تاريخ النشر2018 23 January ساعة 15:06
رقم : 307153

أدمنَّا التّجزئة.. والوحدة شعار ومجاملة

تنا
أدمنَّا التّجزئة.. والوحدة شعار ومجاملة وتكثر المؤتمرات، وتتعدَّد الشِّعارات، ونظلُّ في مكاننا، ولست في مقام توزيع الاتهامات، فربما أكون أحد هؤلاء، ولكنَّنا في موقع فهم الواقع وفهم الإنسان فينا، فنحن لا ننكر أنَّ فكرة التَّقريب عندما انطلقت من دار التَّقريب في القاهرة، كانت انطلاقة ضوءٍ في كلِّ ذلك الظَّلام الّذي عاش فيه المسلمون التعصّب الغبيّ، الَّذي لم ينطلق حتى مما يتحدَّث به المتعصِّبون من فكرٍ هنا وفكرٍ هناك.
أدمنَّا التّجزئة.. والوحدة شعار ومجاملة
العلامة المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
كان تعصّباً ينطلق من تخلّفٍ في فهم معنى حركة الإسلام في العالم، ومن معنى تكامل كلِّ الطَّاقات الإسلاميَّة من أجل فهم الإسلام، لأنَّ المشكلة قد تكون في فهم ما هو الإسلام، بحيث نستطيع أن نلاحق كلَّ تطوّرات وعي متغيّرات الواقع في العالم، لنعرف مكان الإسلام من ذلك: هل يستطيع أن يدخل العالم في متغيّراته المتلاحقة، أم أنّه يبقى حيث هو في مرحلةٍ من مراحل التّاريخ؟

ويبقى السّؤال: هل نحن جادّون في الوحدة الإسلاميَّة، أو أنَّنا نشبه أولئك الَّذين تحدَّث القرآن عنهم: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.

وحدة أم مجاملات؟!
نطلق الوحدة الإسلاميَّة، وقد أطلقناها في أكثر من موقع، ونجامل بعضنا بعضاً، ونتحدَّث عن وحدة العقائد، ووحدة أركان الإسلام، وعن وحدة القضايا السياسيَّة في تحدّيات الاستكبار للإسلام، ولكن عندما نحدِّق في الواقع، نرى كلّ واحد منّا، أو من أكثرنا، ولا نريد أن نتحدَّث عن شموليَّة غير دقيقة، يرجع إلى قاعدته ليقول إنَّنا نجاملهم، الحقّ معنا مئة في المئة، وليس الحقّ مع الآخرين، المذهب كلّه حقّ، والمذهب الآخر كلّه باطل، وليست هناك أية فرصة إسلاميَّة في العمق أن نتحاور في العمق!

فلنراجع ما اعتقدناه هنا وما اعتقدناه هناك؛ كلّ يقف في مكانه، ولكنّه لا يتقدَّم خطوةً نحو الآخر، بل يحاول أن يجذب الآخر إليه، هذه مسألة حقيقيَّة. ولذلك نتساءل: لماذا يزداد التعصّب المذهبيّ المغلَّف بغلافٍ طائفيّ؟ المذهبيَّة عندما تكون حالةً في الفكر، تكون غنىً للإسلام، وكلّ تنوّعٍ في الفكر عندما يبقى في دائرته الفكريَّة، فإنّه يغني العنوان الكبير، لأنَّه يجعلك تحدِّق فيه في الأفق الواسع، لا في الدَّوائر الضيّقة.

ولكنَّ المشكلة هي عندما تتحوَّل المذهبيَّة إلى طائفيّة، بحيث تصبح المسألة عشيرة هذا المذهب، وعشيرة ذاك المذهب، المهمّ أن نحافظ على العشيرة هنا، بقطع النّظر عمّا إذا كانت هذه العشيرة تلتزم الفكر الّذي انطلق منه المذهب هنا، والفكر الّذي انطلق منه المذهب هناك.. والخطّ العام الَّذي انطلق منه العنوان الكبير الّذي يحكم هذا المذهب أو ذاك.

إدمان ثقافة التَّجزئة
تحوَّل المذهب إلى جماعات، وتحوَّلت الجماعات إلى {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزخرف: 23]، ليس هناك من يكون مستعدّاً للتنازل عن شيء من رأيه.. وإذا قدّم أيّ إنسان بعض التنازلات أمام ما يعتقد أنَّه الحقيقة، فهناك الإرهاب الفكريّ في داخل هذا المذهب لمن يبتعد خطوةً، لا عن مسلّمات المذهب، ولكن عمّا يتحرك في الخطّ الفكريّ العامّ هنا وهناك، حتى إن المسألة تحركت في أنَّنا أدمنّا ثقافة التّجزئة، حتى تحوَّل المذهب الواحد إلى مذاهب، وانطلقت العصبيَّة التي تحكم المذهبيَّة لتحكم الآراء المختلفة في داخل المذهب الواحد.

ومن هنا، لم تعد المشكلة هي كيف تُوحِّد المسلمين، بل كيف نوحّد السنّة في داخلهم، والشيعة في داخلهم، والمذاهب الإسلاميّة الأخرى في داخلها، كيف نوحّدها لتتحاور ولتتعاون، لا أن يكفِّر بعضها بعضاً.. أصبحت مسألة التّكفير هي الطابع الَّذي يحكم الواقع الإسلاميّ، دون أن نحدِّد على المستوى الموضوعيّ، وعلى المستوى الكتاب والسنَّة ما هو مفهوم الكفر في الإسلام، ما هي العناصر الحيويّة التي يكون الإنسان بها مسلماً، وبإنكار أحدها يكون الإنسان كافراً.. ضاعت القضيَّة في داخل هذا المفهوم، فأصبح لكلّ طرف أو كلّ فئة مفهومها في الكفر والضّلال وما إلى ذلك من الأمور.

أسباب التفرّق
في هذا الجوّ، لا أريد أن أسجِّل تشاؤماً أو يأساً، ولكنّني أريد أن أسجّل مشكلةً حقيقيَّةً تحفر في داخلنا، تعني أنّنا لا نزال متخلّفين نملك علماً، متخلّفين نملك أبحاثاً، إنّنا متخلّفون في معنى دور الإسلام في الحياة، وحركة الإسلام في مواجهة التحدّيات، عندما نُدخل الإسلام في سجن ذاتنا ونغلق عليه.. لقد انطلق الإسلام من القمقم، ولكنّ حرّاس القماقم عملوا على أن يدخلوه في قمقم جديد؛ قمقم العصبيَّة، وعُدنا نفلسف العصبيَّة ونقول إنّها تساعدنا على أن نحفظ الأصالة هنا والأصالة هناك، لكن هناك فرق بين التعصّب والالتزام؛ أن تتعصَّب، أن تختنق في داخل ذاتك، أن تخرج من إنسانيّتك في وعي إنسانيّة الإنسان الآخر، أن تتعصَّب، أن لا تفكّر من جديد. إنّ معنى أن تلتزم، أن تعطي اقتناعك بالفكرة معنى حركة الفكرة في وجدانك، ولكن إذا كان من حقِّك أنت أن تختلف مع الآخر، فلماذا ترجم الآخر عندما يختلف معك؟!

الّذين لا يفتحون قلوبهم للحوار هم ضعفاء وجبناء، لأنهم يخافون من الحقيقة أن تهزم أوهامهم، لذلك، لن ينطلق الإسلام في الواقع إذا لم نجعله يتحرك في الهواء الطلق.. لا تخافوا على الإسلام عندما يدخل في ساحة الصّراع، ولا تخافوا على فهمكم للإسلام أن يعيش في ساحة الصّراع، لأنَّ الإسلام بما يملك من عناصر القوَّة، يستطيع أن يحمي بحركيَّته الفكريَّة نفسه وشرائعه، وأن يحمي نفسه من أتباعه عندما يسيئون فهمه ويتحدّون الأصالة فيه..

كم أطلقنا من مؤتمرات، وأصدرنا من بيانات، ولكن هل جرَّبنا أن نحوِّل المؤتمر في شعاراته وقراراته إلى مشروع؟ هل جرَّبنا أن ندرس آليَّة الوحدة الإسلاميَّة في الواقع لتنطلق في الخطِّ الواقعيّ؟ ما قيمة أن نطلق الشِّعار في الهواء الطّلق ونأتي إلى الواقع، فنجد كلَّ الحواجز الّتي تمنعه من أن يتحوَّل إلى حالة واقعيَّة؟! نحن الّذين ننطلق ونحضر مؤتمرات الوحدة الإسلاميّة، هل نزلنا إلى
الأرض؟ لكلٍّ منّا جمهوره، لكلٍّ منَّا جماعته، لكلٍّ منَّا حزبه، لكلٍّ منَّا حركته، الوحدة الإسلاميّة تنطلق كشعار، والطائفيَّة لا المذهبيَّة تتحرّك كواقع، لماذا تزداد الأحزاب الإسلاميَّة الحركيَّة الّتي تملك حركيَّة الواقع الإسلاميّ طائفيّةً؟ ـ ونحن كما قلنا، لا نتكلَّم بشكلٍ شامل، إنما نتناول الظَّاهرة ـ لماذا تزداد طائفيّةً؟ لماذا لا نطمع أن تتعاون حركة إسلاميَّة مع حركة أخرى بالقلب المفتوح؟ ربما تتعاون القيادات، لأنَّ الجميع يحافظ على الواجهة، ولكن لماذا لا تنزل هذه الخطوط الحركيَّة الإسلاميَّة العامَّة إلى الأرض؟ إنّنا في الواقع، لا نجد هناك تداخلاً وتفاعلاً وتكاملاً بين قاعدة حركة إسلاميَّة وحركة إسلاميّة أخرى، لأنَّ المطلوب هو أن يبقى الجميع في الواجهة، لكن دون أن ينزلوا إلى الأرض.

أنا لا أنكر أنَّ هناك بعض الحركات الإسلاميّة الفاعلة الواعدة، تفكِّر في الانفتاح، لكن الظّاهرة هي الظّاهرة.

كنَّا نطمح من هذا الخطِّ الحركيِّ الإسلاميِّ الّذي يرتكز على أساس عالميَّة الإسلام، وعلى أساس أسلمة العالم بالحكمة والموعظة الحسنة، أن يحلّ حالة العصبيّات في مجتمعات المذاهب الإسلاميَّة، ولكنَّني أخشى أن أقول إنَّ هناك ظاهرةً تجعل للحركيَّات مذهبيَّةً جديدةً ينفصل فيها بعضها عن بعض، تماماً كما هي المذاهب الإسلاميَّة.

لذلك، نحن نخاف دائماً من الصَّراحة، نحن نقول لا تتصارحوا لأنَّ هناك حساسيَّات في المجتمع، ولأنَّ هناك من يستغلّ كلمةً تحمل من الحساسيَّات ما يحرق السَّاحة، ولكن علينا أن نخطِّط للصّراحة، ألا نروي حديثاً نبويّاً شريفاً: "لو تكاشفتم لما تدافنتم"؟ المسألة هي أنَّ كلَّ واحدٍ منّا يخاف من المناطق الخفيّة في الآخر، والمناطق الخفيّة في واقعنا الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ هي التي تعقِّد واقعنا المُعاش.

لذلك، إذا كنّا نؤمن بأفكارنا، وإذا كنّا نصدّق، أو نريد للآخرين أن يصدّقوا أنّنا مخلصون، لماذا تكون كلّ المجاملات الكاذبة المنافقة أسلوبنا في التّخاطب؟!

إذا لم نجرح الواقع، فإنّنا لن نستطيع أن نصلحه، إنَّ مجاملة الواقع تخلق تراكماتٍ قد تدفن الواقع إذا ما كان يمتلك بعض الأصالة.

الوحدة ممارسة لا شعار
لو درسنا الواقع الإسلاميَّ على مستوى الوحدة في الدَّائرة الضيِّقة أو الواسعة، فإنَّنا نرى أنفسنا مشغولين بكلِّ شيءٍ إلا الإسلام.. ينطلق الحزب أو الحركة إسلاميّاً، لكنّ الإسلام يتحوَّل إلى حزبٍ وحركة، وينسى الحزب أو الحركة أو المنظَّمة الإسلام في داخلهم، ولا تعود القضيَّة أن يكبر الإسلام، بل أن يكبر الحزب والحركة والمنظَّمة والمرجعيَّة وما إلى ذلك، أن نكبر نحن لا أن يكبر الإسلام بنا مما ننتحرّك فيه!

ولذلك، لماذا تكثير كلّ هذه الطفيليّات في كلّ مواقفنا الفكريّة؟! لماذا لا يستطيع أحد أن يعطي فكراً يختلف مع الآخرين فيه؟ لماذا لا نتحدَّث بموضوعيَّة؟! لماذا تتحوَّل الاختلافات الفكريَّة إلى عداواتٍ وأحقاد، ولا تتحوَّل إلى حواراتٍ موضوعيّة؟ قلت إنَّني لست في موقع أن أوزّع الاتهامات على الواقع، لكن علينا أن نفهم الواقع إذا كنّا نريد إعادته إلى أصالته، وإذا كنَّا نخاف الله فيه، وإذا كنَّا نريد أن نتّقي الله.

ليست التَّقوى أن تصلّي جيّداً أو تصوم جيّداً، وإن كان ذلك من التّقوى، ولكن التّقوى أن يكون لك تقوى الفكر، وتقوى القلب، وتقوى الكلمة والموقف والالتزام. لنعترف أنَّنا متعصّبون ولسنا ملتزمين، ولذلك نحن نشارك في أن نبقي الإسلام في مواقعه، أو نتراجع به عن مواقعه، ربما نعطي الإسلام عنواناً كبيراً، شعاراً، صراخاً، ولكن عندما تنزل إلى الجامعة، فأين الإسلام فيها؟ وأين كلّ الحركات الإسلاميّة في صراع الفكر من مواقعه العلمانيَّة أو الإلحاديَّة، أو ما إلى ذلك؟!

إنّنا نريد الوحدة الإسلاميَّة للإسلام، لا نريدها شعاراً سياسيّاً، إنّنا نريدها للإسلام قوّةً توحِّد الفكر أو تقاربه، وتوحِّد المواقف أو تقاربها، لتنفتح على الآخرين من خلال كلمةٍ سواء، تنطلق لتتعاون مع كلمةٍ سواء، لأنّك عندما تنطلق مع الآخر لتتعاون معه أو لتتكامل معه في الكلمة السّواء، وأنت ممزَّق في قاعدتك، وهو ممزَّق في قاعدته، فالسؤال من يتعاون مع مَن؟

لذلك، علينا عندما ننتهي من هذا المؤتمر، أو من المؤتمر القادم، أو من المؤتمرات المتحركة هنا أو هناك، من مواقع ضيِّقة أو مواقع واسعة، علينا أن ننزل إلى الأرض، أن ننزل إلى قاعدتنا، أن نحدِّثها عن الوحدة الإسلاميَّة، أن نحدِّثها عن أنَّ الخلافات بين المسلمين يمكن أن تمثّل التنوّع الّذي يغني الإسلام، ونذكر لها أنَّ الخلافات بين المسلمين قد تكون ناشئةً من عدم فهم هذا لذاك، لأنّه لم يسمع منه، ولأنَّ ذاك لا يفهم من هذا، كما قال ذاك الشّاعر:

حكم النّاس على النّاس بما         سمعوا عنهم وغضّوا الأعينا

فاستحالت وأنا من بينهم          أذني عـــــينـــــاً وعينـــــي أذنــــاً

ما رأيكم في الَّذي يرى بأذنه ويسمع بعينه، كيف تتبدَّل الصّورة عنده؟

ليس المؤتمر هنا، ولكنَّ المؤتمر في كلِّ منتدياتنا، في كلِّ مساجدنا، في كلِّ نوادينا، في كلّ مواقعنا. إذا كنّا مؤمنين بالوحدة الإسلاميّة، وبأنها هي الّتي تعطي للإسلام قوّته، فإنّ علينا أن ننزل إلى القاعدة، وربما ترجمنا القاعدة الّتي ربّيناها على الطائفيّة وربّيناها على الحقد وعلى السبّ واللّعن.. ربما تنطلق القاعدة لترجمنا بالحجارة.

مسؤوليَّة وعي التّاريخ
علينا إذا كنّا مخلصين للفكرة، أن نعتبر الحجارة الّتي نُرمَى بها وساماً نفخر به ونعتزّ به، لأنَّ القضيَّة ليست أنَّ الوعي هو الّذي يرجمك، ولكن أنَّ التخلّف هو الّذي يرجمك، ونحن نعرف أنَّ التخلّف هو الّذي قام برجم الأنبياء والمصلحين والأولياء في التّاريخ. مشكلتنا أنّنا نعيش مع التاريخ.. عندما نريد أن نحكم على الشّيعة إذا كنَّا من السنّة، أو عندما نريد أن نحكم على السنَّة إذا كنَّا من الشّيعة، فكيف نفعل؟ نرجع إلى مؤلّفاتٍ كتبت قبل مئات السنين، وقد تكون المؤلَّفات تمثّل آراء أصحابها، وقد يكون فيها الغثّ والسَّمين، وربما يتطوَّر وعي النَّاس للمذهب عندما تمرّ مئات السّنين في ساحات الصِّراع ونظلّ نكرّرها.. نقرأها على أنّها الحقيقة الّتي تمثِّل هذه الفئة أو تلك، حتى لو قالت الفئة إنها ليست حقيقة، لأنَّه ربما نعمل من أجل التّنفيس عن عقدتنا، على أن نلبس الآخر ما نعتقد أنّه حقيقة حتى لو نفاها عن نفسه، لأنّ همنا ليس أن نكتشف الحقيقة، بل أن نسجّل نقطةً عليه، أصبحنا نمارس
لعبة الكرة الّتي يريد كلّ فريق تسجيل نقطةٍ على الآخر، ولكن بدون روحٍ رياضيّة.

علينا أن نلتقي وأن نتفاهم، أنا لست مع الّذين يقولون إنَّ علينا أن لا نتحاور في القضايا الأساسيَّة، بل إنّ علينا أن نقوم بذلك، لأنّ القضايا الأساسيَّة هي التي تمدّ القضايا التفصيليَّة بكلِّ هذا الحقد وبكلّ هذه العداوات، على أن ندرسها في دائرة علميَّة ترتكز على تقوى الله في الحوار، وعلى الموضوعيَّة والعقلانيَّة في التّفكير والأسلوب.

لقد أُلِّفت مئات الألوف من الكتب في ما اختلف فيه السنّة والشّيعة؛ كتابٌ هنا وكتابٌ هناك، ردٌّ هنا وردٌّ هناك، وردّ على الردّ هنا وهناك، ولم نتقدَّم خطوةً واحدة، لأنّ هذه الكتب في غالبيّتها، كانت تعمل على تسجيل النقاط، لا على تجميع النّقاط. ولذلك، لو أنّنا تابعنا مئات السّنين المقبلة بالأسلوب نفسه، لما وصلنا إلى نتيجة، لأنّنا نحدِّق بذواتنا، ولا نحدِّق بأخطار الواقع، نحدّق فيما هو خطرك عليَّ، وفيما هو خطري عليك.. والمهمّ عندنا أن نذبح الذّبيحة على القبلة، وأن نذكر اسم الله عليها، من أجل أن نأخذ شرعيّة هذه الذّبيحة، ذبيحة هذه الفئة من المسلمين وذبيحة تلك الفئة من المسلمين، ونحن نعرف أنّنا لم نذكر اسم الله عليها، ذكرنا اسماً زعمنا أنّه الله، ولكن ربما تختلف المسألة عندنا في الوهم بين الله والشَّيطان، نحن المسؤولون من الحركات الإسلاميّة، والمسؤولون ممن يتاجرون بالطائفيَّة في اللّعبة السياسيّة، نحمل جريمة الجيل القادم الَّذي نريد أن يكون على صورتنا في التعصّب والحقد والبغضاء واللاحوار، ونحن نعرف أنَّ هذا الجيل طاهر طيّب، بدأ ينطلق إلى الحياة في كلِّ هذا الصّراع الّذي بدأ يلفّ العالم.. وفي كلِّ هذه الأوضاع التي تريد أن تأكل كلّ شيء فينا.

لماذا لا نحافظ على طهارته؟ لماذا لا نعلِّمه أن يكون موضوعيّاً في التّفكير، وأن يكون عقلانيّاً في الحوار، وأن يكون إنسانيّاً في الرّوح وفي الأسلوب؟ لماذا نفرض عليه هذا التخلّف باسم الإخلاص للإسلام وأهله؟ ثم هذا الواقع الإسلاميّ؛ كم أدمنّا فلسطين وضاعت فلسطين وما حول فلسطين؟ وكم أدمنّا أفغانستان وتمزَّقت أفغانستان؟ وكم أدمنَّا هذه القضيَّة الإسلاميَّة هنا وهذه القضيَّة الإسلاميَّة هناك، وأعطيناها انفعالاتنا وعواطفنا، ونحن أمَّة تعوَّدت على البكاء على الأطلال، فالأدب العربيّ غنيّ بمراثيه، وغنيّ بكلمات التّشاؤم، أدمنّا ذلك والقوم يخطّطون، ونحن نهتف والقوم يحتلّون ونحن نتنازع، أذكر الشّاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان ببيتين من قصيدة كرّرتهما مراراً، عندما كان زعماء فلسطين يتنازعون العام 1936، وكان اليهود يخطِّطون، وكان الإنكليز ينسّقون، قال:

           أيّها المخلصون للوطنيّة          أيّها الحاملون عبء القضيّة    

           في يدينا بقيّة من بلاد           فاستريحوا كي لا تطير البقيّة    

وقد طارت البقيّة وما حول البقيّة، وبقينا نلهث حتى نحصل على بقية البقية، والظاهر أنهم لن يعطونا حتى بقية البقيّة، حتى لو هرول كلّ العرب نحو هذا القادم الجديد، لأنّه يعترف بالتّسوية، ولأنه يقبل بالدولة، ولكن في دولة بلا طعم ولا لون ولا رائحة، ولكن المهمّ أن تكون لنا دولة، حتى لو كان اليهود يملكون أمنها وسياساتها وماءها وكهرباءها، وحتى أرضها بطريقة من الطرق.

هل تريدون الإسلام؟!
مشكلتنا هي هذا السَّطح الّذي نطفو عليه، مشكلتنا أنَّ الكلمات تقعدنا تارةً وتقيمنا أخرى، والعالم يتعامل معنا بالكلمات، ونحن نقول إنَّ هناك انفراجاً، ونلهث وراء الانفراج، دون أن ندري أنّه السّراب، فمشكلة هذا السَّراب العربي وهذا السَّراب الإسلاميّ الّذي أعطيناه صفة العروبة والإسلام، أنّنا نلهث نحوه، حتى إذا جئناه لم نجده شيئاً، ووجدنا الله عنده، لكنّنا أغفلنا الله في البداية، ولم نحدّق في الواقع من خلال الله، لكنّنا حدّقنا في السراب.

قد يتحدّثون عن التطرّف عندما نتحدّث عن فلسطين كلّها، ولكن المؤتمر اليهوديّ الأوّل كان يتحدّث عن "إسرائيل كلّها" في فلسطين في سنة 1897، وبعد خمسين سنة، وفي سنة 48 بدأت فلسطين تتفكَّك، وبدأت "إسرائيل" تتوسّع، لذلك، إذا ضاق بنا الحاضر، فعلينا أن ننفتح على المستقبل، لا خيالاً نعيش فيه، ولا حلماً من أحلام اليقظة، ولكنّنا نعرف أنَّ هناك الكثير من عناصر الحاضر ربما لا تبقى عندما يأتي المستقبل.. فلنكن المستقبليّين الّذين نعيش مستقبلنا في حركة حاضرنا، لنتحمَّل المسؤوليّة، لنتحمَّل رسالتنا وقضيّتنا.

والسّؤال أيّها المسلمون من كلّ مذاهب المسلمين: هل تريدون الإسلام؟ أثبتوا ذلك، لا في شعاراتكم، هل تريدون الإسلام أم تريدون عصبيّاتكم وذاتيّاتكم؟ إنَّ العالم الآن يعلن حرباً على الإسلام، الّذي يسمّيه الإسلام الإرهابيّ، الإسلام المتطرّف، الإسلام المتشدّد، الإسلام المتعصِّب، ويختار من واقع المسلمين شيئاً من هنا وشيئاً من هناك، وعلينا أن نستعدَّ للمعركة، بأن تكون الوحدة الإسلاميَّة هي معنى الإسلام فينا، لا أن تكونوا شيعة ولا تكونوا سنّة، كونوا المسلمين الشّيعة والمسلمين السنّة، لأنكم إذا أغفلتم الإسلام في انتسابكم وبقيتم في المذهب، فإنكم تحوِّلون المذهب ديناً، حتى على حساب الإسلام.

لذلك، ليفكّر الشّيعيّ في إسلامه، وفي انتمائه إلى التشيّع، ليعرف موقع التشيّع من الإسلام، وليفكِّر السنّي في إسلامه، ليعرف موقع التسنّن من الإسلام، إنَّ السَّاحة تضمّ الكثير من التناقضات، وإنَّ الأفق يحمل الكثير من الانطلاقات. تعالوا من جديد لنلتقي بالواقع، ولننفتح على الرّسالة، لنعرف كيف نخطِّط لها في الواقع، لنتّق الله في إسلامنا وفي أمّتنا وفي حاضرنا وفي مستقبلنا، لنتَّق الله تقوى في العمق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.

قد نحتاج إلى أن نتذكَّر الآخرة، أن نتذكَّر الوقوف بين يدي الله، قد نحتاج إلفى أن نخشع لله، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، هل تريدون الجنّة؟ {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}.

ألقيت الكلمة في "مؤتمر وحدة الأمَّة الإسلاميَّة ومستقبلها"،
https://taghribnews.com/vdciwyappt1auz2.scct.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز