تاريخ النشر2015 10 July ساعة 10:38
رقم : 197805

يوم القدس وأبعاد الوحدة الإسلاميَّة

تنا
يعتبر البُعد الاجتماعيّ لكثيرٍ من العبادات من مميِّزات التّشريع الإسلامي، في تأكيدٍ على أهمّيّة المظهر الإسلاميّ العامّ المستند إلى الرّابط الإيماني، بما يعزِّز عامل الوحدة بين المسلمين من خلال الارتباط بالله تعالى.
السيد جعفر فضل الله
السيد جعفر فضل الله

السيد جعفر فضل الله

 وعندما يكون الله تعالى قاعدة الوحدة الإسلاميَّة، فهذا يعني أنّها تنطلق من معايير ثابتة، وليست متغيّرة بتغيّر الزّمان والمكان.

في ما يلي، نحاول الإشارة إلى بعض خصائص أو أبعاد الوحدة التي ركّز عليها التّشريع الإسلامي:

أوّلًا: التّكرار، حيث يتكرَّر مشهد الاجتماع الإسلاميّ في اليوم الواحد خمسَ مرّات، وذلك في صلوات الجماعة والجمعة، ولهذا التّكرار فائدة التّثبيت لهذا المشهد العامّ، بحيث قد يصل الأمر بالإنسان إلى اعتبار المصلّين الآخرين جزءًا من إيمانه، وصلاتهم جزءًا من صلاته، وأجره الذي يحصل عليه على عبادته إنّما هو من خلال عبادتهم.

ثانيًا: الوحدة الفكريّة، حيث لا تمثِّل العبادات زادًا روحيًّا يعزِّز حضور الله تعالى في وجدان الإنسان المؤمن فقط، وإنّما تمدّه العبادة بالكثير من المضامين العقديَّة والفكريَّة الّتي تصبح فكر الجماعة الّتي تعيش تلك المضامين كجزءٍ من حركة إيمانها وعبادتها. هذا البُعد يقوم بعمليَّة تثبيت الوحدة الإسلاميَّة على قاعدةٍ فكريّةٍ صلبة، بحيث تتحوَّل إلى قناعةٍ ذاتيّةٍ لا تتأثّر بالعوامل الخارجيَّة؛ فحتّى في حالات انتشار العصبيَّات بين النّاس ونزوعهم نحو التمزّق والتفرّق، تبقى الوحدة هي القاعدة الّتي ينبغي العمل من أجلها.

ثالثًا: الوحدة المكانيّة. يقفُ الحجّ في أولى تجلّياتها العالميَّة، ويكفي فيه أن يكون مظهرًا من مظاهر الأمَّة الّتي تخترق كلَّ الجغرافيّات والأعراق والألوان والمذهبيَّات واللّغات، لتصل إلى مكانٍ واحدٍ لا يصحّ الحجّ من دونه، وقد اكتسب ذلك المكان خصوصيَّته من الأمر الإلهيِّ لإبراهيم (ع): {أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، وليأتي بعد ذلك الأمر الإلهيّ: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، في إيحاءٍ بأنَّ ذلك المكان يمثّل موقع القداسة العالميَّة للمسلمين، الَّذي يقصده المسلم للحصول على معنى الطّهارة الفكريَّة والرّوحيَّة والعمليَّة، فإذا خرج منه، خرج "كيوم ولدته أمّه".

إنَّ مظهر الوحدة في الحجِّ يكاد لا يدانيه مظهرٌ في الدّنيا كلّها؛ هو تجمّعٌ في منتهى التَّنظيم في مشهده العامّ، والّذي نظّمته التَّشريعات الإلهيَّة ليغدو عفويًّا طوافًا وسعيًا ووقوفًا ونفرًا وتضحيةً ورجمًا للشّياطين؛ كلّه باسم الله بعيدًا عن أسماء البشر.

من المهمّ أن نلتفت هنا إلى أهمّية البُعد المكانيّ والعالميّ لصلاة الجماعة أيضًا؛ لأنّنا بالخروج مسافةً مطلّةً على الأرض كلِّها، سنشهد اختلاف النّاس إلى المساجد حالةً مستمرّة على مدار السَّاعات الأربع والعشرين، على امتداد وجود المسلمين في بقاع الأرض، وهو حالة نظاميّة تتوجَّه نحو نقطةٍ واحدةٍ هي الكعبة، بيت الله العالمي، وبأداءٍ واحدٍ للصّلوات أيضًا.

المسجد هنا هو رمز الوحدة المكانيَّة، والّتي تتَّصل قبلتُها بالكعبة الّتي جعلت المسجد العالميّ، لتكون المساجد موضعًا للطهارة المحلّيّة في مسجد المحلّة، أو على مستوى الوطن في مسجد الجمعة الجامع.

رابعًا: الوحدة الزمانيّة. تتجلّى هذه الوحدة في أوقات الصّلوات الخمس، حيث يرتبط الإنسان - ولو صلَّى فردًا - بهذا الرّابط بالمصلّين الآخرين الّذين يقفون معه في تلك الأوقات في توجّههم إلى الله سبحانه وتعالى.

هناك زمانٌ أسبوعيّ يشكِّل رابطًا أشدّ، ومظهرًا أقوى من مظاهر الوحدة الّتي تجمع المصلّين في مكانٍ واحدٍ بأوسع من دائرة صلاة الجماعة العاديّة. هذا الزّمان هو يوم الجمعة.

وشهر رمضان هو من أهمّ الأزمنة السنويّة التي توحِّد الأمّة على امتداد شهرٍ، في جوٍّ عابقٍ بالإيمان، وبألوان الفيض الإلهيّ، والرّحمة الشّاملة.

خامسًا: الوحدة الدستوريّة، وذلك حيث يجمع المسلمون على كتابٍ واحدٍ، لا يختلف رسمًا ولا حرفًا في أيِّ نسخةٍ في كلِّ أنحاء العالم. وهذا الكتاب هو الّذي لم يفرّط فيه الله تبارك وتعالى من شيءٍ، وجاء تبيانًا لكلِّ شيءٍ، وهو الهدى الّذي يستضيء به المؤمن في شتَّى مجالات حياته. يمثِّل القرآن هنا المعيار الّذي تقيس عليه الأمَّة أفكارها، وتصحِّح من خلاله مفاهيمها، فهو بذلك يمثِّل قاعدةً توحيديَّةً للفكر الإسلاميّ، بما من شأنه أن ينعكس محوريّةً في حركة الثّقافة الإسلاميَّة الّتي يمكن أن تتنوَّع بتنوّع خصوصيَّات الشعوب، ولكنَّها تتحرَّك ضمن منطقٍ حضاريٍّ واحد.

يوم القدس مجمع الوحدات

استنادًا إلى كلِّ ما تقدّم، نطلّ على اليوم العالميّ للقدس الّذي أعلنه الإمام الخميني (ره) في آخر جمعةٍ من شهر رمضان، لنحدِّد عناصر الوحدة فيه، والتّأكيد - تاليًا - على أهمّيّته في تحقيق تعزيز عناصر الوحدة في الأمَّة.

في الزّمان، يحتضن يومَ القدس عنصران من عناصر الوحدة الزمانيّة للأمَّة التي أشرنا إليها أعلاه، وهما الجمعة وشهر رمضان، وبذلك يمكن اعتبار يوم القدس زمنًا توحيديًّا للأمَّة.

أمّا في ما يخصّ الوحدة المكانيَّة، فالأقصى الذي اكتسبت القدس معناها منه، يمثّل القبلة الأولى للمسلمين، وهو مسرى رسول الله، وعنده يلتقي تاريخٌ عريقٌ من حركة الرّسالات، وهو المكان المبارك هو وما حوله - بنصِّ القرآن الكريم -. وبذلك يصبح المسجد الأقصى بما هو مكانٌ، رمزًا مكانيًّا لوحدة المسلمين في كلِّ أنحاء الأرض.

ومن المهمّ الالتفات إلى أنَّ هذا المكان قد ارتبط برمز الوحدة المكانيَّة العالميَّة للمسلمين، والذي له فعاليّة في أساس العبادات، وهي الصّلاة والحجّ، إذ إنَّ ذلك المكان مثّل طرف الصلة بالمسجد الحرام، كما بيّن ذلك الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء، حيث قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، وبذلك لا نكون أمام إشكاليّة النّسخ في مسألة القبلة، ليُقال إنَّه بعد تحويل قبلة الصّلاة منه إلى المسجد الحرام، فإنّه لم يعد يمثِّل - كمكان - تلك الخصوصيّة! نطرح ذلك هنا، لأنَّ السّياق الّذي تتحرّك به الكثير من الحركات المتطرّفة في واقع المسلمين قد تنحو هذا المنحى، وتساهم في تدميره كما تدمِّر كثيرًا من المساجد والآثار تحت حجج شرعيَّة واهية!

وإذا كنَّا عرضنا للآية الأولى من سورة الإسراء، فإنَّ رمزيّة القرآن المشتركة والعالية لدى المسلمين، ستنعكس بالتالي رمزيّةً للوحدة في كلِّ مضامينه، ومنها ما له علاقة بالمسجد الأقصى، وارتباط ذلك - في وحي القرآن - بالموقف من "بني إسرائيل" الّذين دنَّسوا المسجد الأقصى، بما يتطلَّب رفع راية التّحرير له من قبل "عباد الله". والصّراع هنا ليس صراعًا دينيًّا، وإنّما هو صراعُ استكبارٍ وطغيانٍ من جهة، واستقامة وإنسانيَّة من جهةٍ أخرى، وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}، حيث المائز هنا هو ما تبعث عليه حالة الرَّهبة الّتي تذلِّل النَّفس أمام الله، فينعكس ذلك تواضعًا وإنسانيَّةً في حركة الإنسان مع الإنسان، بينما كانت العداوة لدى أولئك اليهود والمشركين ناشئة من انعدام هذا الجانب، بما انعكس استكبارًا وقساوةً في القلب.

في كلّ الأحوال، يمكن لنا أن نرى هنا كيف يمكن لعوامل الوحدة الزّمانيّة والمكانيّة والدستوريّة - إذا صحَّ التّعبير - أن تلعب دورًا أساسيًّا في تزخيم يوم القدس العالميّ بهذا البعد الوحدويّ المتعدّد الأوجه.

لكنَّ علينا أن نشير أيضًا إلى البُعد السياسيّ في الوحدة، انطلاقًا من المبادئ الّتي يلتزمها المسلمون جميعًا تجاه الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، ولا سيَّما في حالات الاحتلال للأرض، والعمل من أجل الفتنة وإزهاق الأرواح وهتك الأعراض، ممّا يمارسه العدوّ الصّهيوني بكلِّ وحشيّةٍ وحمايةٍ من كثيرٍ من الدّول الكبرى والنَّافذة، متفلّتًا من كثيرٍ من القوانين الدّوليَّة والأعراف الإنسانيَّة والدّساتير الأخلاقيَّة. هنا يكتسب يوم القدس العالميّ دلالةً على قضيَّةٍ سياسيَّةٍ هي من أوضح القضايا حقّانيّةً في هذا العصر، وفي الوقت عينه، هي من القضايا الّتي يُعمَل على طمس معالمها، وضرب قواعدها، وقلب حقائقها، من الخارج وكثيرٍ من الداخل - مع كلّ أسف -؛ كلّ ذلك يجعل من رمزيّة يوم القدس للقضيَّة، لا للمدينة أو المسجد فحسب، قضيّةً مركزيّةً للأمَّة، تتوجَّه من خلالها إلى عدوٍّ مشترك، لا يعنيه من تمايزات الأمَّة مذهبيًّا وسياسيًّا سوى ما يخدم مصلحته في ضرب الإسلام وواقعه بين المسلمين. هل ثمّة من يعتقد اليوم أنَّ كيان العدوّ الذي يواجه المقاومة "السنّيّة" في فلسطين، والمقاومة "الشيعيّة" في لبنان، والّذي ارتكب المجازر بالمسلمين "السنّة" في مصر أو غيرها في العقود الماضية، يمكن أن يكون - هذا الكيان - صديقًا لهذا المذهب أو لذاك؟! وقد بات واضحًا وضوح الشَّمس، أنّ له أيادي في كثيرٍ من الهجمات على الإسلام كدينٍ، وعلى محمَّد (ص) كنبيٍّ وشخصٍ، وأنّه ما زال يعيش عقدة معركة الأحزاب، وظهور الإسلام في الجزيرة العربيَّة، وتحوّل مقاليد القيادة الدّينيّة من أحبار اليهود إلى نبيّ الله محمّد (ص) والمسلمين من بعده، وأنَّ الممارسات الّتي كان اليهود يحاولون من خلالها أن يضربوا قدسيَّة القرآن، وأن يحرِّفوا بها الكلم عن مواضعه، وأن يدسّوا في روايات السنَّة الشَّريفة الكثير ممّا اصطلح عليه بالإسرائيليَّات، هي نفسها الممارسات الّتي يمكن أن نلمحها اليوم عبر الدّسّ والتّزوير وخلق الفتن وتحريك الأجهزة الخفيَّة والضَّغط على الحكومات ومواقع القرار الدّولي وما إلى ذلك، بهدف ضرب هذه القوّة الإسلاميّة أو تلك، وإشاعة الفوضى في العالم الإسلاميّ، وما إلى ذلك ممّا نرى أنَّ من السّذاجة أن لا يتنبّه المرء إليه.

وأخيرًا، نحاول التَّأكيد على الإشارة القرآنيَّة بأنَّ بيت المقدس هو عنوان معركةٍ مستقبليَّةٍ،  يبدو من الوقائع ومجريات السياسة العالميَّة أنَّ نتائجها تطال النِّظام العالميَّ ومنظومة القيم الّتي ينبغي أن تسود بين الدّول؛ إذ يكاد "كيان العدوّ" يمثِّل الكيان الوحيد في العالم الّذي يتحرَّك بصلافةٍ ضدَّ كلِّ القيم والأعراف والقوانين الدّوليَّة، ويؤثّر في كثيرٍ من الدّول عبر التحكّم بمفاصل الاقتصاد، وتشكيل جماعات الضّغط في أكثر من دولةٍ كبرى؛ الأمر الّذي يوحي بأنَّ وجهًا من وجوه خلاص العالم ممّا هو فيه، إنّما يمرّ بما أشار إليه الله بقوله: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً}.
https://taghribnews.com/vdcjyaeviuqehoz.3ffu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز