تاريخ النشر2017 24 October ساعة 10:11
رقم : 290130

الراحل فضل الله يدعو المغتربين الى حضور فاعل في ساحات التحدي

تنا
في رسالته إلى المغتربين، يقدِّم سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض) مزيداً من التّوجيه والإرشاد للمسلمين في بلاد الاغتراب، داعياً إيّاهم إلى وعي مسؤوليّاتهم والقيام بدورهم، وبما يقوي إيمانهم، ويعزز حضورهم في ساحات التحدي، وفي مواجهة كل الضغوطات التي تحاول إسقاط واقعهم، وتشويه هويتهم والتّأثير في انتمائهم .
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله (رض)
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله (رض)
 محمد عبدالله فضل الله
ويستشهد سماحته على ذلك بأمثلة حية من القرآن الكريم، ويتوقف عند معانيها، حتى يعكف عليها المغتربون ويتزوّدوا من دروسها بما يعينهم على أنفسهم، وبما يزيدهم ارتباطاً بدينهم وروحه، بحيث ينعكس مزيداً من الصبر والحكمة في دراسة خطواتهم، بشكلٍ يحفظهم ويحفظ وجودهم، ويعمل على تأصيله والسموّ به في كلّ الميادين.

بدايةً، يشير إلى أهميّة البيئة الاجتماعيّة التي يتربى فيها الإنسان، ومدى تأثّره بها، بما ينعكس على حضوره وعلى مواقفه وسير حياته، متناولاً نماذج من القرآن الكريم تدلّ على هذا المعنى، وكيف أن إرادة الإنسان وعزيمته وصبره ونظرته الثّاقبة ووعيه، تنجيه من السّقوط أمام المغريات، ومن الاهتزاز أمام الإغراءات، وهو ما يجعله أكثر صلابةً وقوّة وإيمان، عندما يخرج منتصراً على نفسه الأمّارة بالسّوء، ويصبح أكثر ثباتاً وقوّة وتأثيراً:

"إنَّ من الثابت قرآنيّاً أنّ للبيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الإنسان، أو يقضي شطراً من حياته فيها، آثارها الضّاغطة عليه، ما يتطلب جهداً استثنائيّاً في المقاومة والممانعة، وهذان مثالان من القرآن يوضحان كيف أنّ الإنسان إذا عاش في بيئة منحرفة، أو في تلك التي يضعف فيها دينه، فإنه يمكن أن يتحرّر من ذلك بتقوى الله التي تتمثل في حبّه والخوف والرّجاء منه، ففي قصّة يوسف(ع)، نراه في بيت عزيز مصر، بيت ملكيّ فيه ما تلذّ الأعين وتشتهي الأنفس، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة وسيلةً يتوسّل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها، كالملك والعزّة والمال. فهذه أسباب وأمور هائلة، لو توجَّهت إلى جبل لهدَّته، أو أقبلت على صخرة صمَّاء لأذابتها.

هذا مثل للرّجال. ويضرب مثل آخر للنّساء في امرأة فرعون (آسية بنت مزاحم)، فبالرغم من حياة البذخ والترف والأبهة، ومظاهر القصر الفرعوني الأخرى التي تمثل الدنيا بأبهى زينتها، ولا سيّما أنها سيّدة مصر الأولى، إلّا أنّها لم تقع  فريسة ذلك المتاع الزّائل، ولا المحيط الوادع المترف، فهي تطلب من الله أن يبني لها عنده بيتاً في الجنّة، وينجيها من فرعون وعمله، وينجيها من القوم الظّالمين، فقد اختارت جوار ربها والقرب منه، على أن تكون أنيسة فرعون وعشيقته، وهي ملكة مصر، وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها، على بيت فرعون الّذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتتمنّاه القلوب وما تقف عنده الآمال، فقد كانت عزفت بنفسها عمّا هي فيه من زينة الحياة الدّنيا، وتعلّقت بما عند ربها من الكرامة والزّلفى، فآمنت بالغيب، واستقامت على إيمانها حتى قضت".

يضيف المرجع السيّد فضل الله(رض)، بأنَّ هذين النموذجين يزوّدان المؤمن، وبخاصّة المغترب، بالصّورة المثلى التي لا بدّ من أن يكون عليها، من قوّة الإرادة في مواجهة الإغراءات، واختيار طريق الترفّع عن الانغماس في الشّهوات المنحرفة، بل التعفّف وجعل النفس عزيزة في رضا الله، لا أن تكون ذليلة في طاعة الشيطان:

" فهذان النموذجان يرسمان للنساء وللرجال على السواء صورة الإنسان المؤمن الذي يعيش في البيئة الغارقة في زينة الحياة الدنيا، لكنه يستعفف ويزهد ويحافظ على توازنه إزاء ذلك، مؤثراً رضا الله وما يدّخره لعباده الصالحين، فأوروبّا وغيرها من بلدان المهجر، حتى ولو كانت كما يصفها البعض على أنها جنان الله على الأرض، يمكن تشبيهها بقصر العزيز أو قصر فرعون الدّاعيين إلى الغواية والانحراف ونسيان الآخرة، لكن وعي يوسف وآسية وإيمانهما، وقفا سدّاً بوجه ذلك، ولم يستغرقا فيه أو ينجرفا مع تياره...".

وليست مقاومة المغريات والتحدّيات تعني، كما يفعل البعض، هروباً من الواقع واختيار العزلة والوحدة، بما يبعد الإنسان عن القيام بدوره في إعادة التّأثير بالواقع، والمساهمة بتشكيله من جديد على قواعد متينة وإيجابيّة، بما يبرز عمق الإيمان والارتباط بالله تعالى، وهذا يستدعي نشاطاً وحضوراً وفعالية من المؤمنين في بلدانهم ومغترباتهم على وجه الخصوص، أن يكونوا بغاية الحرص على التسلّح بلغة القوم الآخرين، كونها وسيلة ومفتاحاً أساسيّاً لا بد منه لفهم الآخرين وخلفياتهم وأفكارهم، إذ لا يمكن من دون تعلم لغة أهل البلدان التي يهاجر إليها المؤمنون، أن نؤثّر في الآخرين، أو أن نفهم ما يدبّرونه لنا، وحتى نصحّح الكثير مما يثيره هؤلاء في إعلامهم المغرض، من تشويهٍ للإسلام والمسلمين، وحتى يكون لنا رأينا الّذي يعبر عن هويتنا الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية والتربوية، بما يدلّ على خصوصية وميزة المجتمع الإسلامي، وما يحمل من ثقافة وفكر وسلوك:

"غير أنّ هذا لا يعني - بحال - دعوة إلى العزلة والانكماش عن المحيط الذي يعيش فيه اللاجئ، فالبرغم من أن عوائق الاندماج كثيرة، إلا أن دواعي نشر الدعوة إلى الإسلام، أن يكون المسلم حاضراً في السّاحة، الأمر الذي يستدعي تعلّم لغة القوم وإتقانها نطقاً وكتابةً، حتى يتسنى تحقيق الهدف المذكور.. لا بدّ للمسلم من ممارسة دور التّصحيح لما يبثّه الإعلام الغربي المناهض للإسلام، والمشاركة في إبداء الرأي، سواء كان في شأن سياسيّ يخصّ بلده، أو اجتماعي يتعلق بحياة المسلمين، أو أيّ شأن ثقافي أو تربويّ آخر". [كتاب "الهجرة والاغتراب"، ص 16 - 19].

في رسالته هذه، ينبّه سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) المغتربين إلى ضرورة وعي واقع اغترابهم، وما فيه من تحدّيات وضغوطات تحاول ضرب إيمانهم وإسقاط هويّتهم ومحاصرتها، وما عليهم من واجب التمسّك بإيمانهم، والتحلّي بالصّبر والإرادة والحكمة، بغية الثبات والحفاظ على دينهم وهويتهم، والانفتاح على واقعهم الجديد بكلّ همّة وإخلاص، والعمل على التأثير فيه إيجابياً، بما يبرز أصالة الهوية الإسلامية، وتقديمها بالطرق الحضاريّة الفاعلة التي تعبّر عن حيوية الإسلام في قيمه ومفاهيمه، على المستوى الحضاريّ والإنسانيّ العامّ، لأنّ التحدّيات كبيرة، وتتطلّب حسّاً عالياً بالمسؤوليّة، فلا بدّ من أن نكون الحاضرين في كلّ السّاحات، لنؤكّد إسهاماتنا فيها بالشّكل الإيجابيّ المؤثّر والفاعل.
https://taghribnews.com/vdcex78w7jh8ozi.dbbj.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز