بين الإنسان والإنسان، أفرادًا وجماعات ومجتمعات. وهو أقوى رابطًا من الرّابط الفكري العقدي المجرّد الذي تشترك فيه جماعتان، وهذا الرّابط – في بعده الفكري – إذا لم يتحوَّل إلى طاقة شعوريّة من الحبّ، فإنه لن يشكّل سوى إطار شكليّ من التماسك، وليس إطارًا فعليًّا قادرًا على تمتين اللّحمة بين أفراد الجماعة.

ذلك لأنَّ الإيمان نفسه لا يقوم على الفكر فقط، بل لا بدّ من أن يتحوّل الفكر إلى حالة شعورية ممتزجة بالوجدان، قائمة بالحبّ الذي يربط بين الإنسان وبين الجهة التي تمتّ لمضمون الفكرة، كالإله أو النبي أو الأولياء أو مجرّد فكرة أو مفهوم.

تأثير الأفكار النمطية في الحبّ
وهنا، تشكّل الأفكار التي يختزنها الإنسان عن الأفراد والجماعات الأخرى، حاجزًا أمام انبعاث الحبّ تجاهه أو تجاهها؛ لأنَّ الفكر يمهِّد الطريق أمام المشاعر، لتتجه بإيجابيّة نحو الطرف الآخر، أو تكبح جماح المشاعر الإيجابيّة، وتطلق المشاعر السلبيّة. وبالتالي، فإذا ما فُرض اللّقاء على الجماعات المتنافرة، فهذا في حدّ ذاته يجعل العلاقة علاقة مرهونة بالظّروف الخارجيّة التي تحيط بالإنسان، فتدفعه إلى اللّقاء بالآخر، وإظهار ألوان الحبّ والودّ له، وحتى التّنظير الفكريّ التجريديّ للّقاء بالآخر والاقتراب منه إلى مساحة مشتركة؛ ولكنَّ هذا كلّه لا ينبع من الداخل، ولذا تراه رهنًا بمدى ما تفرضه العوامل والقوى الخارجيّة في ذلك، وما يلبث أن يتلاشى عندما تضعف تلك العوامل وتتحيّد تلك القوى.

ولعلّ كثيرًا من المؤتمرات والنّدوات التي فرضتها إرادات خارجيّة، تمثّل نموذجًا يجعل المتحاورين يلتقون في صور تذكاريّة رائعة، ولكنّهم إذا عادوا إلى قواعدهم، رجعوا إلى روحيّة الفرقة الّتي هي المتأصّلة في ذواتهم، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنًا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم إنما نحن مستهزئون}.

بل إنَّ فقدان الحبّ هو الذي يدفع نحو آليّات الاستبعاد للطرف الآخر، كالسبّ واللّعن وغيرهما، ارتقاءً إلى النفي والقتل ونحو ذلك، لأنَّ الإنسان عندئذٍ لا يكون في داخله حبُّ الخير للآخر، لأنه ببساطة غير معنيّ به من قريب أو بعيد.

بل قد نجد هنا أنَّ الإنسان سيدخل نفسيًّا في استبعاد كل العناصر التي تقرّبه من الآخر، وسيجد نفسه مشدودًا إلى تأكيد كلّ العناصر التي تؤكّد الصورة السلبية التي يحملها عنه، بما تختزنه من كلّ المشاعر السلبيّة.

وهنا، لعلّنا نفهم كيف يقوم الإنسان باقتناص كلّ كلمة تنطلق من الآخر تؤكّد تلك الصورة السلبية، ويتجاوز أو يرمي بالكذب كلّ كلمة تنطلق من ذلك الآخر تفرض تعديلًا في الصورة السلبيّة، وهذا الأمر نفسه هو الذي يفسّر كيف تبقى كثير من الحوارات مبنيّة على تسجيل النقاط، أكثر ممّا هي حوارات للتقارب الجدّي والحقيقي.

ومن زاوية أخرى، نستطيع أن نفهم لماذا كان الأنبياء في حاجة إلى طاقة هائلة للحبّ للإنسان الآخر، حيث أوّل من يواجه الأنبياءَ في مجتمعهم، هم الكافرون الذين يتوق الأنبياء إلى هدايتهم إلى الرسالة التي يحملونها. والحبّ هو الذي يمنحهم القدرة على التفهّم للجاهلين، والصبر على أذاهم، حتى بلوغ النتائج في المدى الطويل لحركتهم.

وإذا أردنا أن نشير إلى بعض الأدبيات التأسيسية للروحية الإنسانية التي تسمح بالحبّ، حتى مع الاختلاف العقائديّ، لرأينا مثل المروي عن النبيّ(ص): "إنّ الله يحبُّ العبد ويبغض عمله"، بحيث تكون المشكلة مع الآخر في العناصر الطارئة على جوهر إنسانيّته، والتي تدفعه إلى ارتكاب الشرّ، أو ركوب الكفر وما إلى ذلك. بهذا، يتحوّل الخلاف مع الآخر، وحتى الصراع معه، إلى فعل حبٍّ؛ لأنّه يستهدف تخليصه من تلك العناصر، حتى تبقى الإنسانية التي يحملها في ذاته صافيةً من كلّ الشوائب التي تصطدم بها وتشوّه حقيقتها. وبهذا، تتحوّل طاقة الحبّ إلى حركة تتلمّس عناصر الخير في الشرّير، لتبني عليها مسارًا من التفاعل والانفعال في داخل ذات الآخر، بغية تغليب هذه العناصر على تلك. وهو ما يمنحنا – نحن المختلفين عقديًّا وفكريًّا – التفهّم لظروف الآخر، وتلمّس العوامل التي تدفعه في اتجاه الخطأ أو الشرّ أو الانحراف، والصبر على المتطلبات التي يفرضها تغيير تلك العوامل من أجل تغيير الإنسان نفسه.

على أنّ تلمّس عناصر الخير لدى الآخر، والتي قد تتمظهر في أكثر من قيمة، كالحقّ في الفكر، والعدل في الموقف، مما قد يدفع ذواتنا نحو النسبيَّة التي لا تختصر الحقَّ في أفكارها، ولا العدل في مواقفها، بل تجعل من الآخر فيما يمثِّل، الإمكانيّة التشاركية لاكتشاف ذواتنا أكثر، انطلاقًا من الوجهة أو الجهة التي يبرز فيها الآخر نفسه، ولعلّ هذا يلتقي بمبدأ التعارف الذي ذكره الله تعالى في كتابه.

القضايا والتحدّيات التي تواجه الأديان حديثًا:
أهمية هذه القضايا تنبع من كون العمل المشترك في حدّ ذاته يوحي للإنسان بالتقارب؛ لأنّ الهدف الذي يسعى إليه الإنسان انطلاقًا من رساليّته، يجعله حكمًا يمدّ جسور التعاون مع أيٍّ كان ممن سيضيف إليه جهدًا يسرّع في بلوغ الهدف. وهذا الطريق في التقارب، أهمّ بكثير من الحديث النظري عن الحوار وأهمّيته. إنّ التّعاون على قضية مشتركة، أو العمل على مواجهة تحدٍّ مشترك، هو في حدّ ذاته حركة للحوار البنّاء، وطريق لمعرفة الآخر، ووسيلة للتقارب معه على قاعدة عُليا يجتمع عليها الطرفان.

أما فيما يرتبط بالقضايا الملحّة التي تقف أمام الأديان في العصر الحديث، فيمكن الإشارة إلى ثلاث قضايا أو تحدّيات كبرى على هذا الصعيد:

الأول: التحدّي الفكري البنيوي
تواجه الأديان اليوم قضيّة اعتُبرت من أخطر القضايا التي تهزّ بنيتها، حيث ثمة إشارات إلى موجة إلحاد عالميّة بدأ يشعر معها القائمون على الأديان بأنها تهدم الثقة بين الجيل الحديث وبين الأديان نفسها.

لا بدّ من الإشارة في البداية إلى أنّ القضايا التي يطرحها الملحدون متنوعة، ولا تصبّ في مصبٍّ واحد من الناحية الفكريّة، وهي مستويات متفاوتة، فبعضها قد ينكر الدين كمنظومة اعتقادية مع إيمانه بالخالق، وبعضها قد ينكر الخالق، وبعضُها قد ينكر البُعد التشريعي في الدّين؛ وهذه كلّها تشترك في ناحية عملية، وهي أنّ الدّين لا علاقة له بالحياة.

ولئن حاول البعض أن يقلّل من شأن ظاهرة الإلحاد في العصر الحديث، ليعتبر أنّها قضيّة شكّلت جزءًا من مسار البشرية على امتداد التاريخ البشري، إلا أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أمرين يجعلان من الظاهرة أمرًا يبعث على الحذر تجاه التهوين من شأنها، بما يخلّ بمقاربة الجهات الدينية لها، وبالتالي، المعالجات التي تُبنى على هذه المقاربة.

الأمر الأوّل: لم يعد الإلحاد اليوم مبنيًّا على جدلٍ فلسفيّ تجريدي فقط، وإنّما يدّعي الخطّ الإلحادي اليوم أنّ لديه مستندات علمية على الإلحاد. أي أنّ هذا الخطّ استطاع – بغضّ النظر عن النقاش في ذلك – أن يوظّف الاكتشافات والنظريات المنتجة في مجالات علوم متنوّعة معترف وموثوق بها عالميًّا، سواء في الفيزياء أو الطبيعيات أو الجيولوجيا أو غيرها، أن يوظفها في الاستدلال على الإلحاد ونفي الفكر الديني من أساسه. وهذا الأمر لم يكن عليه الحال في كلّ التاريخ البشري إلى الأمس القريب، مع سيادة نتائج الطفرة العلمية المنقطعة النظير.

وبمعزل عن الجدل الذي يثور في الغرب اليوم حول نظرية المعرفة ومستوى اليقينية للعلوم الطبيعية، فإنّ النتيجة الشعورية الوثوقية التي أفرزها تقدّم العلوم الحديثة عند إنسان العصر الحديث، لا الناس العاديّين فقط، وإنما لدى طلّاب العلوم وأساتذتها؛ هذه النتيجة جعلت الناس تُذعنُ نفسيًّا بشكل عميق إلى العلم الحديث، وانتشرت على أثر ذلك مقولة "أنا أؤمن بالعلم/ I believe in Science".

وفي رأيي، أنّ هذه القضية تطرح إشكاليات كُبرى أمام الأديان، وهذه الإشكاليات تدفع باتجاه أن تكون الأديان أكثر عقلانيةً في تقديم المادّة الدينية، وأقرب إلى البناء على منجزات العلم، حتى لو كان المراد تفكيكها؛ فهذا لا يتمّ من الخارج، بل من داخل نسق العلم نفسه.

هنا، قد نطرح التأمّل الكبير في المقولات التي تعتبر الإيمان قضيّة غير خاضعة لموازين العقل؛ لأنَّ مثل هذه المقولات تنسف الأرض المشتركة التي يمكن أن يُبنى عليها حوارٌ حقيقيّ ومتفاعل بين أتباع الأديان والجيل المعاصر؛ بل إنَّ ذلك قد يصيب أتباع الأديان أنفسهم بنوعٍ من الاهتزاز في الأرض التي يقفون عليها.

وإذا كانت مقولة إن الإيمان قضيّة فوق العقل، تمثّل نوعًا من الهروب من تبعات ما يطرح على مستوى العلم الحديث اليوم، فإنّ هذه القضية نفسها تحتاج إلى إثباتات علمية لتقنع الإنسان المعاصر، ما يجعلنا ندور في الدائرة نفسها. كما أنّ هذه الدائرة، وإن كانت مثار نفي من بعض الأديان، فإنّ الاتجاه الإلحاديّ بطرحه مستويات متنوّعة من الأفكار المضادّة للدّين، يفرض على أتباع الأديان مقاربتها بطريقة مناسبة. وكمثال على ذلك، قضية المعجزة الواردة في القرآن الكريم، حيث أصبح من البعيد عن ذهن الجيل المتشرّب بالعلم والحسّ، تقبّل أسباب غير منسجمة مع القوانين العامّة للفيزياء والطبيعيات وغيرها.

إنَّ ما نريد تأكيده هنا، هو أنّنا نطرح المسألة لا من زاوية فكرية فقط، وإنما من زاوية شعوريّة، بحيث قد نجد – في محاوراتنا مع أبناء جيلنا – أنّ القناعة الفكرية التي تجعل الفكرة مقبولة منطقيًّا، قد لا تفي بسدّ الحاجة إلى "الإيمان" بها، بسبب بقائها في حالة الشكّ. هذا الأمر إشكاليّة تفرض مقاربات مختلفة لخطابنا الدّيني بلا شكّ.

الأمر الثاني: العولمة التي لم تقرِّب المسافات المادية بين الناس فحسب، وإنّما أفرزت مستوًى من التدفّق في المعلومات والصور وتأثيراتها بشكل منقطع النّظير. هذا التدفّق لم يقتصر على البُعد المادّي لما يتدفّق ضمن شبكات العولمة، ولكنّه يلقي بظلاله على المشاعر والأحاسيس على الإنسان المعاصر بشكل تتعاظم معه الأسئلة والإشكاليات التي تحملها المضمون أو يثيرها في النفس.

وكمثالٍ على ذلك، قضيّة العدل الإلهي التي كانت بعض الحوادث المحيطة التي يعايشها الإنسان في محيطه، تطبعه بمشاعر الشكّ في ثبوتها. أمّا اليوم، فهذا المحيط أصبح مداه العالم؛ بل الكون كلّه، حيث أصبح السؤال عن مدى وجود نظام حكيم للعالم في مقابل فوضى قد تبدو صارخةً في وجه المشاعر الإنسانيّة، بسبب تجمّع هذه المعطيات والصور بشكل غير مسبوق!

لسنا هنا في مقام الحديث عن عدم وجود جواب فكريّ على ذلك، بل هو موجود وبقوّة، ولكنَّ الجواب الّذي كان يشفي الغليل في السابق، قد لا يكون كذلك اليوم؛ لأنَّ المسألة فيما يبدو مسألة شعور وأحاسيس، والآليات التي تنتج بها الأديان أفكارها، لاتزال آليّات الإشكاليات الماضية، وهذا يجعل المعركة غير متكافئة!

أمام كلّ ذلك، نحتاج إلى جبهة دينية عالميًة لتأكيد الإيمان في حركة الجيل المعاصر، لأنّ القصة في عصرنا، أنّه لم تعد هناك مجتمعات منعزلة ليملك كلّ مجتمع أن يتقوقع حول ذاته، وحول فكره وقضاياها، بعيدًا من المجتمع الآخر، ويعطي بعض خطوط التماس بعض همّه وبعض جهده.

وهذه الجبهة تفرض الحوار الفكري بين الأديان، ومشاركة الخبرات والآليات التي يمكن من خلالها تعزيز حضور هذه الجبهة وتأثيراتها، بدلًا من استمرار الصراع أو التقوقع الذي يزيد من خسارة هذه الجبهة.

لا مانع هنا أيضًا من أن تعيد الأديان نفسها بإنتاج فكرها الديني، طالما أنّ الأديان المعاصرة هي عبارة عن فكر اجتهادي بشري لا مطلقات فيه، وقد تتبدّل القناعات تجاه أفكاره تبعًا لتبدّل المعطيات. هذه في حدّ ذاتها تطرح إشكالية جعل الحوار جزءًا من مسار الأديان نفسها، حتى فيما يطرحه العلم الحديث اليوم.

ولعلّه يحسب لنا هنا، أن نشير إلى أنّ بعض المرونة الفكرية التي هي أقرب إلى التنازل لأجل اجتذاب الجيل المعاصر، هي مرونة لا جدوى منها، أو على الأقلّ، هي محدودة الجدوى على الأقلّ. ولعلّ بالإمكان أن تكون هذه القضايا جزءًا من الحوار الديني، لعلّ الأديان قد تفيد بعضها بعضًا في كيفية حلّ الإشكاليّات التي فرضت على بعضها التنازل، بينما يملك الآخرون إجابةً لا تجعل التنازل ضروريًّا. كلُّ ذلك يفرض على الأديان أن تتعاطى مع بعضها البعض بطريقة انفتاحيّة، وهو خيرٌ من التقوقع والانغلاق الذي تختاره الأديان كآليّة من آليات إدارة الصراع لإثبات الذّات في الواقع أمام الأديان الأخرى.

الثاني: تحدّي النموذج
طرحت الحركات المسمّات "أصولية" إشكاليّة النموذج أمام الجيل المعاصر. ولئن كانت الحركات الإسلاميّة المتطرّفة أكثر حضورًا على المسرح الإعلامي والسياسي والواقعي نتيجة عوامل متنوّعة، فإنّ الأصوليّة المسيحيّة التي برزت في سلوك المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكيّة، أو التطرّف اليهودي الذي يكاد يكون بنيويًّا في اليهودية اليوم، لا يقلّ إشكاليّة.

هذه النماذج المتطرّفة تضغط على الجيل المعاصر في قبوله للصورة التي تبرز بها الأديان بشكل صارخ، ما يعني أنّ الأديان نفسها أمام تحدٍّ هائل جرّاء ذلك؛ لأنّ الموضوع اليوم لا يمكن أن يجاب عليه بأنَّ الإسلام شيء وهؤلاء شيء آخر، أو أنّ المسيحية شيء وبعض أتباعها شيء آخر، لأنّ ذهنيّة الجيل المعاصر تقول لأتباع الأديان: إذا لم يكن هذا هو نموذج الدّين، فأين هو نموذجه؟!

النموذج لا يردّ عليه إلا بنموذج لا يقلّ تأثيرًا. نعرفُ أيضًا هنا أنّ كثيرًا من القوى الخفية في العالم اليوم، والمتحكمة بالسياسة والإعلام، تعمل على منع النماذج المضيئة من أن تأخذ حيّزًا لها في الواقع.

هذا الأمر يفرض على الأديان قضيّة مشتركة، وهي آليّات فهم النصّ الديني استنادًا إلى كلّ ما توافر لدى العصر من معطيات وعلوم وتراكم خبرات؛ الأمر الذي لا يكفي معه شحذ الهمم لانتقاد هذه النماذج فقط، بل تقديم النموذج المقنع المستند إلى الأديان نفسها في أدبيّاتها. وهذا النموذج لا بدّ من أن يكون واقعيًّا حيًّا، وليس مجرّد فكر تجريدي لا يلقى صداه على أرض الواقع.

هذه النقطة أحسبُ أنّها تجعلنا نفهم السبب الذي يقف وراء العنف النقدي ضدّ رجال الدّين اليوم، والذي ليس بالضرورة أنّه سيّئ بقدر ما يشير إلى الحاجة الصارخة لدى الجيل المعاصر لرؤية الدّين متجسّدًا في رجال الدّين، وذلك هو الذي يمكن أن يسدّ الحاجة النفسية له.

الثالث: التحدي السياسي والاجتماعي
ما الذي يمكن أن تقدّمه الأديان اليوم لمشاكل العالم؟ أين هي من مشكلة الحروب؟ الفقر؟ البيئة؟ النظام الاجتماعي؟ السياسي؟ الاقتصادي؟...إلخ.

إنّ كل هذه الأسئلة الكبرى تطرح إشكاليّة الدور الذي تلعبه الأديان على مستوى الحياة؛ حيث تطرح الأديان نفسها قائدًا لتلك الحياة. ذلك أنَّ العولمة – وهذه إحدى نتائجها – جعلت الإنسان يفكّر عالميًّا، وبالتالي، سيكون في موقع الشكّ من جدوى الأديان، عندما لا يراها تقدّم مساهمات فعّالة على صعيد حلّ مشكلات العالم.

وهذا الأمر يفرض حجمًا وزخمًا في المقاربة، أوسع من المقاربة التقليدية للقضايا الدينية، كما يفرض خطابًا مختلفًا يبتعد عن الوعظ والإرشاد العام، وأن يتّجه نحو المعالجات والمبادرات الجادّة من قبل القائمين على الخطاب الديني عمومًا.

هذه بعض التحدّيات التي حاولتُ الإشارة أو التأكيد عليها في هذه الورقة، وإنما أردتُ من خلالها الإشارة التي أنّ التقارب الحقيقي بين الأديان سيكون أفعل عبر مشاريع مشتركة، وعندئذٍ نختبر الحوار العملي الذي يمكن معه إغناء تجربتنا الدينية الخاصّة، والتجربة البشرية بعامّة، والله من وراء القصد.

الجامعة الإسلامية في لبنان – الوردانية، بتاريخ 26-7-2018.

 
https://taghribnews.com/vdcdjj0skyt0o96.422y.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز