تاريخ النشر2015 15 April ساعة 20:12
رقم : 188811

حديث الإمام علي(ع) عن العصبية في خطبة القاصعة

تنا
العصبيَّة تمثِّل حالةً جاهليّةً يتحرّك فيها النّاس من خلال الذهنيَّة الجاهليَّة، الّتي لا تنظرُ في خلافاتها مع الآخر إلى الجانب القيميّ أو الجانب المضمونيّ، بل تنظر إلى الجانب الذاتيّ في مقابل الذّات الأخرى .
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
    
العلامة الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
 
  لا نزال نتحدَّث عن العصبيَّة كخطٍّ يرفضه الإسلام ويربطه بالجاهليَّة، من خلال تعبيره عنها بحميَّة الجاهليَّة، والَّتي إذا تحرّكت في وجدان الأمَّة، وتجذّرت في سلوكيّاتها، فإنها تؤدّي إلى نتائج سلبيَّة على كلِّ الواقع الإسلامي.
 
  وقد استطاعت العصبيَّة أن تحرّك السلبيَّات في علاقة المسلمين بعضهم ببعض، في الاختلافات المذهبيّة بين السنّة والشّيعة، بحيث تحوّلت لدى كلّ فريقٍ إلى حقدٍ داخليٍّ انفتح على حالةٍ من التَّدمير على مستوى العلاقات، وربما وصلت إلى أن يبغي فريق على فريق، أو يظلم فريق فريقاً، أو يكفِّر فريق هنا فريقاً هناك، وقد تمتدّ المسألة إلى أن يرفض البعض الأكل من ذبائح البعض الآخر، أو يحرّم الزّواج منه، وما إلى ذلك. 
 
  العصبيَّة في النّار
  ولم تقتصر المسألة على العصبيَّة المذهبيَّة في داخل الواقع الإسلاميّ، بل إنها امتدَّت إلى الواقع الدّيني بشكلٍ عام، فخلقت بين المسلمين وأهل الكتاب الكثير من الأوضاع النفسيَّة الحاقدة، الّتي جعلت كلَّ فريقٍ يسعى إلى مصادرة الفريق الآخر، وتحوَّلت أحياناً إلى سلوكٍ عدوانيّ يأخذ بالكثير من الوسائل والأساليب غير الإنسانيَّة. 
 
  وامتدَّت العصبيَّة في داخل كلِّ مذهب، بحيث إنَّ الخلافات في هذا المذهب أو ذاك، وصلت إلى حدٍّ يتعصَّب فيه هذا الفريق ضدَّ الفريق الآخر. ولعلّنا نلاحظ بعض الحالات الاجتماعيَّة، الّتي نرى فيها أنَّ شخصاً يُقلّد مرجعاً، ليس مستعدّاً لأن يتزوَّج امرأةً تقلّد مرجعاً آخر، كما هو الأمر لدى بعض المذاهب الإسلاميَّة السنيَّة، إذ إنَّ الأحناف لا يُجيزون التزوّج من الشَّوافع.

  وقد تمتدّ القضيَّة إلى المسألة السياسيَّة، عندما تتنوَّع الأحزاب في الواقع العربيّ، أو في الواقع الإسلاميّ، أو في الواقع الإنسانيّ في الشّرق كلّه، فنلاحظ أنَّ العصبيَّة الحزبيَّة قد تتطوَّر سلبيّاً إلى حالاتٍ عدوانيَّة، سواء كان في المناسبات السياسيَّة كالانتخابات، أو في غير ذلك من المناسبات.
 
  لذلك، فإنَّ العصبيَّة تمثِّل حالةً جاهليّةً يتحرّك فيها النّاس من خلال الذهنيَّة الجاهليَّة، الّتي لا تنظرُ في خلافاتها مع الآخر إلى الجانب القيميّ أو الجانب المضمونيّ، بل تنظر إلى الجانب الذاتيّ في مقابل الذّات الأخرى، وإلى التجمّع البشريّ في مقابل تجمّعٍ بشريّ آخر، وهذا ما جعل التراث الإسلاميّ يؤكِّد أنَّ العصبيّة في النار. 
 
  معالجة الامام عليّ(ع) للعصبيّة
  وقد عاش الإمام عليّ(ع) هذا النَّوع من سلبيّة الحركة العصبيَّة في أيام خلافته، ما دفعه إلى أن يعالج هذه المسألة بطريقةٍ وبأخرى، فقد ذُكِر في شروح نهج البلاغة، أنَّ ظاهرةً وجدت في الكوفة في آخر أيّام خلافة الإمام(ع)، حيثُ كانت الكوفة مجمعاً لقبائل عربيَّة مختلفة، وكان بعض شباب قبيلةٍ يذهب إلى المحلَّة التي يجتمع فيها رجال قبيلةٍ أخرى، ثم ينادي بشكلٍ استفزازيّ باسم قبيلته رافعاً الصَّوت، تماماً كما لو كان يفتخر بقبيلته ويظهر الاعتزاز بها في مواجهة القبيلة الأخرى، وذلك من خلال عصبيَّته لقبيلته الَّتي تحوَّلت إلى عصبيَّة ضدَّ القبيلة الأخرى.
 
  وكان هذا الأسلوب الاستفزازيّ يثير شباب القبيلة الأخرى، فكانوا يعملون على مواجهته وعلى الإيقاع به، ثأراً لعصبيَّتهم القبليَّة، فيعود إلى قبيلته صارخاً بأنَّ شباب تلك القبيلة ضربوه وواجهوه بالعنف وهدَّدوه بالسّيف، فتأتي قبيلته لتهجم على القبيلة الأخرى ثأراً لصاحبهم، من دون أن يسألوا كيف نشأت المشكلة، ومن هو الَّذي أساء وتحدَّى. وهكذا تنشأ الفتنة بين القبيلتين، انطلاقاً من هذه العصبيَّة الاستفزازيَّة الّتي
وجدت فعلها في هؤلاء الشّباب، وردّ فعلها في الشَّباب الآخرين. 
 
  يقال إنَّ هذه الحادثة استثارت الإمام عليّاً(ع)، فأراد أن يعالجها بطريقته الرساليّة، حيثُ كان يحاول في قيادته للمسلمين، الانفتاح على أيّة قضيّة سلبيَّة في الواقع الإسلاميّ، ليمنح المسلمين الثَّقافة الإسلاميّة النقيّة التي تحرّك في نفوسهم القيم الأخلاقيَّة المنفتحة على القيم الإنسانيّة والقيم الروحيَّة، وليعرّفهم النّتائج السلبيَّة المهلكة في ما يأخذون به من العصبيَّة التي لا تحمل أيَّ مضمونٍ إنسانيّ، بل إنَّها تنطلق في بعض الحالات من اللامضمون، أو من المضمون العدوانيّ الّذي يعتدي به فريق على فريقٍ آخر.
 
  وقد لفت الإمام عليّ(ع) الَّذين يعيشون هذه العصبيَّة النفسيّة الّتي قد تدفعهم إلى التّنفيس عمّا في نفوسهم تجاه ما يلتزمون به ويتعصّبون له، لفتهم إلى أن يعطوا عصبيَّتهم السلوكية مضموناً روحياً وثقافياً وإنسانياً، بحيث يتحرّكون من خلال خطٍّ فكريّ، لا من خلال فعلٍ عاطفيّ. 
 
  ثم تناول الإمام(ع)، وهو يوجِّههم، الحديث عن تاريخ من سبقهم من المجتمعات ممّن أخذوا بالعصبيَّة، فتحوَّلت عندهم إلى عدوان، منطلقاً من أنَّ للعصبيّة شرورها ونتائجها السّلبيَّة في حياة الناس.
 
  مصيدة إبليس الكبرى
  نقرأ في جزءٍ من خطبته الطّويلة المسمَّاة "القاصعة":
  "الله الله في عاجل البغي". إنّه يُطلق الاستغاثة تجاه البغي الَّذي يعاجل النّاس به بعضهم بعضاً، والبغيُ يمثِّل الاعتداء على النّاس من دون حقّ. "وآجلِ وخامة الظّلم"، أيْ النّتائج الَّتي تترتّب على الظّلم في حياة النّاس، باعتبار أنَّ له وباله وسوء عاقبته، سواء ضدّ المظلوم، أو حتى ضدّ الظّالم، في ما يمكن أن يطاوله من ردود الفعل، وضدّ المجتمع كلّه. "وسوء عاقبة الكِبر"، هذه الحالة السّلبيَّة الّتي تتضخَّم فيها شخصيَّة الإنسان من خلال عصبيَّته لنفسه، بحيث يرى نفسه فوق الآخرين، ويتصرَّف معهم على هذا الأساس، في حالة احتقارٍ لهم، منطلقاً ممّا يتصوَّره لنفسه في أنّه يملك بعض الميزات الَّتي لا يمتلكونها.
 
  "فإنَّها مصيدة إبليس العظمى"، أي هذه هي الآلات الَّتي يملكها إبليس عندما يريد أن يثير الفتن في حياة النّاس، "ومكيدته الكبرى"، الَّتي يكيد فيها لهم، من خلالِ المستكبرين من جهة، والظّالمين من جهة أخرى، والباغين من جهة ثالثة، ما يجعل المجتمع يعيش أوضاعاً صعبة، ويحوّله إلى مجتمعٍ ممزّقٍ متناثر متباعدٍ، تسود حالة العداوة بين أفراده. "الَّتي تُساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة"، أي الَّتي تتحرّك في قلوب الرّجال بما تزرعه فيها من الحقد ومن المشاعر المعادية، تماماً كما هي السّموم القاتلة الّتي إذا تناولها الإنسان فإنها تقتله. هكذا هي المشاعر السامَّة المعادية الحاقدة في تأثيرها الاجتماعيّ والنفسيّ في النّاس.
 
  "فما تُكدي أبداً"، الكدية ـ في اللّغة ـ الأرض الصَّلبة، وأكدى الحافر: إذا بلغ الكدية، فلا يُمكنه أن يحفر، ويُقال: حفر فأكدى، إذا بلغ إلى الصّلب. والمقصود بقول الإمام(ع) أنَّها لا تُردّ عن تأثيرها في الإنسان، "ولا تشوي أحداً"، أيْ لا تُخطئ المقتل، والشّوى ـ في اللّغة ـ اليدان والرّجلان من الآدميّين، وكلّ ما ليس مقتلاً. يُقال: أشواه الرّامي: أصاب شواه، أي الأطراف، لا مقتله. "لا عالماً لعلمه، ولا مقلاً في طمره"، أي في فقره، فهي تصيب الكلّ، فإذا أخذ بها العالم، فإنَّ علمه لا ينفعه، وإذا أخذ بها الفقير، فإنّه سوف يسقط أمامها. 
 
  دور العبادات في تهذيب النّفس
  ثم يحاول الإمام(ع) أن يوحي إلى النّاس أنَّ معالجة هذه الأمور، أي البغي والظّلم والكبر، قد وضع الله لها وسيلةً عمليَّةً واقعيَّةً فيما شرّعه من العبادات؛ فللصَّلاة دورها الأخلاقيّ الّذي يمهِّد للنفس الإنسانيّة السَّير في طريق التّقوى، وللصّيام دوره العلاجيّ فيما يمكن أن يعالج به الأوضاع النفسيَّة القلقة للإنسان، وللزكاة دورها فيما يمكن أن يفتح حياة الإنسان على الآخرين من الفقراء والمساكين. وبذلك، فإنّه يخلق في روحيَّة هذا الإنسان الكثير من القيم الأخلاقيَّة في ما يتحرّك به، من تشجيعه على العطاء والإحساس بحاجات النّاس.
 
  يقول(ع): "وعن ذلك ما حرس الله
عباده المؤمنين بالصّلوات والزّكوات ومجاهدة الصّيام في الأيّام المفروضات". وهنا نلاحظ إشارته إلى أنَّ الله يحرس الإنسان ويحيطه بحراسة روحيَّة أخلاقيَّة، من خلال الوسائل العمليّة المتمثِّلة بالصَّلاة وبالصّيام وبالزكاة. "تسكيناً لأطرافهم". ففي الصَّلاة، يقف الإنسان بين يدي الله في حالة استقرار وطمأنينة، وأطرافه هادئة وساكنة لا تتحرَّك ولا تعبث، ومن خلال سكون الأطراف في الصَّلاة، يحصل على الرّوح الهادئة الّتي تنعكس إيجاباً على سلوكه في المجالات الأخرى.
 
  "وتخشيعاً لأبصارهم"، فعندما يقف الإنسان في حالة خشوعٍ في صلاته، وعندما يتحسَّس موقفه الخاضع بين يدي الله سبحانه وتعالى، يخشع بصره كما لو كان يرى الله أمامه، لأنَّه إذا لم ير الله ببصره، فإنّه يراه ببصيرته وقلبه. "وتذليلاً لنفوسهم"، وذلك من خلال حالة الركوع وحالة السّجود التي تمثِّل حالة التذلّل للإنسان أمام الله سبحانه. "وتخفيضاً لقلوبهم"، أي أنَّه يبعد عن قلوبهم القسوة في حياتهم.
 
  "وإذهاباً للخيلاء عنهم"، لأنَّ الصَّلاة تمثّل حالة التَّواضع لله سبحانه وتعالى في موقف الإنسان بين يديه.
 
  ثم يُبيّن الإمام كيف يحصل الإنسان من خلال الصَّلاة على التذلّل وعلى الخشوع، فيقول: "لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضُعاً"، وذلك عندما يسجد الإنسان على التراب، فيعفِّر جبهته الّتي هي مظهر العزّة ومظهر العنفوان، وذلك تواضعاً لله تعالى، "والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً"، عندما يضع الإنسان جبهته ويديه على الأرض في أثناء السّجود، تصاغراً أمام عظمة الله سبحانه.
 
  "ولحوق البطون بالمتون من الصِّيام تذلّلاً". أمّا بالنِّسبة إلى الصّيام، فإنَّ الإنسان عندما يصوم، فإنّه يعيش الجوع حتى كأنَّ بطنه تلتصق بظهره. "مع ما في الزّكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر"، ما يجعل الإنسان الغنيَّ يُحسّ مع الفقراء والمساكين، ولا يستغرق في أنانيّة غناه، بل يتواضع لهم، ويخفض لهم جناحه، انطلاقاً من الأخوَّة الإيمانيَّة أو الإنسانيَّة. 
 
  والإمام(ع) يؤكِّد في هذا الحديث دور هذه العبادات في عمليَّة التّهذيب النفسيّ الأخلاقيّ، في جعل الإنسان يعيش التّواضع والتذلّل والروح الإنسانيَّة تجاه الآخرين، في ما ينفتح به على الله سبحانه وتعالى من هذه الوسائل.
  ثم يقول: "انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر"، أي أنَّ هذه الأفعال من صلاةٍ وزكاةٍ وصيام، تقمع الإنسان الَّذي يعيش حالات الفخر وحالات العنفوان، "وقدع طوالع الكِبر"، أي أنَّ هذه الأمور تجعل الإنسان لا ينفتح على ما يفرضه الكبر من شموخٍ بأنفه واحتقارٍ للآخرين. 
 
  منشأ العصبيَّة وعناصرها
  ثم يعالج الإمام مسألة العصبيَّة، ويتحدَّث عن عناصرها لدى الآخرين، حيث قد يتصوَّر بعض النّاس أنّ لها مبرّراً، في ما يتوهّمونه، أو في ما يُخدعون به من قبل بعض الناس الّذين يغشّونهم ويستغلّون بعض أوضاعهم السَّلبيَّة في ذلك. يقول(ع): "ولقد نظرت، فما وجدت أحداً من العالمين يتعصَّب لشيءٍ من الأشياء إلا عن علّة"، إذ إنَّ بعض النّاس يتعصَّب للنّسب، لأنَّه يتَّصل بنسبٍ عريق، وبعضهم يتعصَّب للمال، وبعضهم الآخر يتعصَّب للقوَّة، وآخرون يتعصَّبون للموقع الاجتماعيّ أو السّياسيّ، أو ما إلى ذلك من الأمور. 
 
  والإمام(ع) يقول إننا عندما ندرس القضايا العصبيَّة عند النّاس، نجد أنّها تنطلق من بعض العناصر الّتي قد يرى النّاس فيها مظهراً من مظاهر القوَّة التي تميّزهم عن الآخرين، "تحتمل تمويه الجهلاء"، أي أنَّ العصبيَّة إنّما تنشأ عن سببٍ يمكن أن يموِّه على الجهلاء ويخدعهم في ذلك، ليوحي إليهم بأنَّ ما يملكونه من هذه الإيجابيّات، يسمح لهم بأن يتعصَّبوا لأنفسهم، أو بأن يتعصَّب الآخرون لهم.
 
  "أو حجَّة تليط بعقول السّفهاء غيركم"، أي تتَّصل بعقول السّفهاء. فأنا أفهم منشأ العصبيَّات الموجودة عند النّاس الآخرين من خلال ما يزعمونه من عللٍ أو حجج، أمّا أنتم، فإنّني لا أفهم ما هي القاعدة الّتي تنطلقون منها في عصبيَّتكم، "فإنّكم تتعصّبون لأمرٍ لا يُعرَف له سبب ولا علَّة"، فعندما يذهب أحد
من قبيلةٍ ما، ليس بينها وبين القبيلة الأخرى مشكلة، وينادي باسم قبيلته، ويستفزّ القبيلة الأخرى تعصّباً لقبيلته، فما هي القضيّة التي يحاول أن يقتنع بها ويثيرها في هذا الاستفزاز وفي هذا المظهر من مظاهر العصبيَّة ضدّ القبيلة الأخرى؟ ليس هناك شيء في هذا المقام، لأنَّ القبيلتين لا تتحرّكان على أساس التفاضل فيما بينهما، ولا على أساس التَّغالب. ولذلك، فإنَّ الَّذي يحاول أن يتمظهر بعصبيَّته ضدّ القبيلة الأخرى، فإنّه ينطلق من فراغ.
 
  ويقول(ع): "أمّا إبليس، فتعصَّب على آدم لأصله"، فإبليس ـ كما ذكر الإمام(ع) ـ هو إمام المتعصّبين، باعتبار أنَّه تعصَّب لنفسه ضدّ آدم، لأنّه خُلق من نار بينما خُلق آدم من تراب، والنّار أقوى من التراب، "وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريّ وأنت طيني"، فقد قارن إبليس بين الأصل الَّذي خلق منه آدم، والأصل الَّذي خلق منه هو، فرأى أنَّ النار تُفني التراب، وأنَّها أقوى منه. وهذا منطق غير صحيح، ولكنَّه يمكن أن يموَّه به على الجهلاء، وأن يُخدَع به السّفهاء.
 
  "وأمّا الأغنياء من مترفة الأمم"، هؤلاء المترفون الَّذين يملكون المال، "فتعصَّبوا لآثار مواقع النّعم"، لما عندهم من مواقع النّعم، فيما يملكون من أموال نقديَّة وعقارات وما إلى ذلك، "فقالوا: 1{نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}"، فاعتبروا كثرة الأموال وكثرة الأولاد هذه تمنحهم قوّةً ليست موجودةً لدى الآخرين، لأنّ الآخرين يمثّلون القلّة من الأموال وفي الأولاد، بينما هم يمثِّلون الكثرة في ذلك كلّه. 
 
  التعصُّب المحمود
  وعلى هذا الأساس، لا بدَّ للإنسان العاقل من أن يُخضع أيّ سلوك من سلوكياته لقاعدةٍ تصلح أن تكون سبباً لعصبيَّته. يقول(ع): "فإن كان لا بدَّ من العصبيَّة"، وكأنَّ الإمام يريد أن يقول إنّه ليست للعصبيَّة قاعدة مقبولة، ونحن نرفض العصبيَّة، لأنّها تنطلق من حالة غضبيَّة تلتهب فيها مشاعر الإنسان وحواسّه، بالمستوى الّذي يحوّل العناصر الّتي يملكها إلى حركة عدوانيَّة ضدَّ الآخر، من دون أن يفكّر في النّتائج السلبيّة التي تسبّبها، ونحن نؤمن بالموضوعيَّة والعقلانيَّة، ونؤمن بأنَّ على الإنسان عندما يدرس العناصر المتمثّلة في شخصيَّته، والعناصر المتمثّلة في شخصيَّة الناس الآخرين، أن يدرس الأمور دراسةً موضوعيَّةً ودراسةً عقلانيَّة، ليعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقّه، ويعرف أساس التّفاضل بينه وبين الآخرين، وأنَّ وجود عنصرٍ من العناصر المميّزة له، لا يمنع من جود عناصر أخرى عند الآخر، لأنَّ الإنسان لا يملك كلَّ العناصر الإيجابيّة، بل يملك قسماً منها ويملك الآخر قسماً آخر، ما لا يجعل إنساناً يفضل إنساناً آخر بالمطلق، ولكن بطريقة نسبيَّة.
 
  لكن إذا كان لا بدَّ من العصبيّة لشيء، فهناك جوانب أخلاقيَّة، وجوانب قلبيَّة، وجوانب إنسانيَّة، وجوانب تتَّصل بالخطّ الإسلاميّ الّذي يرتكز على قاعدة التّقوى، فالتزموا هذه الخلال والصّفات. وإذا دخلتم في معترك الصِّراع بين هذه القيم الروحيَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة، ورأيتم الآخرين يحاولون بكلِّ ما لديهم من طاقة أن يرفضوها وأن يسقطوها، ففي هذه الحال، لا بأس بأن تتعصَّبوا لما لديكم، لأنَّ عصبيَّتكم تكون عندئذٍ ذات مضمون، لأنَّ هذا المضمون يرتفع بإنسانيَّة الإنسان، ويمكن أن يحقِّق للمجتمع الكثير من النّتائج الإيجابيَّة في سلامته وفي كلّ أوضاعه.
 
  "فإن كان لا بدَّ من العصبيَّة"، وهذا التَّعبير يختزن في داخله رفض العصبيَّة، لكن إذا قلتم بأنها قد تتحوَّل إلى حالةٍ اضطراريَّةٍ ولا بدَّ منها، فأنا أُعطيكم مضمون العصبيَّة، "فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور الّتي تفاضلت فيها المُجداء". مُجداء جمع ماجد، وهم أهل الشّرف وأهل الحسب، كما هو المصطلح اللّغوي، "والنّجداء"، الشّجعان "من بيوتات العرب" وقبائلها، "ويعاسيب القبائل"، اليعسوب هو أمير النّحل، فاستُعيرت كلمة اليعسوب لأمير القبيلة وأمير المجتمع، "بالأخلاق الرّغيبة"، الَّتي يرغب فيها الإنسان الَّذي يريد أن يرتفع بنفسه، "والأحلام العظيمة"؛ الأحلام يُراد بها العقول، "والأخطار الجليلة"، وهي الأشياء الَّتي لها شأن ولها قيمة، "والآثار المحمودة"2.
 
 
https://taghribnews.com/vdcgq79qqak9774.,rra.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز