تاريخ النشر2010 3 July ساعة 15:44
رقم : 20035

معالم النَّهضة العقليّة في الفكر الإسلاميّ

ويكاد الاتفاق ينعقد أنَّ القرآن الكريم سعياً وراء بقاء المُسلم في الموقف الوسط الذي يُميّزه عن سائر المواقف القلقة والنسبيّة، والمتأرجحة، يُقدّم ثوابت حقيقيّة تدفع المُسلم إلى العمل
الفكر
الفكر
وكالة انباء التقريب :
في مُحاوَلة، هي الأولى في التاريخ الإنسانيّ، أصبحَ الانتماء إلى الشَّريعة الإسلاميّة في نهاية المطاف الموافقة على الدخول في عملٍ مُبرمجٍ ومرسوم، وباتَ الإيمان بالله تعالى يعني التحقّق بالقناعات الكافية من جدوى هذا العمل، أمَّا التقوى فهي الطاقة الفذَّة التي تُشْعل مصباح الضمير فيظلُّ مُتألِّقاً ومتوهِّجاً حتى يغيب الإنسان في التراب ما دام يشعر في كلّ لحظة أنَّ الله تعالى يُراقبه وهو يُمارس هذا العمل أو ذاك، ثمَّ يأتي الإحسان لكي يضعَ المُسلم الحقيقيّ، في القمَّة، في المصافّ الأعلى حيث الإحسان، وهو الإبداع الكامل في كلّ ما يُقدّمه الإنسان، وإنَّ نداءً كريماً من رسوله الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام يذكّرهُ اللحظة تلو اللحظة أن الله يُحبُّ منه إذا عَمِلَ عملاً أن يُتْقِنه.
بهذه الرؤى، يرومُ الدكتور عماد الدين خليل تقديم مشروعه نحو إعادة تشكيل العقل المُسلم، حيث يؤكّد أنَّ الإسلام، منذ اللحظة الأولى، عملٌ تحريريّ، وعلى المستويات كافّة، فقد حرَّر المُسلمَ من الضَّلال والأوهام والطواغيت والأرباب، في نقلةٍ تصوّريّة واعتقاديّة كبرى، ثمَّ مارسَ تحريره من الجهل والخوف والأُميَّة وإلغاء الآخر، في نقلته المعرفيّة الجادّة، وصولاً إلى تحرير المُسلم من الخضوع للفوضى، والانحناء للصدفة العمياء، وتبصيره بقوانين العمل والحركة التي يسير الكون والعالم والتاريخ بموجبها، في نقلته المنهجيّة، ذلك أنَّ الشَّريعة الإسلاميّة تحضُّ المؤمنين على التسارع الحضاريّ: عملاً وإنجازاً، وإبداعاً مسؤولاً، وتعلن رفضها للكسل، والقعود، والاتِّكال، والعبور السَّالب للعالم دون تغيير أو إعمار، وهكذا يغدو الإنجاز الحضاريّ في الإسلام وسيلة إلى غاية أكبر دوماً، ويكتسبُ في الوقت نفسه قيما أخلاقيّة لا نجدها في سائر الحضارت تصدُّه عن استخدام طاقاته وقدراته في غير الطريق الذي تحتّمه الغاية النَّبيلة، والبعيدة، في طريق البناء والعلم والتقدّم.
ويكاد الاتفاق ينعقد أنَّ القرآن الكريم سعياً وراء بقاء المُسلم في الموقف الوسط الذي يُميّزه عن سائر المواقف القلقة والنسبيّة، والمتأرجحة، يُقدّم ثوابت حقيقيّة تدفع المُسلم إلى العمل والتألّق بدلاً من الزهد السلبي، والفرار من المواجهة مع الذات، ويؤكّد الدكتور عماد الدين خليل في كتابه "حول إعادة تشكيل العقل المُسلم" أنَّ الإسلامَ مَنَحَ أتباعه مفتاحين للخلاص، كلّما ضيّقت حركة التاريخ الخناق عليهم، ووجدوا أنفسهم يسيرون باتجاه مناطق العُزْلة والتَّبعيّة، وأول هذه المفاتيح: التغيير الذاتيّ، وثانيهما: الإعداد الذاتيّ، ومن دونهما لن تبدأ حركة صوب التقدّم إلى المواقع الأماميّة أبداً، وفي هذين المفتاحيْن مساحة واسعة تحتلّها مسألة إعادة تشكيل العقل المُسلم كشرطٍ أساسيّ للتحقّق بالتغيير الذاتيّ، والإعداد الذاتيّ على السواء.
وظاهرٌ -كما يرى الدكتور عماد الدين خليل- أنَّ تأكيد الإسلام لقانون التغيير يعني أن يمنحَ الإرادة البشريّة المؤمنة فرصتها في صياغة المصير، وفي التشبّث به، أو استعادته، إذا ضاعَ من بين يديها، وبعد ذلك يبدأ الاستعداد النَّفسي والروحيّ والعقليّ والأخلاقيّ من أجل إرادة العمل والتغيير، وليسَ ثمّة ما يقفُ في طريق امتلاك ناصية التغيير الذاتيّ أكثر من الرؤية التجزيئيّة، أو الموقف النصفيّ، لأنَّ الكثير من المُسلمين فهموا عملية التغيير بصورة مغلوطة، وتصوّروها مجرّد تجديد للتوثّب الروحيّ، أو إعادة التزام بحشدٍ من القيم الخُلُقيّة أو السلوكيّة التي دعا إليها الإسلام، وسوف نقع في الخطأ نفسه لو قلنا: إنَّ الحلَّ يكمن فقط في إعادة تشكيل العقل المُسلم، ذلك أنَّ التغيير الذاتيّ عملية شاملة تغطّي الطاقات البشريّة كافّة، وأيُّ تفكيكٍ في الرؤيّة، أو المواقف، يقتل المحاولة في المهد.
وإذا كان التغيير يتركّز بصورته الأولى على الذات المُسلمة في إعدادها الفرديّ، فإنَّ الإعداد الذاتيّ ينصبُّ على عموم المُسلمين، ولن يتحقّق الإعداد المطلوب ما لم تستيقظ طاقات المُسلم المُعاسر، ويُعاد تشكيل عقله، كما أراد له الإسلام أن يكون، من أجل استئناف عملية البناء الحضاريّ التي طال انتظارها، مُعتمداً على العلم أداة للتحقّق بسياج القوّة، ويذهب الدكتور عماد الدين خليل إلى أنَّ العلم الحديث ليسَ مارداً كافراً لكي نتبرّأ منه، وندعو لحربه، ولكنّه أداة حياديّة، يمكن توظيفها لخدمة حضارتنا، كما أنّّه ليسَ ابن الحضارة الغربيّة وحدها، لكي نتردّد في احتضانه وتنميته، فقد كانَ لحضارة الإسلام نصيبٌ وافرٌ في وضع دعائمه، وتصحيح مناهجه، وطرح الكثير من معطياته.
وفي السياق ذاته، يرى الدكتور عماد الدين خليل أنَّ الإسلامَ مَنَحَ المُنْتَمين إليه قدرات إضافيّة لتجاوز حيثيات الزمان والمكان، والتحقّق بالتوافق المنشود، كما أنَّ هذا الدِّين من خلال الطريق الذي رَسَمَهُ لهم، والذي يبدأ بالإسلام وينتهي بالإحسان، مروراً بالإيمان والتقوى، يدفع المُسلم المُعاصر نحو النهوض مرّة أُخرى، ويضيف: "إنَّ النَّاس في الأغلب الأعمّ، يمشونَ إلى أهدافهم، أو يهرولونَ إليها، ولكنَّنا هنا نجدُ أُناساً يركضون، لقد بعثَ الإسلامُ أجيالاً من العدَّائين الذين عَرَفوا كيف يُحطِّمون الأرقام القياسيّة، وهم يجتازون الموانع، ويقطعون المسافات الطوال، إنَّ القرآن الكريم نفسه يصفهم بأنَّهم: "يُسَارِعونَ في الخيْرات"، وأنَّهم: "لَهَا سابِقون"، وها نحن بصدد مؤشِّريْن للسُّرعة والإنجاز الذي يختزل ويُحقّق الأهداف: المُسَارَعة والسبق".
والإنسان المُسلم بمجرّد انتمائه الجادّ والحقيقيّ لهذه الشَّريعة، يضع نفسه وقُدُراته في سياقٍ واحد، وتوجّهٍ واحد، ويتحوّل إلى طاقة فذَّة في ميدان الفعل والإنجاز، وقدرة مُذْهِلة في مجال العطاء والإبداع، وشُعْلة متوهِّجة يمتدُّ إشعاعها إلى أعماق الذات فيُضيئها ويدفعها إلى آفاق العلم الذي يوضّح ملامح الطريق، ويومها -يقول الدكتور عماد الدين خليل- ينطلق المُسلم، فرداً وجماعة، بقوّة اختزالٍ مُدْهِشة لمواضعات الزمان والمكان والتراب، وصولاً إلى أهدافه الكبرى، إذ الشَّريعة الإسلاميّة جاءت كي تنقل الإنسان إلى السَّعة والعدل والتوحيد، هناك، حيث يجدُ العقل نفسه، وقد أُعيدَ تشكيله بهذه القيم، ويصبح قادراً على الحركة والفعل عبر هذا المدى الواسع الذي منحهُ إيّاه الإسلام، غير محكومٍ عليه بظلمٍ من سلطة فكريّة قاهرة تُرْغمه على قبول ما لا يمكن قبوله باسم الدِّين.
وأكثر منذ ذلك، يصرُّ الدكتور عماد الدين خليل على ضرورة أن يأخذ العقل المُسلم الجديد بتلابيب العلم والحريّة، ويحوّلها إلى تطبيقٍ وإبداع، وأنْ يجعل الزمنَ أساساً في مشروعه الحضاريّ لتحقيق النَّهضة واللحاق بركبها البعيد الآن، وربما السبق عليه، ما دامت قيم الشَّريعة الإسلاميّة تؤكّد بإلحاح فكرة التميّز والنموذج الصادق، وأنَّ المُسلم الحقيقيّ هو الذي يعرف كيف "يُسارع"، وكيف "يسبق"، والمفاتيح موجودة لدينا أولاً وأخيراً، ولن يكونَ بمقدور ألف سنة أُخرى من الاتِّكاليَّة، والجهل، وقتل الإبداع، أنْ تصنع المُعْجِزة، ذلكم هو التحدي الحقيقيّ، وهذه هي الإجابة لمن يسأل متى يستيقظ المُسلمون. 
 محمّد حليقاوي :  كاتب أردنيّ



https://taghribnews.com/vdcbsgb5.rhbgfpukur.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز