تاريخ النشر2010 4 August ساعة 16:36
رقم : 22507

فرعونُ، وقُولا له قولاً ليّناً

لا بأس بل واجبٌ أنْ يسلك الدّعاة اليوم مع الكبراء، مسلك موسى عليه الصّلاة والسّلام مع زعيم القبط في أيّامه، بعد أنْ يتّجهوا إليهم ببرنامج مرسوم، يدعونهم إليه رجاء إصاختهم للحق، ويتدرّجوا معهم صنيعَ موسى في الأسلوب والمخطط، ولاسيّما ونحن نشهد اليوم الفساد يستفحل والظلم في المجتمع يتفاقم.
د. علي العتوم
د. علي العتوم

وكالة أنباء التقریب (تنا ) 
يقفز إلى ألسنة كثيرٍ من المنتسبين للدّعوة عند الحديث عن كبراء القوم اليوم وهم يُعرِضون عن الحقّ، ويعملون من الشّنائع ما يعملون، حيال دواعي الإنكار عليهم، قولُه تعالى لموسى وهارون عليهما الصّلاة والسّلام –وهو يرسلهما إلى فرعونَ لدعوته إلى الرّشاد–: (فقُولا له قولاً ليِّناً)، محاولين أنْ يكفكفوا مِن غرب من ينتقد أوضاع هؤلاء الكبراء، كي لا يَفرُط في نقده، ويتجاوز إلى ما قد تخشى عواقبه،
وبوصف أنّ هذا هو الأسلوب الأليق بالدّعاة عندما يخاطبون هذا الصنف من النّاس، وينكرون عليهم ماهم فيه من انحراف. وهذا حقٌ لأنّه أمر الله من جهة، ولأنّ المنطق يؤيّده من جهةٍ أخرى، ولاسيّما في ابتداء اللقاء بين الدّعاة وبين هؤلاء المستبدّين.
ولكنّني أقول لهؤلاء الكرام: هل وعينا حقّاً، حقّ الدّعوة علينا، فجعلنا لها في حياتنا نصيباً مفروضاً، يقوم به أفرادٌ أكفياء يصدعون بالحقّ عند هؤلاء الكبراء، طالبين ما عند الله من ثوابٍ لا ما عند النّاس من متاعٍ، ولو كانوا في الجِدَة كقارون أو في الزّعامة ككسرى بن هرمز، وبالشّعارِ نفسه الذي ينادي به أولئك الدّعاة، والأسلوبِ عينه الذي قرّره الكتاب الحكيم دون تخطّيه ابتداءً إلى غيره، ومن غير أنْ يشعر هؤلاء الدّعاة بأيّة غضاضةٍ نتيجة ذلك من آثارٍ عليهم أو على الفكر الذي يحملون، ودون أنْ يبحث الواحد منهم عن أيّة منافع شخصيّة جرّاءه.
ثُمّ ماذا كانت غاية هذه المقابلة من المبعوثَيْن الكريمين لأكبر حاكمٍ في الأرض، بل المُدّعي أنّه الإله الأعظم ولا إله غيره أو فوقه؟! هل كانت مقابلة مجاملة، أو مقابلة تعرّفٍ واستلطاف، أو مقابلة تكريمٍ وتأييد مع عبارات تقريظٍ وإطراء قد تتعدّى عند بعضهم لبعض كبراء هذا العصر، فحوى ظاهر قوله تعالى: (فقولا له قولاً ليّناً)، إلى درجةٍ قد يشمئزُّ منها هذا الكبير عينه لما فيها من إراقة ماء الوجه، وخاصّةً بعد أنْ أكرم الله النّاس بالإسلام الذي حرّرهم من التسلط، وبعد أن شهدوا سقوط الأيديولوجيّات الكبرى في هذا العالم، وتوجّه النّاس للإسلام منقذاً ومحرّراً؟!
لقد كانت غايتُها الدّعوةَ إلى الله، وإلى الله فقط بمضمونٍ أسمى إذا كان الأسلوب سامياً وهو كذلك، وبتحديدٍ دقيقٍ لا فضفضة فيه ولا استرخاء، يُضيع الهدف ويميّع المسألة، ودون أيّ استشعارٍ أمام عظمة الإيمان بخوفٍ من هذا الطّاغية أو استرهاب، وخاصّةً بعد طمأنة الله لمبعوثيه العظيمين أنّه معهما يسمع ويرى، ولن ينالهما أيُّ أذىً مِن فلتات يده أو لسانه. نعم، لقد أمر الله عزّ وجل رسوليه الكبيرين أنْ يخاطِبا هذا الطّاغية بالقول اللين، ولكنّ مضمون هذا القول كما جاء في كتب أهل العلم كان فجْأَهُ بالحقيقة النّاصعة، أنْ يشهد: أن لا إله إلا الله، فيسلم ويعبد الله وحده، ويترك ما عليه من تسلّطٍ وطغيان.
ثمّ ماذا كان بعدُ من أمر هذا الطّاغية وأمر هذين الداعيين الكريمين؟! هل سكت هو عنهما فوادعهما، أم سكتا هما عنه فوادعاه، واستمرّا على الطّريقة نفسها والعمل ذاته في معالجة موضوعه، أم تركاه وشأنه يسعى في الأرض فساداً، ويملؤها كفراً وإلحاداً، مُخلِدَيْن إلى السّكينة والهدوء؟! أجل، لقد قالا له في البداية قولاً ليناً، مدخلاً طيباً لدعوته إلى الله، علّه يستجيب فيترك ما هو عليه من ضلال، ويؤمن بالله وحده، كما جاء في سورة (طه)، هكذا: (اذهبا إلى فرعون إنّه طغى. فقولا له قولاً ليناً، لعلّه يتذكّر أو يخشى)، وبصيغةٍ أخرى قريبة في سورة (النّازعات) تؤكّد المضمون نفسه، وهي قوله سبحانه، مخاطباً موسى: (اذهب إلى فرعون إنّه طغى. فقل: هل لك إلى أنْ تزكّى. وأهديك إلى ربّك فتخشى)، أي تسلم فتطهر من الذّنوب وتشهد إن لا إله إلاّ الله. أمّا فرعون هذا الطّاغية المتجبّر فكان ردّه من الوقاحة بمكان، قائلاً في الأولى وهو غاضبٌ، يسخر ويتّهم، ويتهدّد ويتوعّد: (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى؟! فلنأتينّك بسحرٍ مثله). وفي الأخرى كان شأنه كما قال تعالى: (فكذّب وعصى. ثمّ أدبر يسعى. فحشر فنادى. فقال أنا ربّكم الأعلى).
وممّا ردّ به هذا الطّاغية على موسى بنفسيّة البجاحة عينها، قولُه، وهو يعلم من نفسه كذبها: (إنّي لأظنّك يا موسى مسحوراً)، أي مخبولاً ذاهب العقل فاسده. وهنا لم يسكت الدّاعية عن هذه الوقاحة وذلك التّجبّر، فقال له بأسلوبٍ مكافئ، بعد استنفاد أسلوب اللطف والرّقة: (وإنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً)، أي مصروفاً عن الخير مطبوعاً على الشّر، أو هالكاً خاسراً، أو مدمَّراً مغلوباً، أو مطروداً من رحمة الله ملعوناً، إذ لم يُجدِ في فرعون من موسى وأخيه ذاك الأسلوب اللطيف الذي قدّما به الدّعوة إليه، كما لم يمنع الدّاعيةَ الأكبر موسى عليه الصلاة والسّلام من أنْ يردّ عليه بعد استنفاد نهج اللين معه، بما ردّ به عليه وأنّه من أهل البوار والتّبار. وكذلك إعلانه بأنّه قد أوحي إليه من ربّه (أنّ العذاب على من كذّب وتولّى) أي على فرعون، خاتماً خطابه له، بالسّلام ليس عليه، بل على من اتّبع الهدى، وهو ليس منهم.
وهكذا استمرّ الطاغية على كفره وعناده، متّهماً الدّعاة زوراً وبهتاناً، حاشداً لمحاربتهم والتّنكيل بهم من كل صوب، واستمرّ الدّاعية على الدّعوة إلى الله مستجمعاً كلّ قواه معتصماً بربّه في معركةٍ كتب الله فيها النّصر لموسى وقومه، والخزي والخسران لفرعون وزمرته، وذلك في قوله: (وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا، ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون). وإنّني لأعلم جدّ العلم بالفارق أو الفوارق بين فراعنة اليوم ممّن نعايش وفراعنة الأمس، ولكنّني أقول: إنّ الحال كما تقول العامّة: مِن بعضه. فالزعيم الذي يدبر عن أمر الله اليوم، ولا يهمّه فساد الدين أو صلاحه، وعزّة المجتمع أو خنوعه، وضياع البلاد أو بقاؤها، اللهم إلاّ أمر مركزه، فماذا يفترق عن فرعون موسى وأضرابه؟!
وعليه، فلا بأس بل واجبٌ أنْ يسلك الدّعاة اليوم مع الكبراء، مسلك موسى عليه الصّلاة والسّلام مع زعيم القبط في أيّامه، بعد أنْ يتّجهوا إليهم ببرنامج مرسوم، يدعونهم إليه رجاء إصاختهم للحق، ويتدرّجوا معهم صنيعَ موسى في الأسلوب والمخطط، ولاسيّما ونحن نشهد اليوم الفساد يستفحل والظلم في المجتمع يتفاقم. كلّ ذلك يؤدّى دونما تنطّعٍ في دعوتهم أو تكلّف في العمل، ولكن مع العزيمة الصّادقة وبذل أقصى الوسع، وإلاّ كان الدّعاة آثمين بعيدين عن سمات الدّعاة الحقيقيّين، يختبئون لتغطية عجزهم وراء قوله تعالى (فقولا له قولاً ليناً)، راغبين بتبر المعزّ، راهبين نطعه، متعاونين مع هؤلاء الكبراء: منفّذين أو مشاورين أو حتى قاضين، ممّا كان ينفر منه الصالحون من سلف هذه الأمّة.
وعليه ثانيةً فإنّ الدّعاة اليوم مبتلون بحمل هذه الدّعوة العظيمة. فإمّا أنْ يكونوا جادّين لنصرتها مهما اعترض طريقها من عقباتٍ وعراقيل، فيفوزوا بدنياهم وأخراهم، وإمّا أنْ تكون الأخرى فيودّوا غير ذات الشّوكة، منتحلين شتى الأعذار في التقصير فيخسروا وتخسر دعوتهم. إنّ الدّعاة الحقيقيين هم من ينهضون لدعوتهم بكلّ قوّةٍ وتصميم معتمدين على الله الذي يكلؤهم ممّا يحذرون، كما كلأ موسى وأخاه، مقدّمين الأسلوب الأنسب. فإن أجدى، وإلاّ بحثوا عن غيره دون أن يركنوا إلى الرّاحة، أو مهادنة الظالمين. تحت وشوشات النفس أو وسوسات الشّيطان، فيهلكوا أو تهلك دعوتهم. وصدق الله العظيم: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النّار، ومالكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تنصرون).
د. علي العتوم
المصدر : السبيل الاردنية
https://taghribnews.com/vdchqmni.23nivdt4t2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز